منذ بدء الأحداث في سوريا وبروز مدى الترابط العضوي بين مكونات سوريا الطبيعية بالإضافة إلى العراق، ترسخ مفهوم الفضاء المشرقي كحقيقة جيوسياسية موضوعية.كان لحزب الله باعتباره حركة مقاومة فاعلة في هذا المشرق من جهة، وحليف وثيق لمركز النسق الاستقلالي التحرري في المنطقة في الدولة الوطنية المقاومة في سوريا من جهة اخرى، الفرصة التاريخية «للتموضع المباشر» في سياق الصراع الوجودي مع أدوات المشروع الأميركي الوظيفية الصهيونية والتكفيرية من موقع الطرف الذي يتعدى فائض قوته المدى «الوطني اللبناني الضيق» إلى مدى الفضاء السوري الطبيعي.

عبارة «التموضع المباشر» تحيلنا هنا على دور حزب الله الفعال والحاسم في المنطقة قبل الأحداث في سوريا، ولكن غير المنخرط في ميادين الصراع مع المشروع الأميركي بصفة جلية وواضحة، والمرتبط أساساً بإدارته للصراع مع هذا المشروع من خلال الجغرافيا التي يتحرك من خلالها، كما في فلسطين في مواجهة الكيان الوظيفي الصهيوني بتوفير كل أسباب الصمود والمواجهة للمقاومة الفلسطينية (تدريباً وتسليحاً) بالتنسيق مع حلفائه في سوريا وإيران منذ انتفاضة الأقصى 2000 إلى حرب غزة 2008-2009 و2012، أو في مواجهته لهذا المشروع من خلال قوته العسكرية نفسها كما في دوره في العراق الذي لا يستطيع أي باحث موضوعي إلا أن يتلمس دوره الناجع في تحقيق نصر استراتيجي على هذا المشروع الإمبراطوري الذي كانت له تداعيات استراتيجية كبرى، بعيداً من التعتيم الممنهج لوسائل الإعلام العربية الممولة من الرأسمال الخليجي والتي تلاعبت بالعقول لتصنع مشهداً مختزلاً وتبسيطياً للحالة العراقية بعد الاحتلال قوامه شيعة وأكراد حلفاء للاحتلال وسنة مقاومون له. ومن نافل القول التأكيد هنا أن محور المقاومة نفسه يتحمل قدراً من المسؤولية في ترسيخ هذا المشهد في أذهان بعض النخب، ناهيك عن عامة الناس لجهة تعاطيهم مع قضية كبرى بحجم دعم المقاومة الفلسطينية والعراقية بالخصوص - التي حققت نصراً استراتيجياً بتداعيات دولية مفصلية دفعت بالمشروع الأميركي الإمبراطوري إلى سكة بداية الأفول - بمنطق العمل الأمني السري وليس بمنطق المشروع المقاوم الكبير الذي تستثمر نتائجه على المستويات الإقليمية والدولية. لذا كان علينا انتظار بداية الأحداث في سوريا لنعرف وعلى لسان السيد نصر الله، مدى الدعم السوري لحزب الله الذي تجاوز الدعم السياسي أو منطقة عبور للسلاح الإيراني كما كان يتداول إعلامياً إلى التسليح بكل ما تجود به الصناعة العسكرية السورية.

