اختفاء مسيحيي المشرق هو تطبيق عملي لنبوءة صراع الحضارات السطحية، تمارسه على الأرض اليوم في العراق جماعات إسلامية بمسميات شتى من القاعدة وداعش والنصرة وأخواتها، تدعمها اسرائيل والولايات المتحدة وتركيا وتمولها السعودية ودول الخليج.
والحرب على غزة اليوم هي الوجه الآخر لحرب داعش في العراق، في عملة واحدة بوجهين لكي ينهي التحالف الجهنمي ما بدأه قبل عقود في قتل القضية الفلسطينية في الأردن ولبنان في السعينيات ثم في الضفة في العقدين الماضيين وفي غزة منذ 2008 في سلسة حروب متتالية.
وما الحركات الدينية إلا الذراع القذرة للجيش الاسرائيلي في عمق فلسطين الجغرافي، فينهش في شعوب ومدن سوريا والعراق ويحاول التمدد إلى لبنان.

دور الخليج في إفناء مسيحيي المشرق

هدف الهولوكست ضد المسيحيين في المشرق والذي وصل إلى العراق اليوم، هو القضاء على الشريك المسيحي صاحب الدور الأكبر في نهضة العرب التي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر. فلا يكتمل المشروع السعودي ـ الأميركي لضرب العروبة ومحو فلسطين إلا بإفناء مسيحيي العراق وسورية ولبنان ومصر ليبقى وجه السلفية وحملة السواطير.
وعلى كل العرب أن يدركوا أنّ زوال المسيحيين في المشرق هو خسارة كبيرة للعالم العربي. ذلك أنّ الوجود المسيحي في المشرق هو أساس المسيحية ورمز الاستمرارية ووجه رسالة البشارة. وغياب المسيحيين عن الأراضي المقدسّة، ونعني مجالها الأوسع لبنان وفلسطين وسورية والعراق ومصر، إنما يُفقد الاسلام صورته المنفتحة على العالم ويكشف صورة الغرب الذي يدعم التطرف الاسلامي ويدعم اسرائيل من دون أن يكترث للوجود المسيحي في المشرق.
الوجود المسيحي في المشرق مهدّد بالذبول وحتى بالانقراض، وقد انقرض فعلاً في بعض البلدان العربية بسبب معدلات الولادات المتدنيّة، والهجرة المتفاقمة في أوساط المسيحيين إلى أوروبا والأميركتين وأوستراليا، إلى هجرة الأدمغة، والآن جاء التطهير الديني في العراق وسوريا. وكل هذه العوامل تؤشر إلى احتمال المحو التام للوجود المسيحي في المشرق بحلول عام 2050.
لقد بات المسيحيون يشكّلون أقليات لا شأن لها اليوم، يتآكل نفوذهم ويُدفعون إلى الهامش في شؤون بلادهم وتتضاءل مساهمتهم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتكاد خصوصيتهم كجماعة دينية مهددة، وحقهم في التميّز والاختلاف موضع تساؤل، وتعبيرهم الثقافي والفني إلى العرب والعالم يُنتقد، ونمط عيشهم ولباسهم موضع تحدّ.
محاولات الإبعاد (العنفي والمقنّع، العفوي والمقصود) والقتل والسبي يرتكبها ضد المسيحيين ليس فقط داعش والمنظمات الإرهابية، بل دول عربية وغربية تجعل مسيحيي العراق والمشرق كبش محرقة في لعبة الأمم. ولا يحتاج المرء إلى كثرة تحليل وبحث، فالمعلومات بل أطنان منها تتراكم عن دور الدول العربية وتركيا واسرائيل في خروج المسيحيين من ديارهم وبأعداد متزايدة في السنوات الأخيرة. إضافة إلى إثارة الحروب داخل الدول المتعددة كالعراق وسوريا ولبنان في - رجعة إلى عصور الظلمات والشتاء البارد، حيث لا قدرة للمسيحيين سوى الهجرة خصوصاً أنّ نصيحة الغرب الأوروبي والأميركي للمسيحيين جاهزة: خذوا الفيزا وتعالوا.


