مع كل مرة يبدأ فيها الكيان الصهيوني عدواناً جديداً على قطاع غزة، تمتلئ الصحف ومواقع التواصل بالمقالات والمعلومات المليئة بالكذب والمغالطة. ويمكن اعتبار مقال عادل الطريفي «من يحاسب المقاومة؟»، المنشور في صحيفة «الشرق الأوسط» قبل عامين، نموذجاً على مثل هذه المقالات. يعتبر الطريفي العدوان على غزة «رد فعل» على صواريخ حماس، التي لم يؤدِّ منهجها لإرهاب العدو سوى إلى زيادة أعداد القتلى الفلسطينيين، كما يصف الحركة بالخادم للمحور «الإيراني- السوري»، زاعماً بأن هدفها هو إنهاء أوسلو، بالإضافة إلى ادّعائه بأن ظروف يحيى عيّاش المعيشية الصعبة هي التي دفعته للمقاومة، بعد أن رُفض طلب قدمه للعمل في إحدى الدول الخليجية، واختتم مقاله بالقول بأن صواريخ المقاومة جعلت الحياة بالنسبة إلى الفلسطينيين لا تُطاق، فيما يُمضي قادتها أيامهم في ضيافة دمشق والضاحية الجنوبية.
جدوى صواريخ المقاومة

منذ عام 2001، بدأت المقاومة بإطلاق صواريخها على الكيان المحتل، ويمكن القول بأن إعلان قوى الاحتلال الانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة، بعد احتلال دام 38 عاماً، أو ما أسموه بـ «فك الارتباط» بين 15 أغسطس/ آب، 12 سبتمبر/ أيلول 2005، وتفكيك جميع المستوطنات التي كانت تؤوي ما يزيد على 8000 مستوطن وإزالة جميع المنشآت العسكرية. من أهم منجزات هذه الصواريخ، التي يصفها البعض بالعبثية. بالإضافة إلى تحرير القطاع، فقد أدى هذا الانسحاب إلى زيادة قوة المقاومة وبالتالي تطور الصواريخ التي باتت تستخدمها تطوراً نوعياً، ما أدى إلى تمكنها من نقل المعركة إلى قلب الكيان الصهيوني.
ومن آثار هذه الصواريخ تعطيلها سير الحياة اليومية في المدن والبلدات المحتلة، والإضرار باقتصادها، وإصابة سكانها بالرعب، الأمر الذي دفعهم للمغادرة. وفقاً للأمم المتحدة، فإن 40% من سكان سديروت، كانوا قد تركوا المدينة في مايو/ أيار 2007، وذكرت وسائل إعلام المحتل في 28 مايو 2007، أن 800 تلميذ فقط، من تلاميذ المدينة أصبحوا يذهبون إلى المدارس، نتيجة للشعور بالخوف والقلق، وكان السكان قد وجهوا لومهم لحكومتهم لأنها لم تتمكن من صد هذه الصواريخ، معتبرين المدينة مكاناً غير آمن للعيش
. وفي 12 ديسمبر/ كانون الأول 2007، بعد سقوط أكثر من 20 صاروخاً في منطقة سديروت في يوم واحد، أعلن رئيس بلدية المدينة إيلي مويال استقالته
، مشيراً إلى فشل حكومته في وقف الهجمات الصاروخية. كما ذكرت وكالة الأنباء البريطانية أن 3000 من سكان سديروت كانوا قد غادروا البلاد عام 2008.
خلال 2008-2009، فرّ خُمس سكان عسقلان، وأغلقت المحال التجارية والمصانع، ما سبب أضراراً اقتصادية كبيرة أدّت إلى تحويل 20% من سكان المدينة إلى عاطلين عن العمل، ووفقاً لوسائل الإعلام الإسرائيلية،
فإن 40% من سكان المدينة كانوا قد فروا من البلاد، رغم مناشدة العمدة لهم للبقاء.
