مقالة تنظر إلى طه حسين عبر رؤى شاعت في كلية دار العلوم، الكلية التي درست فيها وتعلّمت أوّل حرف في الشعر الجاهلي، على يد أكاديمي كبير، هو الدكتور علي الجندي، الذي قدّم لنا الشعر الجاهلي في بيان ساحر، وقلّ أن تجد أستاذاً مثله قادراً على تقديم هذا الشعر في هذا الأسلوب الأخّاذ. لكن البحث العلمي يقتضي الإنصاف ويقتضي عدم التوقف عند حد من التأمل والدرس، لذلك نجد أستاذنا المرحوم الدكتور محمد أبو الأنوار، وهو تلميذ الأستاذ الدكتور علي الجندي رحمه الله، يقدّم وثيقة تدحض القول الذي يتهم طه حسين بأنه تبع مرجليوث في قضية النحل في الشعر الجاهلي، وفي هذه المقالة نقاش لما جاء به طه حسين في كتاب في الشعر الجاهلي.من جديد، كلما عاودت قراءة طه حسين انبعث شيء آخر يشبه الضوء في عتمة، أو كأنّي أتذوق قطرة من ماء في صيف هجير في صحراء ولا ظل ولا ماء، يمكنني أن أنظر إلى طه حسين بموضوعية، لكن من الظلم أن أجعل طه حسين مسبّة على جبين الدهر. لقد عتا طه حسين في نقد التراث، وكانت لغته غير معتدلة وعنيفة، وتكاد تسلق المتلقي بلسانه الحاد. وغامر طه حسين في مناورته هذه، التي من خلالها مارس صدم المتلقي، المتلقي الذي كان على غير ما يشتهي طه حسين، والمتلقي الذي آمن بالموروث، والذي يعتقد بحقيقة الشعر الجاهلي. فمن آمن بالمعلقات التي ساق روايتها حماد وشغف بالمفضليات التي جمعها المفضل الضبي على سبيل التمثيل، وهام بما أفرزته مواقع بكر وتغلب من أشعار كلا الحيين، فإنه من الصعب أن يركن إلى مقالة طه حسين في الشعر الجاهلي. وأمّا أن طه حسين كان متطرفاً في خطابه، فهذا نعم، وأمّا أنه كان مسلماً إلى وجهة نظره تسليماً فهذا أيضاً لا يختلف عليه اثنان.
لكنّ طه حسين دفع ثمن ذلك غالياً، فهو أقيل من الجامعة، وصودر كتابه في الشعر الجاهلي، كما أنّ البعض كان يعزو ما ذهب إليه طه حسين إلى حاجة في نفسه ابتغاها، وهي إحداث ضوضاء في عالم البحث بغية الانشغال به واتخاذ هذه القضية طريقاً إلى شهرته، غير أنّ هذه القضية كانت قديمة في تراث طه حسين. ومن الحيف الذي وقع عليه هو نسبة أفكاره إلى صمويل مرجليوث وأنه سرق تلك الأفكار من بحث الآخر الذي صدر قبل نحو سنة من صدور كتاب طه حسين، وهو بعنوان «أصول الشعر العربي القديم». وفي البدء يمكننا القول إن هذه القرينة التي اتخذها مناوئو طه حسين دليلاً على تناصه مع مرجليوث قرينة ضعيفة، ولعلّي آخذ دليلاً من كلام طه حسين نفسه، ومن تمظهرات التأثر بالآخر؛ فطه حسين -على سبيل التمثيل- أراد أن يصطنع مذهب الشك في العلم والأدب الذي اصطنعه ديكارت في الفلسفة، أي ما اصطنعه ديكارت قبل قرون، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن فكرة التأثر بالآخر كانت تأتي متأخرة وذلك لأسباب عدة منها حركة الترجمة، فهل ترجم كتاب مرجليوث إلى العربية خلال سنة أو ترجم إلى الفرنسية في السنة نفسها أم أن طه حسين قرأ الكتاب خلال سنة؟ ويبدو لي أن حركة الترجمة يوم ذاك كانت بطيئة جداً، حتى وصف ذلك أستاذنا المرحوم أبو همام عبد اللطيف عبد الحليم في «تأثّر العرب بالآخر» قائلاً: نحن -والنص بتصرف من عندي- لا نستخدم نظريات الغرب إلا حين تكون لديهم في الأحداث أو أننا نستخدمها حين تكون في الأجداث، ومن الممكن أيضاً القول: إنّ طه حسين -كما ذكرنا- كتب في هذه القضية في سنة 1914 حين شكّك في نسبة شعر الخنساء إليها ونشر ذلك البحث في مجلة «الرسالة» المصرية كما يورد أستاذنا الدكتور محمد أبو الأنوار في كتابه «الشعر الجاهلي».
