لا تُستلّ الكينونة من الآخر وتفضيلاته، تبدأ من تعريف الذات، ثمّ يمكن الوقوف على الآخر وكيف يراني. ولا يمكن تعريف ذات على «لاءات» أو على مصلحة آخر(ين) ببقائها وعدم امّحائها. كيف بنا إذا ما كنّا نتحدّث عن كينونة سياسية ووطن. إنّ أوّل ما سنحتاج إليه هو شرعية أعلى تحتوي مقصداً وغاية أسمى من أيّ مصالح فرعية توحّد الإرادة وتدفعها قدماً، ونحتاج إلى شبكة تفاعل بينية وخبرة عيش محمودة تشدّ الأواصر واللحمة في مواجهة أسئلة الزمن وتحدّياته. إنّ الوطن قبل كل شيء حقيقة يُفترض أن تمنح أهلها معنى وجودياً وشعوراً خاصاً بالانتماء. أمّا الدولة، كحقيقة اجتماعية - تاريخية، فيجب، إلى ذلك، أن تمنحهم مكانة ودوراً وتوزع بينهم القيم بعدالة وتعقلن تنظيم شؤونهم وتعمّق إدراكهم لوحدتهم وتسهر مؤسساتها على تقدمهم وازدهارهم.إنّ قصة لبنان، كمشروع وطن ودولة، تبدو أكثر إثارة من غيرها من الكينونات السياسية في هذا المحيط، فسؤال الانتماء والهوية والدولة لا يني يطرح نفسه عند كل استحقاق ومفصل وتحدّ. وإذا استثنينا الكيان الصهيوني كحالة شاذّة لجهة هويته وفكرة اجتماعه، فيمكن القول إنّ لبنان من أكثر الدول في منطقتنا التي تعاني توتّراً في إدراك معنى كينونتها وفلسفة اجتماعها. قلّما ترى شعباً تفرّقه الملمّات بدل أن تقرّبه، وبينما يحدّثنا التاريخ عن أمم تتجاوز انقساماتها الداخلية بصناعة الأعداء، فإنّ لبنان يكاد يكون من البلدان القلّة التي تعاني من عدو حقيقي فعلي غير مصطنع ولا متوهّم اسمه الكيان الصهيوني، ومع ذلك لم يسعف عداؤه لكياننا في لمّ شملنا، وربّما هذه إحدى مفارقات هذا اللبنان التي تستحق التوقّف عندها.
إنّ البحث في لبنان الكيان، الوطن، الدولة، والمستقبل، يزداد إلحاحاً، فعندما نواجه أزمة خطيرة تصل إلى انقسام كل شيء وتشظّيه كالتي يعيشها بلدنا اليوم، بينما يمرّ عالم اليوم بتحوّل تاريخي غير مسبوق، يصبح حريّاً بنا أن نبحث أعمق ولا نبقى رهناً للمجريات. فإذا لم نشخّص داءنا لن نشخّص دواءنا، فليست المشكلة مشكلة مؤسسات، فالأخيرة، من قضاء وأمن وغيرها، كما آليات الديموقراطية ونظام الحكم وغيرها، كلها لاحقة لحقيقة الوطن وفكرة الدولة، وليست سابقة، لذلك ليس المطلوب أن نحاكم عطوبتها، هي نتيجة وليست سبباً. لذلك عندما تغيب فكرة الدولة ستكون المؤسسات بحاجة إلى راع أو وصيّ أو منتدب يوازن وينظّم سيرها، ومن ثم لازمة «عدم بناء الدولة هي الوصاية ولا شيء آخر أو التحلّل»؛ وهنا يمكن الحديث عن مفارقة جديدة من مفارقات التجربة اللبنانية: إذ يدّعي اللبنانيون رفض الوصاية، وطالما تقاعسوا عن بناء دولة ووطن! فأن ترى اللبنانيين، بعد مئة عام على عمر كيانهم، يختلفون على ماهية وجودهم وعن تصورهم لاجتماعهم ودورهم ومزيّتهم ونوعية التفاعلية البينية اللازمة والإسهام الذي يفترض أن يميّز كيانهم في المسار البشري لهي مفارقة كبيرة بحق، والأخطر هو أن تسمع أنّ حل المشكلة يكمن في العودة إلى الوراء، فنعيد لبنان إلى لحظة من تاريخه - مختلف على تقييمها - كأنّ لبنان بدعة إنسانية لا يخضع للتحوّل والتبدّل أو كأنّ التاريخ جمود ولا يخضع لسنن التطور والتدافع ودينامياته.