يوضاس في القيادات المسيحية اللبنانية

في أوج الهجمة الدينية الداعشية هذه، والتي تُسرّع في انحسار المسيحيين عن المشرق، من المخزي أن ترحّب شخصيات مسيحية لبنانية بالاسلاميين وتصبح بوقاً يطمئن الرأي العام والأقلية المسيحية في المشرق بأن «لا خوف عليكم إذا وصلت الجماعات الإسلامية إلى الحكم». ومع الأسف هذه القيادات المسيحية، روحية وسياسية، تتبع السياسة السعودية وتهلل للربيع الاسلامي ولا ترد الأذى عن مسيحيي المنطقة. فيذهب البطريرك إلى اسرائيل وهناك يلتقي بجماعة لحد ويمدح بفئة عميلة كانت تمارس التعذيب بحق الوطنيين في معتقل الخيام، ثم يصف هذه الفئة بأنها أفضل من الآخرين في لبنان ويقصد المقاومة. ويقوم زعماء مسيحيون بشكل يومي بإصدار التصاريح النارية ضد سوريا ولا يعنيهم في شيء كالعادة اي شيء يحصل في فلسطين.
إنهم هؤلاء الذين أوصلوا مسيحيي لبنان وبالتالي مسيحيي المنطقة إلى بدء الاندثار السياسي والاقتصادي والثقافي. فبسبب ارتهانهم منذ عقود وتحويلهم لبنان من منارة للعلمنة والثقافة، إلى وكر للرجعية والاصطياف الخليجي والفضائيات المتطرفة، انحدرت نسبة المسيحيين بسبب انهيار الدولة اللبنانية منذ السبيعنيات من خمسين في المئة من السكان إلى 25 في المئة اليوم. وثمّة توقع وصول هذه النسبة إلى عشرين في المئة عام 2020، وخصوصاً أن ما يسمّى «الربيع العربي» الذي بدأ قبل ثلاثة أعوام قد عجّل بخروج المسيحيين.
لقد نُكبَ لبنان ومسيحيوه بقيادات وتنظيمات تابعة للسعودية ومن ورائها أميركا وإسرائيل، وهي شخصيات وتنظيمات مسيحية لا علاقة لها بالتنوير والثقافة بل هي رجعية بتفكيرها وقِبلية بأدائها ولا تعكس صفوة البيئة المسيحية المتعلمة والمثقفة والمتنورة في لبنان. بل هي تتحكم بالمسيحيين وتفرض عليهم التبعية للرجعية ظلماً وعدواناً. وتبعيتها لأنظمة الظلام لا يدفع ثمنها غالياً مسيحيو لبنان فحسب بل سائر نصارى المشرق.
ولا يفرح البعض في لبنان أنّ مسيحيي سورية والعراق يفرّون إلى لبنان، فيزيدون الحجم الديمغرافي لمسيحيي لبنان. ذلك أنّ ما يجري في سورية والعراق لن يعفي الساحة اللبنانية، وقد انتشر الدواعش والنصرة وأخواتها في مناطق عدة من لبنان وبغطاء لبناني. وساعتئذ لن ينفع اي زعيم مسيحي أنه يحمل بطاقة توصية من أمير سعودي أمام حملة السواطير الملتحين.