وتُشير التقارير إلى انخفاض معدلات الهجرة إلى الكيان الصهيوني مع ارتفاع معدلات الهجرة منه، كلما زادت قوة صواريخ المقاومة وقدرتها على الوصول إلى العمق الصهيوني، وشل الحياة والحركة الاقتصادية فيه، على سبيل المثال، ذكرت صحيفة «هآرتس» أن الهجرة إلى إسرائيل انخفضت إلى أدنى مستوياتها في عام 2007، وقالت «يديعوت أحرونوت»، أن ربع سكان إسرائيل يدرسون خيار الهجرة، مع إعراب نصف شباب البلاد عن رغبتهم في مغادرة البلاد. كذلك تراجعت هجرة اليهود إلى دولة الاحتلال،
وبحسب استطلاعات «مؤتمر هرتزليا» فقد أكد 22% من الإسرائيليين ميلهم للهجرة نتيجة الوضع الاقتصادي والأمني المتدهور والفساد والبحث عن حياة أفضل، وأشارت القناة الإسرائيلية العاشرة إلى أن 16 ألف يغادرون إسرائيل سنوياً، وبحسب استطلاع للرأي أجرته القناة فإن 56% يفكرون بالهجرة، ويعود الفضل في ذلك لصواريخ المقاومة التي تمكنت من توسيع هوّة الأزمات التي تعاني منها دولة الاحتلال، مثل عجز الموازنة الأمنية الذي وصل إلى سلاح الجو.

ترى جماعة الإخوان أن الأولوية هي لتربية المجتمع شرطاً مُسبقاً لبدء الجهاد
على الصعيد المادي، سببت صواريخ المقاومة خسائر مالية كبيرة لاقتصاد الكيان الصهيوني، بعد أن شلت المطارات وحركة السياحة وأجبرت المحال التجارية على أن تغلق أبوابها. وفقاً لقناة «الجزيرة»، فقد أشار موقع «غلوبز» المعني بالاقتصاد الإسرائيلي، إلى أن استمرار إطلاق المقاومة لصواريخها داخل العمق الإسرائيلي، وتوسُّع نطاق هذه الصواريخ، قد أدّى إلى إلحاق أضرار اقتصادية مباشرة لدولة الاحتلال تصل إلى 3 ملايين دولار، وإذا قارنّا هذه الأضرار بالأضرار غير المباشرة فإننا نجد كلفة الضرر غير المباشر أعلى بكثير، إذ انخفضت حركة البيع داخل الخط الأخضر بنسبة 50%، خصوصاً في الوسط والجنوب، فتوقفت حركة التجارة والسياحة والمرور، وأغلق ميناء أسدود البحري أبوابه، ما جعل الكلفة غير المباشرة تصل إلى ما يقارب 80 مليون دولار يومياً. وذكرت تقارير اقتصادية إسرائيلية أن الكلفة التقديرية للعمليات العسكرية التي بدأتها دولة الاحتلال في السابع من يوليو/ تموز لهذا العام، قد تجاوزت 2.5 مليار دولار، ووفقاً لصحيفة «هآرتس»، فإنه كان يُتوقع أن يزور دولة الاحتلال ما يقارب 800 ألف سائح، بين يوليو وسبتمبر، لكن التوقعات انخفضت إلى 280 ألف سائح فقط، وذلك بفعل صواريخ المقاومة. وذكرت ذات الصحيفة أن سلاسل محال بيع الملابس الكبرى، قد انخفضت مبيعاتها لحوالى 80%، خلال الأيام القليلة الماضية. وعلاوة على ذلك، فقد رفع المستوطنون أكثر من 160 دعوى على الحكومة الإسرائيلية
طالبوا فيها بتعويضات مقابل أضرار لحقت بمركبات ومبان ومناطق زراعية لديهم، إلى جانب أضرار أخرى لحقت بالمرافق الأساسية وشبكات الكهرباء بفعل الصواريخ الفلسطينية. وتجدر الإشارة إلى أن اعتراض القبة الحديدية لصاروخ مقاومة واحد يكلف ميزانية دولة العدو ما يقارب مئة ألف دولار، فضلاً عن كلفة نظام القبة نفسه، كما تحدث خبراء عن فشل القبة
في أداء وظيفتها.
