ولكن تلك الحرب بلورت حلفاً صينياً ــ روسياً يبدو أنه قد شجّع إيران على أن تكون ثالثته، وخاصة بعد أن فشلت مفاوضات فيينا لإحياء الاتفاق النووي بين واشنطن وطهران في الخريف الماضي. وهناك مؤشرات على أن الحرب الأوكرانية التي زادت من تقاربات موسكو وأنقرة وباعدت بين تركيا والولايات المتحدة قد جعلت إردوغان يكون قاب قوسين أو أدنى من أن يكون رابع ذلك الحلف، وخاصة بعد عروض بوتين بالخريف الماضي لجعل تركيا المركز الوحيد لتوزيع الغاز الروسي إلى أوروبا، وهو ما كاد لولا الزلزال الأخير أن يترجم في تسوية روسية ــ إيرانية بين أنقرة ودمشق. ولا يُعرف حتى الآن إن كان الزلزال سيكون مساعداً على هذا المسار في طريق موسكو ــ أنقرة ــ دمشق أم أن الانتخابات التركية القادمة، التي ستكون حظوظ إردوغان فيها أقل مما كان الوضع قبل الزلزال، هي التي ستقول القول الفصل في هذا المجال. هذا أنشأ معسكراً عالمياً، على الأقل بين بكين وموسكو وطهران، لم يكن موجوداً قبل عام مضى، يمكن القول بأنه رغم كونه لا يملك أيديولوجية واحدة، كما كان الوضع بين موسكو وبكين بين عامَي 1949و1960 قبل انفجار الخلاف الصيني ــ السوفياتي، ولكنه يملك مصلحة مشتركة في عالم متعدّد الأقطاب ينهي القطبية الأحادية الأميركية للعالم القائمة منذ عام 1989، بعد انتصار البيت الأبيض على الكرملين في الحرب الباردة بين عامَي 1947و1989. وهو يبدو متناغماً في العدائية لواشنطن، وقد وصل إلى مرحلة اللاعودة بحيث لا تستطيع الولايات المتحدة كسره أو تفريقه عبر إغراء أطراف من هذا الحلف بتركه مقابل مكاسب معينة. بالمقابل، قادت الحرب الأوكرانية إلى تشكيل حلف بزعامة الأميركان يضم حلف «الناتو» واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، وهذا الحلف هو الذي يستخدم أوكرانيا والأوكرانيين من أجل ما قاله بوتين قبل شهرين عن «إضعاف الاتحاد الروسي وتقسيمه»، وهم يريدون تطويل الحرب التي تحولت إلى حرب بالوكالة عبر الأوكرانيين عن ذلك الحلف ضد موسكو.
هناك تهزهز لنظام القطب الواحد الأميركي للعالم من خلال نشوء معسكر عالمي مضاد ويجب أن يُضاف أنّ هذا التهزهز لا يعني الانهيار
عملياً، قاد هذا التبلور للحلفين في عالم ما بعد 24شباط 2022 إلى إنشاء وضع من المجابهة العالمية بينهما. هناك ساحة مشتعلة بفعل تلك المجابهة هي أوكرانيا، وهناك مناطق توتر تترجم فيها هذه المجابهة مثل بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان بين بكين وتايبيه وبين واشنطن وبكين. وتوتر الكوريتين والتوتر بين الصين واليابان قد زاد على إيقاع هذه المجابهة، وتجري هناك زيادة للقواعد العسكرية الأميركية في الفليبين ومحاولات استقطاب أميركية لإندونيسيا التي تربطها روابط اقتصادية قوية مع الصين. وليس بعيداً أن يقود هذا التّجابه العالمي بين المعسكرين أن ينعكس على بلدان توجد بها أزمات مشتعلة مثل سوريا ولبنان وليبيا واليمن، بحكم وجود نفوذ أميركي وروسي وإيراني في تلك البلدان أو نفوذ لبلدان مثل السعودية في اليمن أو لبنان، يمكن أن تستغل فشل إحياء الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة، من أجل وضع طهران في الزاوية الضيقة. وهو مثلاً ما يلاحظ أخيراً من خلال ازدياد الضربات الإسرائيلية الجوية لمواقع إيرانية أو حليفة لإيران في الأراضي السورية في استغلال من تل أبيب لفشل مفاوضات فيينا. كما يلاحظ كيف ينتقل التّجابه الروسي ــ الأميركي إلى القارة الأفريقية، وهو أمر غير مسبوق في عالم ما بعد عام 1989، في بلدان مثل مالي وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى. وربما هذا يُترجم في أميركا اللاتينية من خلال ظواهر مثل الرئيس البرازيلي الجديد لولا دا سيلفا التي ولّدت مجموعة «البريكس» في بلده عام 2009 وأثناء ولايته الرئاسية السابقة.
بصورة إجماليّة، هناك تهزهز لنظام القطب الواحد الأميركي للعالم من خلال نشوء معسكر عالمي مضاد. صحيح أنه لا يشترك مع موسكو مباشرة ضد الحلف المضاد الذي يشترك عملياً في تلك المجابهة عبر السلاح والمال للأوكرانيين وعبر العقوبات الاقتصادية والمالية على الروس، ولكنه يقف سياسياً مع روسيا، وهو، من جانب الصين وإيران وبالطبع الروس، على جبهة سياسية واحدة ضد واشنطن في مطلب رئيسي وهو «إنهاء القطب الواحد». يجب أن يضاف أن هذا التهزهز لا يعني الانهيار، بل نرى أن معسكر «الناتو» ــ اليابان ــ كوريا الجنوبية ــ أستراليا ما زالت له كلمة قوية في المعركة الأوكرانية وفي الاقتصاد وفي التكنولوجيا. وهذا التهزهز يمكن أن يتحول إلى انهيار للقطب الواحد الأميركي إن فرض بوتين شروطه بالحرب الأوكرانية. ويبدو أن الأميركان يريدون إنهاك وهزيمة الروس في أوكرانيا وليس التسوية معهم انطلاقاً من إدراكهم لذلك ومن إدراك أن هزيمة بوتين في أوكرانيا تعني هزيمة أيضاً لأطراف الحلف الصيني ــ الروسي ــ الإيراني الأخرى وتفكّكه.
* كاتب سوري