إنّ ما يزيد من إلحاحية البحث، كما أسلفنا، هو أنّ هذه الأسئلة تأتي في ظرف استثنائي على المستوى الدولي، فالعالم يمرّ في لحظة تحوّل تاريخية، والمتتبّع لتاريخ لبنان السياسي يجد «اقتراناً لافتاً» يسترعي التنبّه واليقظة بين لحظات التغير الجوهري الذي مرّ بها هذا الكيان ولحظات التحولات الدولية المفصلية، فلبنان نشأ من رحم التحوّل الدولي الأوّل مطلع القرن الماضي (الحرب العالمية الأولى) وفي خضمّها، وتبلور رايخه الثاني (الميثاق) عام 1943 في خضمّ التحوّل الدولي (خلال الحرب العالمية الثانية) وانتقل إلى رايخه الثالث 89-90 على وقع انهيار نظام القطبين، فكيف ستكون هيأته وصورته على أثر المخاض العالمي والتاريخي الجاري اليوم واتجاهاته المتولّدة.
نعم، في اللحظات التحولية تتبدّل قواعد وتتأسّس أخرى، تذوي قيم وأفكار سياسية وتنهض أخرى، ربّما تتعدّل جغرافيا وتنشأ أخرى، هذا ما حدث حينما تحوّل النظام الدولي حين نشأ الكيان اللبناني وحضّرت أرضية ما يسمّى «دولة إسرائيل» مع بلفور، وضاعت مشاريع وأحلام كبرى للوحدة في سان ريمون بعدما وجدت بريطانيا أن سايكس - بيكو لا يعطيها ما يوازي قوتها مقارنة بفرنسا، وتولدت دول وممالك ومراكز غلب عليها التناحر، وهذا ما برز في يالطا نهاية الحرب العالمية الثانية التي لا نزال نعيش تبعاتها إلى يومنا في كل شيء تقريباً.
هل لنا أن نغرق في سبات بانتظار النتائج، أم أنّ في الأمر تهديداً لمستقبلنا؟ فتحدّي الحضور، بل والوجود والاستمرار، مقترن بتحديد الهيئة والشاكلة وعقد العزم وإنتاج فكرة تقنع الشعب، فضلاً عن الغير، بمبررات الوجود وحاجة الحضارة الانسانية. إنّ كياناً لا تحتاج إليه الحضارة الإنسانية لن يكون إلا تجميعاً كميّاً فحسب، وسيفقد معناه ويتلاشى عاجلاً أو آجلاً في عالم هادر لا يهدأ، ناهيك أنّ كل ما دون المعنى والقضايا المتسامية لا يليق بالكرامة الإنسانية والإنسان.
في أيّ منزلة نحن؟ هل لبنان حاجة؟ لمن؟ ما هي مبررات وجوده؟ هل لا تزال صالحة؟ هل انتفت وتغيّرت ونقترب من مبررات أخرى لقيامته ثم استمراره؟ أم أنّ بعضها لا يزال قائماً وبعضها يحتاج إلى تطوير على ضوء مئة عام من عمر الكيان وما مرّ به من تحدّيات وواجهه من استحقاقات، وبعضها يتولّد؟! هل نحن إزاء مجتمع أم كيان أم وطن أم دولة أمّ نتأرجح بينها جميعاً، أم استقررنا على منزل من هذه المنازل ونستعد للانتقال الى آخر؟ وهل لدينا فرصة للعبور الى دولة، أو بكلمة أكثر علمية إلى مجتمع سياسي موحّد يمتلك إرادة عامة ورؤية وتصوراً لما يريد... فبدون تحديد أين نقف، يصعب علينا الإجابة عن بقية التساؤلات والتفكير فيها.
في هذه المقالة، نحاول تقدير في أيّ منزلة يقف لبنان الآن؟ على أن ندرس لاحقاً طبيعة ونوعية التحولات التي أثّرت عليه، ثم نسعى إلى استشراف طبيعة المسار العالمي والإقليمي في لحظة التحوّل الجارية اليوم، لنصيغ رؤيتنا للمبررات التي يمكن للبنان أن يقوم على أساسها ويستمر، ثمّ نحاور في الطريق الموصل ومن أين تكون البداية.

