في وقت تستمر آلة الموت والرعب الإسرائيلية في عملياتها الوحشية بقتل الفلسطينيين بالتعاون مع حكومة الولايات المتحدة وحلفائها الرئيسيين من العرب، وفي مقدمتهم عشيرة آل سعود التي تضم عشرين ألف أمير وأميرة، انطلقت حملة مصرية مكثفة من البغض والكراهية تستهدف الفلسطينيين على المستويين الرسمي وغير الرسمي.
فالنظام المصري هو أحد السجانَين الرئيسيين لشعب غزة الذي يعيش في أكبر معسكر اعتقال في العالم. وقد عبّر المشير عبدالفتاح السيسي، وريث مبارك على عرش مصر، جيداً عن الأكاذيب التي ما برحت طبقة اللصوص المصرية التي تحكم البلاد بالترويج لها منذ تدشين حملة الدعاية الكارهة للعرب والفلسطينيين التي شنها السادات خلال النصف الثاني من عقد السبعينيات من القرن الماضي، وقد أعلن السيسي، المفتقر للكاريزما، بكل ثقة في خطاب ألقاه في ذكرى «الثورة المصرية» في ٢٣ يوليو/ تموز (ومواهب السيسي البائسة في الخطابة تضاهي مواهب ياسر عرفات)، أن مصر قدمت «مئة ألف شهيد» للقضية الفلسطينية.
بينما لا يشكك إلا فئة من ضعيفي الإيمان بالتضحيات التي قدمها الجنود المصريون دفاعاً عن مصر خلال الستة وستين عاماً الماضية، فإن الزعم بأنهم قد قاموا بتلك التضحيات من أجل فلسطين والفلسطينيين هو قمة النفاق والملق، عدا عن كونها الحجة ذاتها التي ما فتئت طبقة اللصوص المصرية الحاكمة تروّج لها كي تدعي بأنّ الاقتصاد المصري السيئ وحالة الفقر السائدة في البلاد ليسا نتاج سرقات ونهب البلاد التي تقوم بها هذه الطبقة منذ السبعينيات وبمساعدة رعاتها الدوليين بزعامة الولايات المتحدة والإقليميين بقيادة العربية السعودية، بل هما نتاج دفاع مصر المزعوم عن فلسطين والفلسطينيين، والتزام جمال عبد الناصر المزعوم تحرير الفلسطينيين من الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي.
يخضع الفلسطينيون منذ عقد السبعينيات من القرن المنصرم لهذه الأكاذيب المفضوحة، ولسفاهة وتفاهة هذه الطبقة من الجهلة والأميين الموتورة، وقد أعربت هذه الطبقة الرثة المفتقرة لبداهات العلم والعالمية عن مستواها المتدني خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة عبر سلسلة الدعايات المعادية للثورة المصرية والمحرضة ضدها، والتي تبثها من خلال محطات التلفزة والإعلام التي تملكها، ومن المفترض أن يُحرج شكل ومضمون هذه الدعاية أي طبقة من المثقفين والصحافيين والفنانين إذا كانت تحترم نفسها، إلا أن غالبية المثقفين والصحافيين والفنانين المصريين قد انخرطوا ثم جُندوا أو باعوا أنفسهم بالكامل للدفاع عن مصالح هذه الطبقة من اللصوص (على الرغم من أن بعضاً ممن جُند لدعم هذا النظام، لا سيما من الأكاديميين، شرعوا أخيراً بالتراجع وإعادة كتابة تاريخهم وإنكار دورهم كمهللين للنظام الجديد).

ما يريد السيسي
ادعاءه هو أن جميع حروب مصر مع إسرائيل خاضتها للدفاع عن فلسطين

أما بخصوص انحطاط الثقافة والمنتجات الفكرية والجمالية المصرية خلال العقود الأربعة المنصرمة، فهو النتيجة المباشرة لحكم وطغيان هذه الطبقة وسيادتها. ليس على المرء إلا الجلوس مع هذه الزمرة من رجال وسيدات الأعمال، أو أن يقوم بزيارتهم في بيوتهم، أو أن يشاهد الكيفية التي يقدمون ويصورون بها في المسلسلات والأفلام والثقافة التي يسعون إلى نشرها وتعميمها، أو أن يستمع لمحادثاتهم في مطاعم وحانات فنادق الخمس نجوم في القاهرة، أو أن يشاهد مقابلاتهم على محطات التلفزة المصرية سيئة المستوى والصيت، كي يعي مستواهم المتدني في كل مجالات التخطيط الاقتصادي والسياسي وصولاً إلى فساد الذوق الجمالي، ناهيك عن جهلهم بالآداب والفنون المصرية والعربية والعالمية، فضلاً عن احتقارهم لفقراء مصر الذين يشكلون أكثر من ثمانين في المئة من السكان، أما أن تغار هذه الطبقة فائقة الثراء وتحسد أفقر الفقراء على ممتلكاتهم الهزيلة، لا سيما فلسطينيي غزة، فهو أمر يشير إلى دناءتها وطبيعة بوصلتها الأخلاقية المنحطة التي توجه أفعالها.