داعش نازية القرن الحادي والعشرين

إذا كانت ثمّة علامة استفهام كبيرة حول مستقبل مسيحيي لبنان، فالوضع يسير نحو الأسوأ بالنسبة لمسيحيي سوريا والعراق في ظل الظروف التي يمر بها البلدان. وما ارتكبته داعش في الموصل ومناطق أخرى هو استمرار لما بدأه الاحتلال الأميركي عام 2003، تفجيرات واغتيالات وعمليات اغتصاب النساء وحرق كنائس. خصوصاً أنّ العراق بات مشرع الأبواب للتنظيمات الإسلامية المتطرّفة الساعية إلى تفريغ العراق من أقدم جماعاته الدينية التي ساهمت في بناء حضارة علمية وفلسفية. فمسيحيو العراق شاركوا المسلمين في الميادين الاجتماعية والفكرية والثقافية والاقتصادية والدينية لقرون عدة ويتعرضون للضغط المتواصل لدفعهم إلى الهجرة.
حال مسيحيي العراق هو الأسوأ بين كل مسيحيي المشرق. وهم بغالبيتهم أحفاد الامبراطوريات القديمة الآشورية والكلدانية، حافظوا على وجودهم المهم منذ القرن الأول الميلادي وحتى الغزو الأميركي عام 2003. وإذ خلال عقد واحد تحت الاحتلال الغربي ينخفض عددهم من 1.2 مليون نسمة إلى أقل من 400 ألف. لقد هرب مئات الألوف من مسيحيي العراق إلى سورية ولبنان والمغتربات البعيدة.


مسيحيو العرب أخلصهم لفلسطين

مسيحيو الشرق هم همزة الوصل بين الشرق والغرب وبين العالم الاسلامي والعالم المسيحي، وهم الجسر الحضاري العميق في علاقات العرب مع أوروبا وأميركا. لقد رفض مسيحيو العرب أن يجعلهم الغرب أذناباً وعملاء، من بابا شنودة إلى مطارنة سوريا والعراق وفلسطين، إلى أبرز الشخصيات المسيحية المناضلة.
أما الأنظمة العربية التي تتخذ الاسلام شريعة لها في العالم العربي إضافة إلى الدول التي تسير في الفلك الأميركي ـ الاسرائيلي كمصر والأردن، فهي تنسق مع اسرائيل وتساهم في إجلاء المسيحيين والقضاء على فلسطين وعلى الأنظمة التعددية في العراق وسوريا.
المطلوب أن يقف كل صاحب ضمير حي إلى جانب قضية فلسطين وقضية الحفاظ على مسيحيي الشرق، لأنه جانب الحق ضد الباطل، وجانب العدل ضد جبروت وأموال النفط وظلام الرجعية، ولا يقف ككثير من المرتهنين من الصحافيين وحملة أقلام كاذبة وإعلاميين إلى جانب القوي وصاحب المال.
علينا التصدّي لمحاولات انهاء الوجود المسيحي في هذا الشرق لما يعنيه من وجه حضاري للعرب وقبولهم للآخر. وهذا الوجود مستمرّ منذ وطأت قدما المسيح أرض الجليل وجنوب لبنان قبل ألفي سنة. ومن هناك انتشرت المسيحية في دمشق ثم في انطاكيا شمالاً، ومن ثم عبر الفرات إلى بلاد ما بين النهرين، كما انتشرت من فلسطين جنوباً إلى وادي النيل.
المسيحيون العرب هم حاجة عربية واسلامية. والمساهمة المسيحية الأساسية في القرن العشرين كانت في نشرهم فلسفة الدولة الحديثة القائمة على المساواة والعدل بصرف النظر عن ديانة المواطن، والنظام البرلماني وفصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وفي إعادتهم اللغة العربية إلى الحياة وضبطها ونشرها آداباً ومعارف. وليس مسيحيو المشرق صليبيين بل الاسلام هو جزء من شخصية المسيحي المشرقي كما جاء على لسان أمين المعلوف: «أنا مسيحي ولغتي الأم هي العربية وهي لغة الاسلام المقدسّة، وهذا الثنائي، مسيحيتي ولغتي العربية، يشكّل فعلاً هويتي».
الواقع الذي فرضته أحداث العراق وسوريا لا يبشّر بالخير. وهو يهدّد ليس فقط المسيحيين بل سائر المتنوّرين والمثقفين المسلمين في المنطقة. وواجب المثقف المسلم قبل المسيحي أن يدقّ ناقوس الخطر حتى لا تتحوّل الكنائس إلى شهادة على الصمت وليس شهادة على الحق.
* أستاذ جامعي ــ كندا