في أيّ منزلة يقف لبنان الآن؟
أغلب الظّن أنّنا لا نزال بعيدين عن تلك الحقائق الاجتماعية المتمثلة بـ«الوطن، المجتمع السياسي والدولة». إنّ التقدّم الأبرز الذي يمكن الادعاء أنّه تحقّق خلال المئة عام أنّ جميع اللبنانيين باتوا على اقتناع بأنّ هذه الجغرافيا نهائية بالنسبة إليهم ولا يتطلّعون إلى بديل منها، وهذا معطى بالغ الأهمية. وبات يشعر أهله بالغيرية عن الآخرين، فاجتماعهم يختلف عن بقية الكيانات الأخرى ويتميّز بأمور عديدة عليهم المحافظة عليها، وأنّ هناك بعض العادات الاجتماعية والنمط الذي يتشابهون فيه.
في لبنان ما يشبه القناعة، أنّ المجتمع هو أساس هذا البلد ومحوريته، لا السلطة، وهو مصدر القوّة ويصرّ الجميع على هذه المسألة الحساسة وأنّ السلطة يجب أن تكون ملحقة به ومحضّرة له لا من تدفّقاتها، وهذا ما يكاد يتبنّاه الجميع تقريباً في ممارستهم وقناعاتهم. الجميع يتطلّعون إلى سلطة الحدّ الأدنى كي لا تحدّ من التحرّر وتعيد ذاكرة الهيمنات التاريخية والاستعمار، والتجربة لدى الجميع - بغضّ النظر عن تقييمنا - تصرّ على التأكيد أنّ المجتمع هو من حمى الكيان والدولة والاجتماع اللبناني من الخارج وليس الدولة ولا المؤسسات، أضف إلى ذلك أنّ الجميع يهرب من فكرة الدولة الشرطي إلى دولة تفتح لا تُغلق وتلحق بمجتمعها لا تُلحقه بها. لذلك، فإنّ ديناميكية الاجتماع اللبناني هي تنافسية تتيح الانطلاق منها واعتبارها نقطة التقاء وارتكاز. كما أنّ الجميع في لبنان يعتبر أنّ لديه علاقات وصلات خارجية ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية، ويجب أن يُبقي عليها وينمّيها في ظلّ نظرية التشابك الوظيفي وتداخل الانتماءات والثقافات، وأنّ هذه خاصية لا يجب تجاوزها أو إضعافها، بل يجب على أي سلطة عدم التعرّض لها. فالجميع يريد أن يبقى لبنان بلداً مفتوحاً وتفاعلياً مع العالم الخارجي لا أن يكون مغلقاً، وهذه نقطة التقاء وتقاطع أيضاً. وبعد، نحن كلبنانيين على توافق وشبه إجماع أنّنا لا نريد الحرب الداخلية، والسواد الأعظم بات على اقتناع بأنّ الحروب ليست أدوات التغيير الفعلية وليست المقاربة السليمة للحركة والتقدّم بالبلد. هذه النقطة أيضاً معطى يمكن البناء عليه.
أيضاً هناك نزعة تعظيم الوطن، لم ترق إلى إرادة عامة بعد، لكنّها تشقّ طريقها، وخصوصاً من الفئات التي عانت التهميش من الدولة، وهذه نقطة تقاطع نظرية يمكن الإفادة منها. كما يبدو أنّ غالبية المكونات تؤمن بأن لا معبر إلّا بالتوافق، وبضرورة تثبيت مسألة التنوّع كخاصية ضرورية للبنان، وهناك حقيقة أثبتتها التجربة التاريخية باستحالة جعل أي طرف البلد على مقاسه مهما قوي وبلغ، وهذا ما يبدو أن اللبنانيين محكومون له ولو قسراً ويمكن البناء عليه.
يمكن القول إنّ النهائية - غير الجغرافية - التي هي أحد أوجه السيادة ليست متبلورة بشكل كافٍ ولا تشكّل أساساً معيارياً في لبنان


عند هذا الحدّ فحسب، أعتقد أنّ اللبنانيين متفقون أو شبه متفقين. لكن، النهائية بمعناها البسيكولوجي والانتمائي والسياسي تبدو فكرة متهافتة، فلا ترى شعوراً باستقلال نفسي أو شعوراً بالذات الثقافية أو ندّية حيال الآخر وافتخاراً بما يملك، اللهم إلّا إذا كان لا يمتلك شيئاً! وهو ما لا أعتقد به. هل يتقدّم بلدهم على المصالح الفئوية وجاهزون للبذل من أجل النهوض به وحمايته وحفظ اجتماعه حتّى لو اقتضى بذل الأنفس؟ هناك تفاوت بين المكونات وربّما داخل المكوّن الواحد نفسه، فالبعض يهاجر فلا يعود، والبعض الآخر يرى في الجني بديلاً من الوطن، والبعض يرى في الغربة مع المال وطناً، والبعض لا يقبل أن تكون الدولة حلبة تنافس ومسرح التعديل بين قواها ومكوناتها، بل يريدها على مقاس نظرته وإلا سرعان ما يبحث عن وطن بديل! النهائية في ذهن شرائح عريضة من اللبنانيين تقتصر على العيش المادي وعلى نظرة أيديولوجية لا علمية من الآخر، ولا ترقى إلى التفاعل والخطاب الروحي والمعنوي والقيمي. لذلك يمكن القول إنّ النهائية - غير الجغرافية - التي هي أحد أوجه السيادة ليست متبلورة بشكل كاف ولا تشكّل أساساً معيارياً في لبنان. نستطيع القول إنّ صياغة الكينونة اللبنانية يغلب عليها «الضرورة بغياب البدائل».