ما زلت أذكر دهشتي ورعبي عندما تناولت طعام العشاء مع الملياردير المصري ناصف ساويرس ــ أغنى رجل في مصر ــ وهو يعلن بفخر للأشخاص السبعة المجتمعين حول مائدة الطعام كيف أنه يبقي ثلاثة أجهزة تلفاز تبث طوال الوقت من دون توقف (في البيت وفي المكتب، وأثناء سفره وتجواله) ترتكز على ثلاث محطات إخبارية أميركية في الوقت ذاته، وقد ذكر، إن أسعفتني الذاكرة، «سي إن إن» و«سي إن بي سي» و«فوكس نيوز»، والتي تشكل كما هو واضح المصادر الرئيسة لتثقيفه وتعليمه. وقد استغرب ناصف، وهو أقل استعراضية من شقيقيه الأكبر منه سناً، معارضتي لسياسات باراك أوباما اليمينية، سواء أكانت داخل الولايات المتحدة أم خارجها عندما أعلمته بموقفي، حيث بدا عليه عدم التصديق أو حتى إدراك أن ثمة مواقف سياسية على يسار أوباما!
وفي مقابلة له نشرت أخيراً في جريدة «المصري اليوم» المؤيدة للسيسي، أشاد ناصف ساويرس برفع السيسي دعم سعر الوقود على الفقراء (وإبقاء سعر البنزين «90» الذي يستخدمه الأغنياء لسياراتهم الفارهة على ما هو)، وقدم نصائح واقتراحات نيوليبرالية عدة للحكومة، ومن ضمنها خفض قيمة الجنيه المصري، وخصخصة وسائل النقل العام، وإلغاء الضرائب المفروضة على الأغنياء (والذي يزعم ناصف أن حكومة الرئيس المعزول محمد مرسي فرضتها على شركته من دون سند قانوني)، وتحصين الوزراء وموظفي الحكومة من الملاحقة القضائية، والسماح باستخدام الفحم كوقود لمصانع الإسمنت رغم معارضة كثيرين نتيجة المساوئ الصحية والبيئية التي ستترتب على استخدامه.
سوف تثري هذه الإجراءات القلة القليلة من الأثرياء وتفقر الغالبية من الفقراء. وقد بدأ شقيق ناصف الأكبر والأفقر نجيب أخيراً بكتابة مقال أسبوعي في جريدة «الأخبار» المصرية حيث كرر توصيات شقيقه النيوليبرالية للحكومة، وطالب نجيب السيسي أيضاً في مقابلة تلفزيونية بالعفو عن حسني مبارك والإفراج عنه.
ما يريد السيسي والطبقة المتحالف معها ادعاءه هو أن جميع حروب مصر مع إسرائيل خاضتها للدفاع عن فلسطين والفلسطينيين، كما أن تلك الحروب كانت مكلفة لمصر مالياً وبشرياً وكلفتها حياة جنودها، ولكن هذا الادعاء غير صحيح برمته؛ ففي عام ١٩٥٦، اجتاحت إسرائيل مصر واحتلت سيناء وكان الجنود المصريين الذين قتلوا في هذه الحرب قد ماتوا أثناء دفاعهم عن وطنهم وأراضيهم. وفي عام ١٩٦٧، غزت إسرائيل مصر مرة أخرى واحتلت سيناء مجدداً، وقد قتل في هذه الحرب الجنود المصريين أيضاً، وهم بصدد الدفاع عن وطنهم ضد غزو أجنبي. وبين عامي ١٩٦٨ و١٩٧٠، خاضت مصر «حرب الاستنزاف» مع إسرائيل، وقد قتل الجنود المصريون في هذه الحرب وهم يدافعون عن بلدهم ضد العدوان والاحتلال الإسرائيلي المستمرين، وهي حرب دارت برمتها على الأراضي المصرية، وأخيراً خاضت مصر حرب ١٩٧٣ من أجل تحرير سيناء، وليس من أجل تحرير فلسطين، وقد قتل الجنود المصريون في هذه الحرب دفاعاً عن بلدهم من الاحتلال الاجنبي.