علاوة على ذلك، فقد أسهمت المقاومة في كشف الوجه الحقيقي لكيان الاحتلال بعد أن أظهر للعالم همجيته وهز صورته لدى الرأي العام الغربي، مع تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، إذ قُهر في أكثر من موقع وأكثر من مواجهة، بدءاً من الخسائر التي تكبدها في انتفاضة الأقصى، وصمود مخيم جنين الأسطوري أمام دبابات وطائرات المحتل، ومروراً بإنهاء الكيان الصهيوني عدوانه على غزة في كل مرة دون أن يحقق أياً من أهدافه المعلنة. مع تأكيد دور صواريخ المقاومة في زعزعة الأمن في الأراضي المحتلة والمستوطنات بعد أن وصلت إلى مواقع حساسة مثل مطار بن غوريون في تل أبيب، وديمونة النووية، ومطارا نيفاتيم وريمون العسكريّان، واقتحام قاعدة زيكيم العسكرية، بالإضافة إلى قصف تل أبيب وضواحيها بصواريخ «جعبري 80»، وتوجيه المقاومة صواريخها نحو قاعدة عسكرية في أسدود تحوي صواريخ نووية من طراز «حيتس 2» و»يريح 2»، وقصف نتانيا و
نهاريا لأول مرة، كما تمكنت كتائب القسام بالاشتراك مع سرايا القدس، من صد محاولة إنزال لجيش الاحتلال، بعد أن حاول التسلل من البحر إلى البر شمال قطاع غزة، واعترف جيش الاحتلال بإصابة عدد من جنوده. وكانت كتائب القسّام قد أعلنت أن مهندسيها تمكنوا من تصنيع طائرات من دون طيار تحمل اسم «أبابيل 1»، ونفذت طلعات بمهمات محدودة فوق وزارة دفاع الكيان المحتل. أثبت هذا العدوان فشل دولة الاحتلال على جميع الأصعدة، فبدلاً من أن تحقق أهدافها في إيقاف صواريخ المقاومة وجلب الأمن للمستوطنين، جلبت صواريخ المقاومة -التي تمكنت من تطوير ترسانتها رغم الحصار-، إلى رقعة واسعة من مدن وبلدات فلسطين الواقعة تحت الاحتلال، ما أصاب أعداداً من الصهاينة بنوبات رعب وهلع ودفع الملايين منهم للفرار والاختباء في الملاجئ.
من هنا، يتضح الدور الكبير الذي تلعبه صواريخ المقاومة في رد العدوان الإسرائيلي، وتكبيده الخسائر المادية والمعنوية، وإفشال مخططاته، بل وتمكنها من التأثير في البعد الديموغرافي للكيان الصهيوني، بعد ضربه في العمق، ما ساعد في انخفاض معدلات الهجرة إلى إسرائيل وزيادة الهجرة العكسية، الأمر الذي يسبب هاجساً حقيقياً لكيان الاحتلال. مع أهمية الإشارة إلى أن المقاومة في غزة لا تمثلها حماس بذراعها المسلح «كتائب عز الدين القسام» منفردة، وإنما يجري التنسيق مع الأجنحة المسلحة لحركة فتح، والجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ولجان المقاومة الشعبية، وغيرها من الفصائل المسلحة.

حماس: نشأتها وسياستها وأهدافها

حتى نفهم الخلفية التي نشأت على أساسها حركة حماس، علينا أن نعود إلى جذور الحركة، وبالتحديد بدايات جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، والتي تعود إلى أواسط الثلاثينيات، عندما أرسل مرشد الجماعة في مصر حسن البنا شقيقه عبد الرحمن إلى فلسطين، وقد بدأ بتشكيل بناء جماعة الإخوان التنظيمي عام 1946، عندما أنشأت فروعاً عدة في مدن وقرى مختلفة، أهمها وأولها مدينة القدس، وقد سُمي الشيخ «أمين الحسيني» قائداً محلياً للإخوان في فلسطين، الذين كانوا على اتصال بالشيخ «عز الدين القسّام»، ويمدونه بالمساعدات. وشارك متطوعون من إخوان مصر وسوريا والعراق والأردن جنباً إلى جنب مع إخوان فلسطين في حرب 1948، ما أعطى للحركة زخماً ومكنّها من الانتشار في الضفة والقطاع، في الفترة بين 1948-1967.