عبارة «التموضع
المباشر» تحيلنا على دور
حزب الله في المنطقة
قبل الأحداث في سوريا

ناهيك عن الاستعداد للانخراط المباشر في الحرب (حرب 2006 نموذجاً)، أو للمقاومة الفلسطينية الذي تعدى الاحتضان الإعلامي والسياسي لقياداتها في دمشق إلى الشراكة المباشرة في كل مواجهاتها مع الاحتلال الإسرائيلي. كما عرفنا منه، وبتصريح مقتضب في احد الخطب، يتماهى مع التلميح عن الدور الحاسم لسوريا في دعم المقاومة العراقية. كلمة «حاسم» على لسان من هو معروف بمصداقيته وبوزنه للكلمات تدل على انه لم يكن يقصد يقيناً ما قيل عن «غض طرف سوري» عن تدفق المقاتلين إلى العراق لقتال الاحتلال الأميركي، وإنما لمّح لدور أكثر فعالية ربما لم يحن الوقت من وجهة نظره للخوض في تفاصيله. إن تجميعاً بسيطاً لبعض المعطيات المتوافرة سواء من خلال الأداء الميداني والسياسي والإعلامي لبعض الفصائل التي أجمعت التقارير الأميركية الإعلامية والعسكرية وشهادات القادة العسكريين الأميركيين (بترايوس نموذجاً) أن لها دوراً ناجعاً وفعالاً في إطار المواجهة النوعية مع الاحتلال الأميركي، وعلى رأسها كتائب حزب الله في العراق أو من خلال بعض الكلمات التي أدلى بها السيد نصر الله بخصوص المقاومة العراقية، وتحدث من خلالها عن فصائل بعينها وعن ظروف قتالها الصعبة بلغة العارف ببواطن الأمور أو حتى من خلال حوادث لم تلق زخماً في الإعلام كاعتقال سابق لمن قيل انه عضو بارز في حزب الله، وهو يؤدي مهمات دعم قوى مقاومة عراقية (علي موسى دقدوق) تأكد لنا بما لا يدع للشك سبيلاً أننا أمام دور بارز لحزب الله في مقارعة الاحتلال الأميركي في العراق، وصولاً إلى إلحاق الهزيمة الكبرى به.
إلا أن الأحداث في سوريا التي كانت في الأساس هجمة امبريالية شرسة على الدولة الوطنية السورية من داخل «أسوارها» هذه المرة، ومن خلال القوى التكفيرية التي قبلت بالدور الوظيفي الذي أنيط بها لتدفيعها أثمان إلحاقها الهزيمة بالمشروع الإمبراطوري الأميركي (الشرق الأوسط الكبير) في بوابتيه الغربية (لبنان) والشرقية (العراق) وفق تعبير السيد نصر الله، فرضت على الحزب الانخراط المباشر في المواجهة بتأكيده التموضع في السياق الشامل للصراع مع أداتي المشروع الامبريالي الأميركي الوظيفيتين إلى جانب سوريا كرائدة للنسق التحرري الاستقلالي المعادي لهذا المشروع. دخول الحزب المباشر وبهذه الصفة الجلية غير المواربة إلى سوريا جاء وفق رؤية استراتيجية قائمة على نظرية امن قومي يعاد إنتاجها بصيغة مستجدة بحسب مستلزمات الصراع الحالية التي فرضت على سوريا كدولة مقاومة القتال من داخل «أسوارها». نظرية امن فضاؤها سوريا الطبيعية والعراق وغطاء إقليمي إيراني ودولي روسي. جاء دخول الحزب سوريا وفق خطاب متدرج بدأ من حماية اللبنانيين الموجودين داخل سوريا على الحدود اللبنانية من منطلق التزام مقاومة وطنية حماية مواطنيها ثم الانتقال إلى حماية المراقد المقدسة من الاستهداف من منطلق المعرفة بالبنية الفكرية الناظمة للمشروع الأميركي (والذي يشكل الاقتتال السني ــ الشيعي محور مضمونها والذي كان سيقع حتماً كما دلت التجربة في العراق لو تحقق ذلك الاستهداف) وصولاً إلى الصياغة الجديدة لنظرية امن قومي مشرقية عنوانها بتعبير السيد «سنكون حيث يجب أن نكون»، وهو العنوان المفصلي في سيرورة هذا الصراع القائم في سوريا والمشرق، والذي يعني بداية إسقاط الجغرافيا السياسية التي فرضها الاستعمار على سوريا الطبيعية بأن قسمها إلى أربعة كيانات وزرع كياناً وظيفياً في قلبها. وهو تأكيد على «الهوية السورية المجروحة» والتي منعها هذا الاستعمار من تحقيق كينونتها الوطنية والانتظام في دولة ــ امة موحدة وناهضة. لقد حوّل الحزب، مسار الحرب على سوريا الذي أريد له من خلالها أن تكون فرصة لعزله عن مركز الدولة المقاومة في دمشق، إلى فرصة تاريخية للبروز كطرف أساسي يحرك فائض قوته في اتجاه مجاله الحيوي باعتباره جزءاً من سوريا الطبيعية ولا يمنعه موضوعياً، إن هو أراد وفق قراءته لمسار الأحداث وتطوراتها التحرك في العراق بشكل مباشر (كما ساهم بنجاعة في تحريره بصورة غير مباشرة) كجزء يترابط عضوياً مع سوريا في الفضاء الجيوسياسي المشرقي، دخوله في مواجهة وجودية مع القوى التكفيرية كأداة وظيفية للمشروع الأميركي في سوريا والتي تتمدد في العراق من خلال الظاهرة الداعشية التي تفرض عليه موضوعياً إدارة الصراع وفق الحاجة الميدانية لحضوره من غير أي اعتبارات قد تكون شكلت عائقاً ما في مرحلة ما قبل الأحداث في سوريا، إضافة إلى صراعه الصفري البنيوي مع الكيان الوظيفي الصهيوني الذي يدخل مضمون هذا العنوان المفصلي. «سنكون حيث يجب أن نكون» هو التعبير الجلي عن التحول الجذري في مسار الصراع مع المشروع الأميركي المحرك لأدواته التكفيرية والصهيونية يصبح معه ميدان الاشتباك داخل الفضاء الجيوسياسي المشرقي كله ويكون التحرك الميداني فيه وفق ما تقتضيه الظروف التي يحددها الحزب وحلفاؤه، تتجاوز الصورة التقليدية عن مقاومة وطنية ترد العدوان وتنشد تحرير مزارع محتلة إلى قوة مجالها المشرق ككل في القصير وريف دمشق كما في حلب وديالى وفي الموصل كما في الجليل.
* كاتب جزائري