تعرّفتُ إلى ابن بلدي ولم أكن أعرفه من قبل، أو أنني نسيتُ أنني عرفتُه من قبل. الشخص المعني هو الإعلامي طلال شتوي. كان غائباً عن السمع والنظر إلى أن شاهدتُه في حلقة طويلة مع جاد غصن. كتبتُ تغريدة سريعة عنه (والتغريد -هو حكماً سريع-هو الكتابة على طريقة الوجبات السريعة التي تبقى عصيّة على الهضم معظم الأحيان). أرسلتُ الرابط إلى الأصدقاء والمعارف وكلّ مَن شاهده كان له نفس ردّة فعلي: من هو هذا الطلال شتوي؟ أين كان مختفياً؟ لماذا لا يظهر على الإعلام؟ هو ذكر في الحلقة أنه عملَ في «الأفكار» التي كنتُ مواظباً على قراءتها في حينه. لكن بعد أن شاهدتُ الحلقة طلبتُ وقرأتُ كتابه «بعدك على بالي». الكتاب هو مثل المقابلة في مضمون السيرة، وهو روى (على الشاشة) حوادث بعبارات من كتابه. كان يتحدّث بجرأة أذهلت محاورَه إلى درجة أنه قال له مندهشاً: أنت انتقدتَ في كتابك أشخاصاً في الإعلام والفنّ، كيف ذلك؟ إن النقد الحرّ هو من الممنوعات. كيف يخرقها طلال شتوي هذا؟ اتفقَ من شاهدَ المقابلة أننا أمام ظاهرة فريدة جاذبة، وأن حديثه لا يشبه أحاديث من نراهم على الشاشات، هؤلاء الذين ينسبون ما ينطقون به إلى «أجواء حزب الله»—وأجواء حزب الله تكون دائماً متطابقة في مواقفها مع الإعلام السعودي والإماراتي. أرسلتها إلى عامر محسن فتبرَّمَ قائلاً إن بعض الذين ينالون إعجابي لا يستحقّون الاهتمام. تركتُه إلى أن باشرَ بالاستماع وكتب لي مُعجباً ومتعجّباً وخلقنا مجموعة واتسآبيّة مع جمال غصن فقط للحديث عن المقابلة. كيف لا يثير انتباهك إعلامي لا يتحدّث مثل الإعلاميّين؟ يقول لك لا أريد أن أسمّي، ثم يقول لك: الفنان المصري الذي عانى من المخدرات واسمه فاروق الفيشاوي. لا يريد أن يسمّي لكنه يذكر وحش الشاشة، فريد شوقي. هذا يلفتكَ. متى آخر مرة شاهدتَ إعلاميّاً يتكلّم بحريّة عن تجربته الإعلاميّة وعن أشخاص عرفهم؟ وطلال منحاز في آرائه، أحياناً. هو يحب الذين كانوا لطفاء ومشجّعين معه ولو كانوا لا يستحقون ثناءه. هو يذمّ الفريق الذي أدار محطة «المستقبل» لكنه يستلطف أسعد المقدّم، المُشرف العام على وسائل إعلام رفيق الحريري. أسعد المقدّم، يا طلال؟ قد يكون ساطعاً مقارنةً بالفريق الذي أدار محطة «المستقبل» في زمانك، لكنه خرّيج الإعلامي اللبناني التقليدي. أسعد المقدّم كان في إعلام جورج أبو عضل (كان سليمان فرنجيّة يريد توزير أبو عضل لكن الحكومة المصريّة أرسلت من يحذّر فرنجيّة عن علاقة أبو عضل بالإسرائيليين، وكان ذلك في عام 1970).
بقيتُ أفكّر في حالة طلال شتوي. عندما شاهدتُ صورَه وقرأتُ عن ظهوره على برنامج «استديو الفنّ» تذكّرته، بجد تذكّرته. تذكرتُ كيف كان يظهر صبياً في صور مقابلاته، وتذكرتُ بصورة خاصّة مقابلة له مع محمد حسين فضل الله في «الأفكار» وفيها طلال لا يختلف في هيئته عن تلميذ مدرسة. كان حاضراً بقوّة في المجلّة التي لم تجد مكانها بين المجلات ليس فقط لأنها ظهرت في عصر زوال المجلات بل لأن صاحبها (وليد عوض) أراد تقليد تجربة نجاح «الحوادث» (حيث عمل نائباً لسليم اللوزي) لكن في غير سياق نجاح «الحوادث». كما تذكّرتُه في برنامج «استديو الفن» وتذكرتُ ثقته الكبيرة بالنفس. انقطعتُ عن شاشات لبنان في فترة التسعينيّات وكان طلال قد بلغ أوج نجاح في تلك الحقبة، وعلى شاشة تلفزيون رفيق الحريري، «المستقبل».
ما الذي يجعل طلال شتوي حالة مذهلة في السياق اللبناني؟ هل هو فريد في شخصيّته أم هو ذو شخصيّة عاديّة في مهنة لم تعد تجذب أصحاب الشخصيّات العاديّة؟ التمويل الإعلامي الخليجي الذي طغى على الإعلام العربي منذ حرب الخليج بلور وقولبَ الإعلاميّين والإعلاميّات العرب. يعرف هؤلاء أن الكلام بحريّة (سياسيّاً واجتماعيّاً) يقطع الطريق على مجالات العمل. طلال شتوي لا يكترث للمحظورات والضوابط والخطوط الحمر التي يتشرّبها الإعلاميّون اللبنانيّون قبل دخول كليّات الإعلام. ترى شباباً لبنانياً على المواقع وهو يتحدّث على طريقة عوني الكعكي في الحذر والخوف والوجل من هيئة الترفيه والبروباغندا في الرياض. بات المرء يستبطن القمع الذاتي في داخله إلى درجة أن الخمرة أو مخدّرات الـ«أسيد» لا يمكن أن تفكّ ضوابطه الداخليّة. هذه على طريقة اعتراض أسامة سعد على التطبيع من دون أن يذكر اسم الدول الخليجيّة التي يعنيها. (في انتخابات 2009 حثثتُه على الردّ على الدور السعودي الفاضح ضدّه في انتخابات صيدا فما كان منه إلا أن قال لي: يقولون لي إنه عليّ الامتناع عن نقد السعوديّة بسبب الجالية الصيداويّة في المملكة).