أدّى احتلال ما تبقى من أرض فلسطين عام 67، إلى انقطاع العلاقة بين جماعة الإخوان في مصر وقادة ومؤيدي الإخوان في فلسطين، فأصبح قادة الجماعة الفلسطينيون يعملون كقيادات ميدانية، معتمدين على قدراتهم الذاتية، ومرتبطين بواقعهم الفلسطيني، أكثر من اعتمادهم على الحركة الأم، أو ارتباطهم بها.
انفصلت «حركة الجهاد الإسلامي» عن جماعة الإخوان المسلمين عام 1980، كرد فعل على تركيز الإخوان على ما يُسمى بتنشئة المجتمع المسلم، وعدم انخراطها في محاربة الاحتلال. وقد أُسست الحركة على يد اثنين من لاجئي 48 في مخيمات قطاع غزة، وهما «فتحي الشقاقي» و»عبد العزيز عودة»، وكانا يتفقان مع إيدلوجية الإخوان في الحاجة إلى بناء دولة إسلامية تُطبق الشريعة، لكن الاختلاف الكبير بين الجماعتين يكمن في ترتيب الأولويات لا سيما في ما يتعلق بقضية فلسطين والتوقيت المناسب لتحريرها، ففي حين ترى جماعة الإخوان بأن الأولوية هي تربية المجتمع المسلم، كشرط مُسبق لبدء الجهاد والتحرير، أي أنه لا يمكن القيام بالكفاح المسلح، إلا بعد أن يتم إصلاح المجتمع. كانت حركة الجهاد الإسلامي تعتبر تحرير فلسطين قضيتها المركزية، وتدعو إلى بدء الكفاح المسلح من دون أي شروط مُسبقة، وترى أن مشاكل الوطن العربي لن تُحل عن طريق اتخاذ تدابير تدريجية، مثل «الهدنة» أو «الإصلاح»، رافضة أي حل غير الحسم الثوري. في ذات السياق، كان تعايش الإخوان المسلمين مع الأنظمة العربية، خصوصاً تلك التي تربطها علاقات قوية مع الغرب، محل اعتراض حركة الجهاد الإسلامي، معتبرة هذه الأنظمة «الحزام الأمني الفعلي» للكيان الصهيوني. كما أن الموقف من الثورة الإسلامية في إيران، كان مصدر اختلاف آخر بينهما، ففي حين نظرت جماعة الجهاد إلى آية الله الخميني كمصدر إلهام ثوري، كانت جماعة الإخوان أكثر حذراً في موقفها منه، بخاصة بعد اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية.
غيّرت الانتفاضة الأولى عام 1987 المعطيات على الأرض كافة، ولم يكن ممكناً أن تبقى جماعة الإخوان على الهامش من دون أن تشارك في العمل المسلح، فعقد قادة الجماعة اجتماعاً في منزل الشيخ أحمد ياسين، لمناقشة سُبل التعاطي مع هذه المتغيرات والاستفادة منها، فجاء القرار بإنشاء حركة «حماس». ويرى الكاتب والسياسي الفلسطيني زياد أبو عمرو أن تأسيس حركة حماس جاء ليوفّر إطاراً يتحمل مسؤولية تغير موقف جماعة الإخوان، الذي كان حتى لحظة اندلاع الانتفاضة يرى أن الوقت لم يحن بعد لمواجهة الاحتلال، وأنهم لا يزالون في طور إعداد وتربية الجيل المسلم، الذي سيبني المجتمع الإسلامي، كمقدمة لإعلان جهاد العدو. لذا لم يكن من السهل تبرير انخراط الإخوان المفاجئ في الانتفاضة، فكان بيان إعلان حركة حماس في الرابع عشر من ديسمبر/ كانون الأول 1987، خالياً من ذكر جماعة الإخوان المسلمين، كوسيلة للانضمام للعمل الثوري من دون المساس بالحركة الأم، فإذا فشلت الحركة في الانتفاضة تُحمّل حماس مسؤولية هذا الفشل، وإن نجحت يُنسب هذا النجاح للإخوان المسلمين، فكانت النتيجة أن كسبت حماس بعد دورها المهم في الانتفاضة الأولى، أتباعاً ومؤيدين جدداً لم يكونوا من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، وبالتالي، وضّحت حماس استراتيجيتها وأهدافها في الميثاق الذي أصدرته في الثامن عشر من أغسطس/ آب 1988، والذي يوضح في مادته الثانية أن حركة المقاومة الإسلامية جناح من أجنحة الإخوان المسلمين في فلسطين. ويركّز الميثاق على الجهاد وتحرير فلسطين، أكثر بكثير من تركيزه على تنشئة أو بناء المجتمع المسلم.