وأيضاً، نحن لسنا مجتمعاً سياسياً بمعناه العلمي للكلمة، فلم تُدرك شرائح واسعة من اللبنانيين بعد معنى وسموّ الوحدة وعلوّها ولا العيش الواحد، ولمّا يتحسّس كثير من اللبنانيين بعد طبيعة ونوعية التفاعل البيني بينهم ولا بينهم وبين كثير منهم يشعرون بأنّ عيشهم المشترك قسري وليس حاجة متبادلة، وأنّ نظامهم السياسي معطى قسري لا يرفضونه إلّا لافتقارهم إلى بديل أو عجزهم عن اجتراح شيء آخر. ونحن لسنا مجتمعاً سياسياً بلحاظ عجزنا حتى اليوم عن تحديد مضمون واضح لمعاني التقدّم والازدهار والعروبة والديموقراطية والحرية وروائز ذلك. ولبنان ليس وطناً حتّى الآن، رغم أنّ هناك قوى واتجاهات اجتماعية جادة تسعى إلى غرس معنى الانتماء للوطن وإعلاء شأنه وترسيخ هذا الوعي المضادّ للنظرة القديمة، لكن بالمقابل هناك ممارسات سياسية واجتماعية لا تنفكّ تحنّ إلى الماضي وتجاهر بالعودة إلى العزلة، تظنّ أنّ محور العالم ونهايته حيث تقبع، فلا تتقاسم المشاعر مع أي مكوّن لبناني أو منطقة وطائفة ولم ترق ممارساتها إلى درجة السمة العابرة الوطنية.
أين نحن من الدولة، فالدولة في النهاية هي نتاج تجلٍّ للتفاعل والمعاني التي تنشأ جراء النشاط الاجتماعي وتبلوراته وليست إسقاطاً فوقياً. وأعتقد أنّ من الباكر التحدّث في منزلة الدولة. لكنّ ذلك لا يعني أنّ بلوغ الدولة يحتاج إلى مسار تدرّجي زمني يبدأ ببناء الوطن والكينونة السياسية، وصولاً إلى الدولة، فليست المسألة ترتيبية بمقدار ما هي ذهنية منطقية. فإذا لم نكن أمّة تنتج دولة، فقد نستطيع أن نكون «شكل» دولة أو مشروع دولة يُنتج وطناً ودولة بمعناها التام.
خلاصة القول، إنّنا اليوم في مساحة الشعور بالكينونة الجغرافية والغيرية عن الدول العربية الأخرى واستشعار بعض الخصوصية وخلاصات التجربة التراكمية وعبرها. أي نحن في اجتماع - سياسي سالب لم يرق بعد لأن يكون اجتماعاً موجباً. ومع ذلك، ومقايسة بالعقود الماضية من نشأة الكيان، يمكن أن نستشف مجموعة تقاطعات ونقاط التقاء بينية تساعد إذا ما أضيفت إلى عوامل تدخّلية نقوم بها ويجب ذلك (سنتطرّق إليها في مقال لاحق) لا شّك أنّها تشكّل مدماكاً ومنطلقاً.
إزاء هذه المنزلة العجيبة بين المنازل والحال الذي هو أقرب إلى المستودع منه إلى المستقر، قد يتراءى لقائل جاد إنّه ربّما هناك فرصة للبنانيين لأن يصبح بلدهم مستقراً ووطناً نهائياً ودولة بمعناها الاجتماعي القانوني وأنّ ذلك آتٍ والمسارات تأخذنا إليه. لكن في حال تعذُّر ذلك لأسباب وأسباب، فأيّ منزلة يمكن أن يبلغها هذا البلد وما هو الممكن والمقدور عليه، وعند أيّ منزل يمكن أن نصل به بين حدَّي أن نحفظ استمراره واستدامته وبين طموح أن يصبح بلداً طليعياً مؤثراً يشكّل حاجة إنسانية عابرة.
* باحث لبناني