يعيدنا هذا إلى حرب ١٩٤٨ والتي قتل فيها، بحسب المصادر المختلفة، ما بين ألف وألفي جندي ومتطوع مصري. ولم يكن هذا التدخل العسكري المصري لصد الصهاينة الذين كانوا بصدد طرد الفلسطينيين وتشريدهم عن ديارهم وسرقة أراضيهم ووطنهم من صنيعة عبد الناصر، الذي يلام على دعمه الخطابي للفلسطينيين، بل قام به الملك فاروق الذي يتوق إلى عهده كارهو عبد الناصر من هذه الطبقة.
وقد أشارت معظم الدراسات إلى أن طبيعة دوافع فاروق والحكومة المصرية آنذاك والتي أدت إلى مشاركتهم بالحرب لم تكن قومية عربية تضامنية، بل نتجت عن قلق فاروق على دور مصر القيادي في المنطقة وتخوفه من منافسة ومنازعة العراق لها على هذا الدور. ولكن بغض النظر عن هذه الدوافع، يؤمن معظم الفلسطينيين بأن الجنود والمتطوعين المصريين الذين قتلوا في الحرب ماتوا وهم يدافعون عن فلسطين والفلسطينيين، وإن كان الجنود من بينهم قد قاموا بذلك بناءً على أوامر قد تلقوها من أجل الدفاع عن هيمنة مصر الإقليمية. ولكن تبقى هذه الحرب هي الوحيدة التي مات فيها جنود ومتطوعون مصريون دفاعاً عن فلسطين والذين يكنّ لهم الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية كل التقدير والعرفان.
لكن كيفية مضاعفة هؤلاء الجنود الألف أو الألفين إلى «مئة ألف شهيد»، كما زعم السيسي زوراً وبهتاناً، وهي من الاختلاقات والأكاذيب التي تروج لها طبقة اللصوص المصرية الحاكمة، ومثقفوها ودعائيوها المستأجرون في الإعلام المصري منذ أن وقّع السادات على اتفاق كامب ديفيد الذي ضحى عبره بحقوق الشعب الفلسطيني، ومنهم فلسطينيو غزة، من أجل استرجاع سيناء من دون سيادة مصرية وبسيطرة شرطية مصرية محدودة عليها.
لا يعني هذا أن ملايين المصريين من جنود ومدنيين لا يساندون أو لن يساندوا فلسطين والفلسطينيين، أو يقوموا بالدفاع عنهم، كما يعلنون باستمرار ومن دون كلل. ما يعنيه هو أنه عدا عن معارك ١٩٤٨، لم يعطوا الفرصة للدفاع عن الفلسطينيين على أرض المعركة. وهذا بالتحديد ما يستثير طبقة اللصوص الحاكمة ويدفعها الى تعزيز حملة الكراهية والدعاية البغيضة على محطات التلفزة التي يمتلكونها. فعندما يستمع المرء إلى دعاياتهم، يهيئ له أن الفلسطينيين هم من احتل سيناء، لا أن مصر هي من حكمت غزة منذ عام ١٩٤٨ وحتى ١٩٦٧، وقامت بمحاصرتها منذ ذلك الزمن محكمة الحصار عليها منذ ثمان سنوات. ولكن، رغم هذه الدعاية الإعلامية التي لا تنضب، فإن المصريين مستمرون في مساندتهم للفلسطينيين، إن كان ذلك عبر مسيرات تضامنية خلال الأسبوعين الأخيرين والتي تندد بتواطئ نظام السيسي على ذبح الفلسطينيين، أو عبر إرسال قوافل إسعافات طبية إلى غزة يرغمها جنود السيسي بالعودة من حيث أتت رافضين دخولها إلى القطاع المنكوب.