تميزت حماس ببنائها اللامركزي وتوزيع السلطات داخل الحركة، مع وجود التنسيق والاتصال بين مختلف الوحدات السياسية والعسكرية، حتى تتمكن من العمل في ظل الظروف الأمنية المعقدة، وكان لذلك أثره الكبير في إفشال جهود قوات الاحتلال الرامية إلى القضاء على الحركة من خلال القضاء على رموزها بالاغتيال أو التغييب في المعتقلات. على سبيل المثال، غُيِّب الصف الأول من قيادات الحركة، على رأسهم الشيخ الشهيد أحمد باسين والدكتور عبدالعزيز الرنتيسي، بعد أن قام الصهاينة باغتيالهم أثناء انتفاضة الأقصى، من دون أن يؤثر ذلك في بقائها واستمراريتها.
قيّد اتفاق أوسلو، الذي وقّعته منظمة التحرير مع الكيان الصهيوني عام 93، من حرية المقاومة، ووضعها في مواجهة مع السلطة التي قدّمت التزامات أمنية لدولة الاحتلال، لذا رفضت حماس هذا الاتفاق وسعت لمواجهته سلمياً، لكن الذي أفشل أوسلو هو الشروط المجحفة التي قام عليها منذ البداية، وتعنُّت المحتل ورفضه التزام هذه الشروط، وسعيه الدائم إلى تمديد عملية الاستيطان وابتلاع الأراضي الفلسطينية، وملء السجون بالأسرى، مستغلاً غياب أي نص صريح يشترط إنهاء الاحتلال أو وقف الاستيطان أو إطلاق المعتقلين في سجون الاحتلال أو حتى لفظ «دولة فلسطينية مستقلة»، الأمر الذي سمح للصهاينة باستخدام هذه الملفات لمساومة وابتزاز المفاوض الفلسطيني الذي دخل عملية التسوية كطرف أضعف يُقدّم التنازلات من دون أن يحصل على شيء. رغم ذلك، استمر الزعيم الراحل ياسر عرفات في المسيرة السلمية، حتى جاءت قمة كامب ديفيد الثانية، تحت رعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون، الذي أراد أن يجري التوقيع على الاتفاق النهائي بين الجانبين خلالها، إلا أن رفض ياسر عرفات التوقيع على الاتفاق الذي يتضمن التنازل عن القدس وحق اللاجئين بالعودة، أثبت أن عملية أوسلو كانت فاشلة منذ البداية، وأن هدفها لم يكن إقامة سلام دائم، بل الضغط على المفاوض الفلسطيني ليقدم مزيداً من التنازل والاستسلام.
أما في ما يخص التمويل، فقد كانت حماس مرتبطة بشكل وثيق مع جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، التي قدمت لها الدعم السياسي والمادي والمعنوي، إضافة إلى تمتع الحركة بدعم الحركات الإسلامية في مصر والسعودية ودول الخليج والسودان وتونس والجزائر، كما كانت علاقتها جيدة مع حكومات هذه البلدان، ناهيك عن الدعم الذي تتلقاه من الجمعيات والمنظمات الإسلامية في الولايات المتحدة وأوروبا. لكن علاقة حماس مع السعودية والخليج تدهورت، بعد الغزو العراقي للكويت، ورفضها الشديد للتدخل الأجنبي في المنطقة، في الوقت ذاته تحسنت علاقتها مع إيران، خصوصاً بعد تحسن العلاقة بين إيران والإخوان في الأردن، وقد حرصت حماس على إيجاد حلفاء بعد تدهور علاقاتها مع الخليج، ففتحت مكتباً لها في طهران، التي وفّرت بدورها التدريب والدعم المادي للحركة.