المنطق الذي ساد بعد صدور كتاب طه حسين وحاول دحض ما ذهب إليه كان منطقاً حماسياً تبريرياً لا منطقاً علمياً صلباً


إنّ الحملة التي كانت ضد طه حسين جاءت قاسية جداً، ونالت حتى من عقيدته، وخوّنته، بل بعض الآراء وصفته بأنه تبع أسياده في ما مضى إليه من رأي، والحق أن هذا الكلام حمل كثيراً من التجني، والحق، أو الأقرب إليه، أن طه حسين أيضاً أعان أولئك على نفسه في نحوه منحى أدبياً مجازياً في وصف الأشياء حين يقول: للتوراة أن تحدّثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدّثنا عنهما لكن هذا لا يكفي لصحة وجودهما التاريخي، فكيف لطه حسين أن يقارب صدق القرآن الكريم على هذا النحو بشيء من الخفة والاستخفاف وفي الوقت الذي يصف القرآن الكريم بأنه المرآة الصادقة لحياة الجاهليين؟ ولعلّي هنا أعزو هذا السياق من القول إلى طبيعة طه حسين في حدّته أو في طبيعة إملائه على من يدوّن أو أنّه كان قلقاً إلى هذا الحد من الاضطراب.
غير أنه طرح قضايا موضوعية لا يمكن تجاوزها، ومنها أنّ هذا الشعر جاء في لغة واحدة، وكادت تختفي فيه الفروق اللغوية بين القبائل، أو بين لغة الشمال والجنوب، وساق من الأدلة ما ساق، كقول أبي عمرو بن العلا: ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا لغتهم بلغتنا. واستدرك عليه أستاذنا المرحوم علي الجندي في عدم دقته -راجع «في تاريخ الأدب الجاهلي»- حيث قال أبو عمرو بن العلاء: ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا، والحقيقة أن خلاف اللسان يعني خلاف اللغة اليوم، فأبو عمرو ينفي تشابه لغة الشمال والجنوب جملة وتفصيلاً على مستوى اللغة واللهجة بمفهوم اليوم. ولا أدل على ما ذهب إليه طه حسين مثل دليل إمضاء الرسول الكريم (ص) قراءة أكثر من آية على لسان أكثر من قوم -راجع كتاب أستاذنا الدكتور أحمد مختار عمر (توثيق لغة القرآن)- ويمكننا القول إنّ لغة القول حتى نزول القرآن المجيد لم تكن لغة موحّدة وأن القرآن الكريم هو الذي وحّد هذه اللغة وأنّه هو النص الذي قدّم صورة تامة يمكن الاطمئنان إليها.
ثم إنّ هذا التقسيم الباهت، والذي شاع في الأوساط العلمية، وهو تقسيم العرب بين عرب عاربة وعرب مستعربة، ويكاد لا يقوم على دليل ولا حقيقة علمية، لا أعرف كيف شقّ طريقه إلى منصات العلم والبحث، وأكاد أجهل أوّل قائل به، وإذا كانت العرب العاربة هم أصل العرب فإن تلك المزاعم تقتضي أن الرسول (ص) نزل من العرب العاربة، بل هو من العدنانيين لا القحطانيين، ذلك الرسول الأعظم الذي يصف نفسه (ص) قائلاً: «أنا أفصح من نطق بالضاد، نشأت في بني ساعدة بيد أنّي من قريش». وبشيء من التتبع أو التأمّل نجد القول الذي جنح إلى هذا هو أقرب إلى الاعتساف أو الوهم لا الحقيقة، وربما جاز عليه أن يكون من القصّ والاختلاق على أيدي الرواة أو القصّاصين - كما وصف طه حسين. وعليه، فإننا أقرب إلى ما قاله طه حسين في هذه القضية قبل نحو قرن أو أقل، أو قُل إنني أقرب إلى التأمّل في ما قال أو اعتقد، أو إن شئت يجعلني طه حسين أتوقّف ملياً أمام هذه الحقائق التي ساقها في ما يخص الخلاف اللغوي قبل نزول القرآن الكريم وأن المنطق الذي ساد بعد صدور كتاب طه حسين وحاول دحض ما ذهب إليه كان منطقاً حماسياً تبريرياً لا منطقاً علمياً صلباً، وهذا ما يجعلنا نتساءل هل هذه اللغة التي كانت متشظية على مستوى اللسان واللهجة كانت لغة واحدة ثم انبثقت إلى لغات؟ وأن هذه اللغات أو الألسن السائدة كانت لغات متقلبة عن أصل غير أنها لا تمثّل ذلك الأصل؟ وأن هذا في منطق اللغات لغات جديدة لا لغة واحدة، ثم إن هذه اللغة إذا كانت لغة قديمة إلى هذا الحد لِم لا نملك تراثاً شعرياً أبعد من تراث امرئ القيس الذي يقول عنه محمد بن سلام الجمحي إن الشعر بدأ به؟ ولا نجد تراثاً نثرياً تاماً يشي بتلك المساحة الزمنية الشاسعة؟
وبما تقدّم يبدو أن القول بالعرب العاربة والعرب المستعربة أمر لا يمكن الاطمئنان إليه، لأن الرسول (ص) أيضاً يقول: «إنما العربية اللسان»، وإنّ أفصح من نطق بها هو، مع العلم أنه ليس من عرب الجنوب كما زعم أصحاب هذا التقسيم.

* عالم لغوي بحريني