في هذا السياق، يجدر التنويه إلى أن طبقة اللصوص المصرية الحاكمة هي العدو الأول لا للشعب الفلسطيني بل لغالبية المصريين الذين تضطهدهم وتستغلهم وتنهبهم وتذلهم بشكل يومي. لكن المهللين لنظام السيسي قد قاموا أخيراً بالتغطية على حقيقة كون أعداء الشعب الفلسطيني في مصر هم نفسهم أعداء غالبية المصريين. ويذكرنا الانتحار الجماعي الذي قامت به طبقة المثقفين والفنانين المصريين (من ناصريين وماركسيين وليبراليين وسلفيين) حين تنازلوا عن دورهم النقدي بمساندتهم (أو بقائهم صامتين) لمذابح وقمع النظام الجديد، ناهيك عن صمتهم المدوي على الحملات التي تستهدف فقراء مصر والفلسطينيين، بانتحار الشيوعيين المصريين الذين حلوا حزبهم عام ١٩٦٤ وانضموا إلى الاتحاد الاشتراكي الذي أقامه عبد الناصر. وتمتد هذه الطبقة بدءاً من الاقتصادي الماركسي العالمي سمير أمين الذي لا ينفك يهلل للسيسي من دون تعب أو كلل إلى أشخاص أقل إنجازاً منه بدرجات من أمثال علاء الأسواني، ومن يتوسطهم في الإنجاز، كجلال أمين وصنع الله ابراهيم وعبد الرحمن الأبنودي وبهاء طاهر وغيرهم.
لكن الانتحار الجماعي الذي قام به الشيوعيون عام ١٩٦٤ كان ناتجاً من وصولهم إلى قناعة بأن قمع نظام عبد الناصر، على مساوئه، كان جزءاً من مشروعهم المشترك معه بتأميم الملكية وإعادة توزيع الثروة للقضاء على الفقر في البلاد. إلا أننا ما زلنا لا نعرف دوافع طبقة المثقفين المعاصرين بالانتحار الجماعي خدمة ومساندة لطبقة اللصوص الحاكمة!
لا نستغرب تفوّق السيسي على سياسات مبارك في التحالف مع إسرائيل والتنسيق معها ضد الفلسطينيين المحاصرين، حيث أنه يخدم الطبقة والمصالح نفسها التي خدمها مبارك. لكن ما هو مختلف اليوم هو تغيّر موقف حماس الذي كان في الماضي خاضعاً ومطيعاً لأوامر مبارك وصامتاً على جرائمه نتيجة تحكمه بالبوابة المصرية لغزة آنذاك.
من الواضح أن المجزرة الإسرائيلية المستمرة للشعب الفلسطيني ليست إلا الخطة «ب»، حيث أن الخطة «أ» كانت عبارة عن اجتياح مصري محتمل للقطاع كان نظام السيسي قد هدد به قبل بضعة أشهر، بعد أن دمر أنفاق غزة التي كانت تمدها بالحياة (وكان هذا قبل انتخابات سيسي الزائفة)، على الأغلب بمساعدة الإسرائيليين، بهدف إعادة تنصيب محمد دحلان كزعيم لغزة والتخلص من حماس والمقاومة الفلسطينية. أما قيام مدير المخابرات المصرية بزيارة إسرائيل قبل بضعة أيام من بدء المجزرة وقيام ثلاثة مسؤولين اسخباراتيين إسرائيليين بزيارة مصر بعدها بأيام ليسا سوى مؤشرات صغيرة على المستوى الرفيع من التنسيق بين البلدين.
أما السادية والنرجسية وهما من سمات الثقافة الإسرائيلية اليهودية الكولونيالية، والتي تمظهرت حديثاً بمسيرات الغوغاء الذين ينادون بـ«الموت للعرب» والتي تدفع بقطاعات من المستعمرين اليهود للجلوس على التلال لمشاهدة ذبح الفلسطينيين والتهليل له، فتقابلهما دعايات إعلام نظام السيسي السادية الكارهة، وإعلام طبقة اللصوص التي تحكم مصر. فقد أعلن الجيش المصري في ٢٧ تموز/ يوليو، في خضم استمرار إسرائيل بمجازرها، عن تدميره ثلاثة عشر نفقاً بين غزة وسيناء تعبيراً عن مساهمته البطولية باضطهاد إسرائيل للفلسطينيين. وقد نبذ الشعب الفلسطيني هدنة وقف إطلاق النار الذي عرضها السيسي بعد مرور أسبوع على بدء المجزرة، والتي أملى عليه حلفاؤه الإسرائيليون شروطها، إصراراً منهم على مقاومة عسكرية باسلة ضد جرائم المستعمر الإسرائيلي وعلى مقاومة سياسية ودبلوماسية شجاعة يواجهون بها قسوة سجّانهم المصري.
* أستاذ السياسة والفكر العربي الحديث
في جامعة كولومبيا في نيويورك