بعد فوز حماس بالانتخابات التشريعية في يناير/ كانون الثاني 2006، وبالتالي قيامها بتشكيل الحكومة، أعلنت كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، العزم على قطع الاتصالات السياسية كافة مع حكومة حماس، وفرض الحصار الاقتصادي عليها، عن طريق وقف المساعدات التي كانت تعتمد عليها الحكومة السابقة لتتمكن من صرف الرواتب وتسيير حياة المواطنين. ولا شك في أن هذه المساعدات كانت تُقدم لأهداف سياسية، وبناء على شروط ترفضها حماس رفضاً جذرياً، وكان هدف هذا الحصار هو عزل الحكومة ودفعها للفشل، حيث يعاقب المجتمع الدولي الذي يدّعي بأنه حامل شعلة الحرية إلى المنطقة، شعباً كاملاً بسبب خياره الديمقراطي، ساعياً إلى تركيع الشعب الفلسطيني والمقاومة، وتحويل الكفاح لأجل التحرر إلى كفاح من أجل الحصول على الغذاء والدواء. ومع ذلك؛ راهنت حماس على عمقها العربي والإسلامي، لكنه رهان أثبت فشله -مع الأسف-، إذ أثبتت معظم الحكومات العربية تبعيتها للولايات المتحدة، ولم يقم بتمويل حماس سوى دولة إيران، التي ضاعفت من دعمها المادي واللوجستي للحركة، مع استضافة سوريا لقيادتها وكوادرها، والسماح لهم بممارسة أنواع التدريب على أرضها، ودورها المهم كقناة للأسلحة، بالإضافة إلى تقديم حكومتي قطر وتركيا
المساعدات المالية، خصوصاً بعد العدوان على غزة عام 2009، وإسهامهما في إعادة الإعمار. وتجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة كانت قد هددت بتوجيه تهمة تمويل الإرهاب لأي جهة تُسهم في تحويل المال لحكومة حماس، مراهنة على أن سياسة التجويع ستدفع الشعب إلى إسقاط حكومته التي انتخبها، لكن الواقع أثبت أن التجويع أدّى إلى مزيد من الالتفاف حول المقاومة ومزيد من الكراهية للغرب والحكومات العربية المتواطئة معه.

عقب انسحاب قوى الاحتلال من قطاع غزة عام 2005، بدأت فصائل المقاومة بزيادة مخزونها من الأسلحة، وكانت الأنظمة المصرية والأردنية، التي تتحكم في الحدود مع فلسطين، أكبر عائق يواجه استيراد هذه الأسلحة. لذا أنشئت قناة اتصال تربط ممثلين عن الحرس الثوري الإيراني والجيش السوري وحزب الله وحماس لتنسيق توريد السلاح، بالإضافة لقنوات أخرى تمد الفصائل الفلسطينية المُقاوِمَة، مثل الجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وبعض أعضاء شهداء الأقصى والناصر صلاح الدين، فضلاً عن قيادة الجبهة الشعبية العامة. نجحت وحدات النقل في إيصال أنواع عديدة من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة وقذائف الهاون، بالإضافة للصواريخ متوسطة وطويلة المدى، وكذلك أنواع عدة من الذخائر والمواد التي يمكن استخدامها في تصنيع الصواريخ والقنابل. وعملت على نقل مئات المقاتلين من غزة إلى سوريا وإيران، حيث دربوا على بعض التكتيكات العسكرية، واستخدام معدات خاصة، مثل مضادات الدروع والأسلحة المضادة للطائرات. عادة ما تبدأ رحلة هذه الأسلحة في الموانئ الإيرانية أو السورية، ومن ثم تتوجه إلى السودان بعد توقف في العراق، حيث تنقل من السودان إلى سيناء في مصر، وتنتهي الرحلة في قطاع غزة، وتوجد طرق أخرى يستخدمها المهربون للوصول إلى القطاع.
وكانت السلطات المصرية قد تمكنت عام 2009 من القبض على خلية تابعة لحزب الله تقوم بتهريب السلاح إلى غزة عبر الأنفاق بقيادة سامي شهاب، الذي قامت عناصر من حزب الله والفصائل الفلسطينية مع مساعدة عدد من بدو سيناء، بتهريبه من السجن مع عدد من رفاقه عام 2011 (بحسب شهادة وزير الداخلية المصري السابق). كما تعرضت السودان للقصف الجوي الصهيوني أكثر من مرة، في استهداف لشحنات أسلحة كانت في طريقها إلى غزة. إلى جانب تهريب السلاح، قامت إيران بتدريب عناصر من المقاومة على كيفية صنع الصواريخ، أو كما أسماها قائد الحرس الثوري بـ «نقل تكنولوجيا صناعة الصواريخ إلى غزة، والهدف من اكتساب هذه المعرفة؛ هو تهريب السلاح عبر أدمغة الفلسطينيين، ليصبح بإمكانهم تصنيع الأسلحة بأنفسهم، في إطار فلسفة أن المعرفة لا يمكن أن تتعرض للقصف». أي أن الحركة تحظى بدعمٍ سياسي ومادي من قطر وتركيا، فيما تقدم إيران جنباً إلى جنب مع حزب الله الدعم العسكري للحركة -رغم الخلاف مع المكتب السياسي- مع أهمية دور السودان في إيصال الدعم اللوجستي إلى قطاع غزة.

تميزت حماس ببنائها اللامركزي مع توافر التنسيق بين مختلف الوحدات
في السياق ذاته، يُثير دعم إيران لحماس والمقاومة كثيراً من الجدال في المنطقة المقسّمة إلى محاور، والتي تُعاني من الاستقطاب الطائفي الشديد، فهناك من يعتبر المقاومة «خادماً» لإيران أو أداة بيدها نتيجة هذا الدعم، وهناك من يستغل الدعم ليمجّد إيران ودورها في المنطقة، ومن هنا، هذه محاولة لتوضيح شكل علاقة إيران بحماس، بعيداً من الاستقطاب وصراع المحاور؛ تُشكل الخلفية الإيديولوجية للطرفين رغم الاختلاف المذهبي، نقطة التقاء خاصة في الموقف من الكيان الصهيوني ورفض الاعتراف به، لذا فإن الهدف المشترك يُعزز من قوة علاقتهما، إلا أن استقلالية حماس ورفضها أن تكون تابعاً للجهة الممولة تصطدم برغبة الهيمنة التي لا تُخفيها طهران، وبرز ذلك عندما رفضت حماس دعم النظام السوري، وأعربت عن تأييدها لخيار الشعب، ومن ثم خروج قيادتها من دمشق مطلع عام 2012، وبالتالي قيام السلطات السورية بمداهمة و إغلاق مكاتب الحركة هناك، والتي كانت قد افتُتحت منذ عام 1997، في حين ألقت إيران بثقلها كاملاً خلف النظام السوري وقدّمت له كل أشكال الدعم، الأمر الذي وتّر العلاقة بين حماس وإيران وأدّى إلى تراجع -وقيل انقطاع- هذا الدعم. دائماً ما كانت حماس ترفض التدخل في الشأن الداخلي لأي بلد عربي، مع رفض الانخراط في أي حلف إقليمي قد يجعلها في موقع عداء مع دول عربية عدة، تحرص على أن تكون علاقتها بها جيدة أو غير سيئة في أقل تقدير، الأمر الذي لا يتوافق مع استراتيجية إيران التي تسعى إلى بناء حلف متماسك ومتجانس بدرجة كبيرة.
دعم وتسليح إيران للمقاومة ليس عملاً خيرياً يُقدّم من دون شروط، ومع ذلك فهو لا يعني التبعية الكاملة، بل تتمتع المقاومة بقدر من الاستقلالية يجعلها تُمثل خيار قطاع كبير من الفلسطينيين، وإن كانت إيران تمتلك موارد مالية وتسليحية ضخمة، فحماس تمتلك موارد رمزية كبيرة، تستطيع مقايضة إيران من خلالها، إذ أن قبولها للدعم الإيراني يكسر من حدة اللون المذهبي لدور إيران في المنطقة، فلا تظهر بمظهر قائد لتحالف شيعي، بل تحالف متنوع مذهبياً. كما أن السماح لإيران بلعب دور في القضية الفلسطينية، يقوي من دورها الإقليمي في المنطقة، لمركزية قضية فلسطين لدى الشعوب العربية وما تمثله من رمزية لديهم. هذا الرصيد الرمزي للمقاومة، يوازن ضعفها المادي في علاقتها مع إيران، ويمنحها هامشاً من الاستقلالية. وليس أدل على ذلك من قرار حماس عدم دعم النظام السوري، وما كانت لتتمكن من اتخاذ هذا القرار، لولا تغير الظروف المحيطة بعد الربيع العربي، وصعود قوة قريبة منها في مصر.
تُعاني حماس اليوم من تضييق الخناق عليها بعد الانقلاب الذي حدث في مصر، ومعاداة حكومة السيسي الصريحة للمقاومة ووصفها بالإرهاب، ومطاردة قوى الاحتلال بالتعاون مع الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية لقيادات وكوادر المقاومة في الضفة الغربية، بالتزامن مع عدم وجود دعم حقيقي مالي ولوجستي للحركة، رغم الدعم الذي تحاول تقديمه كل من تركيا وقطر، لكنه دعم محكوم بسياسات وظروف البلدين، ويركز على مشاريع البنية التحتية وإعادة الإعمار. جميع هذه العوامل تجعل حماس بحاجة إلى تحسين علاقتها مع كل حلفائها ومن بينهم إيران، وهذا لا يعني بأن المقاومة ستنتهي إن انقطع عنها الدعم الإيراني، ولكنها بالتأكيد ستتأثر، خاصة مع غياب أي دعم شعبي عربي، بسبب غياب المجتمع المدني الناتج من استبداد الحكومات، واستخدامها للدعم إن قدمته كأداة ضغط، لتحقيق أهداف لا تخدم المقاومة، مع استخدام الآلة الإعلامية لتشويه المقاومة ورموزها.
تتلقى حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الدعم ممن يُقدمه، وإذا كان الدعم الإيراني مزعجاً للبعض، باعتباره متاجرة بالقضية الفلسطينية، فلِمَ لا يطلب هؤلاء من الأنظمة العربية التي يؤيدونها قطع الطريق على إيران وتقديم الدعم للمقاومة؟ أما الانزعاج من هذا الدعم في ظل التخاذل والتواطؤ العربي، واتهام حماس بالولاء لإيران وتنفيذ أجندتها، ما هو إلا استخفاف بالعقول، ومحاولة لشيطنة المقاومة، وذلك ما دأب عليه بعض رموز الإعلام العربي. وإذا كانت مشكلة البعض مع حماس هي انتماؤها لجماعة الإخوان المسلمين، فهناك فصائل مقاومة أخرى مثل الجبهة الشعبية وكتائب شهداء الأقصى، وهما حركتان علمانيتان، فلم لا يُقدم أعداء الإسلام السياسي الدعم لحركات المقاومة العلمانية؟ إلا إذا كانت مشكلتهم مع المقاومة كمبدأ... وهذا هو الواقع.
بُلينا بكتابٍ ارتضوا أن يكونوا أبواقاً تُردد دعايات الصهاينة، فتُبالغ في تصوير قوة العدو، مع المبالغة في التقليل من إنجازات المقاومة، حتى أنها تسعى جاهدة لتحويل أي انتصارٍ لها إلى هزيمة. تهدف مثل هذه الأقلام إلى هز ثقتنا بأنفسنا وفي قدرتنا على المواجهة والانتصار، لتخدم حكومات تتبنى منطق الصهيوني، وتسعى إلى التطبيع معه. ولأنه يصعب على مثقفي الوجبات السريعة فهم معنى العزة والكرامة، فإنهم يحاولون البحث عن أسبابٍ (غير وجود الاحتلال)، تدفع من اغتُصبت أرضه لاختيار طريق النضال لتحريرها، فيتحفون قراءهم بأسباب تصل في سذاجتها إلى اعتبار عدم التمكن من الحصول على تأشيرة عمل في إحدى دول الخليج، دافعاً للانضمام إلى صفوف المقاومة!

* كاتبة سعودية