لا يمكن تصنيف طلال شتوي. هو ليس بيساري ولا بيميني، ولو تقرأ كتاب «بعدك على بالي» تزعجك—أو تزعجني—مواقف شتوي السياسية. هو من عائلة مسلمة لكنه مُعجب بمار شربل ويؤمن بتواصله معه في حلم أفاق منه مُعمَّداً بالعرق (لأسباب يطول شرحها أنزعج كثيراً من ظاهرة توافد مسلمين إلى مزار شربل طمعاً بالشفاء العجائبي وتحقيق المعجزات، وهذه الظاهرة فيها عناصر من تعظيم المسيحيّة بصورة خاصّة في الثقافة اللبنانيّة. وهذا التعظيم مقصود من جريدة «النهار» ومن محطات مثل «إم.تي.في» و«إل.بي.سي». ثم يا طلال أنتَ زرتَ مار شربل وظهر لكَ في المنام بعد أيّام. يعني لو زرتَ ضريح شفيق الوزّان لظهر لكَ هو الآخر في المنام، ولكنّا قلنا إن الوزّان شفاكَ. والتعرّق أثناء النوم من عوارض مرض السرطان الذي أصابك). طلال يختلف مع رفيق الحريري لكن ساهم في نجاح شاشته. يؤمن بالإعلام المهني المحترف لكنه يعترف أنه تعلّم الصنعة على يد وليد عوض ويقول إنه كان يجهل مصدر تمويل المجلّة مع أنه يروي أن المرّة الوحيدة التي غضب منه عوض كان عندما نشر مقالات عن شراء الأمير (الملك حالياً) سلمان شارعاً كاملاً في ماربيا (ص. 251). وكان وليد عوض في زيارة للسعودية للقاء الأمراء. أذكر أنني شاهدتُ وليد عوض في واشنطن في الثمانينيّات عند افتتاح معرض عن السعوديّة (والتهمتُ في المعرض عدداً كبيراً من التمور السعوديّة الشهيّة)، وكان عوض يهرع وراء أمير سعودي—الأمير بندر على ما أذكر. لكن يبدو أن شتوي كان على علم بالتمويل السعودي لأنه عندما قابل ياسر عرفات قال له الأخير: «أنتو بتوع ليبيا». فما كان من شتوي إلا أن أجابه: «أبداً، نحن بتوع السعودية» (ص. 242). كيف لا تحب طلال شتوي وترغب في قراءة المزيد منه وعنه؟ لكن هناك ذكورية عند طلال في الكلام عن النساء، وهو اعترف بأنه وضع ويسكي خفية في شراب ضيفة في برنامجه لإطلاق لسانها.
هناك من عمل في «المستقبل» وكان معارضاً لرفيق الحريري (وأعرف بعضهم)، لكنهم لم يتحدّثوا نقداً علناً عن التجربة. هو وحده الذي شذَّ عن تلك القاعدة


وطلال مُعجب بعمر وفيصل كرامي. يندهش جاد غصن وهو يستمع لطلال يتحدّث بإعجاب شديد عن عمر كرامي. وهذا مكمن فرادة طلال. لا يجد المحاور في لبنان سبباً للاندهاش عندما يتحدث الإعلامي—أي إعلامي—بإعجاب لا بل بتقديس—عن رفيق الحريري لكن الحديث عن عمر كرامي، الذي لم يسرق ولم يرتهن ولم يموِّل إيلي حبيقة وميليشيات أخرى يستثير العجب والدهشة. (والحق إن جاد يدع الضيف، أي ضيف، يستفيض في الحديث والنقد عن حزب الله لكن أي نقد—مثلما ورد في الحلقة—عن رفيق الحريري وفريقه الإعلامي، يُقابل بالتجاهل التام، على طريقة: لننتقل إلى موضوع آخر). ويستغرب جاد غصن أنه كان هناك توجّه سياسي حتى في البرامج الفنيّة في تلفزيون رفيق الحريري. يطلب رفيق الحريري شخصيّاً استضافة تريسي شمعون والترويج لها. الفن للسياسة والسياسة فن، في هذا الإعلام. (قال طلال عن تريسي شمعون إن شخصيتها تستحق التلميع. هنا تشعر أن طلال يبني أحياناً مواقفه من الأشخاص بعيداً عن أي معيار سياسي، بل بناءً على تعاطي الأشخاص معه في مقابلاته وبرامجه. هو صريح: يقول المهم عندي أنه «طلع عندي حلقة حلوة»).
طلال شتوي يُحبِّب المرء بالصحافة وبطرابلس وحتى بالسهر. تعيش معه تفاصيل حياته ويخبرك عن عائلته وأصدقائه وزملائه ومعارفه، لكن من دون الحديث في الحب، وهذا حقّه. لا يمانع في ذكر ما قاله آخرون في مديحه، لا بل يستشهد بمقاطع من ذلك المديح (من سامي كليب أو زاهي وهبي وغيرهما). في أول مشاهدتي لمقابلته أحببتُه كثيراً لكنني قلتُ للأصدقاء إنه معتدّ بنفسه إلى درجة الغرور. يقول إنه كان يتحاشى الحديث «العالي» في برنامج المنوّعات لأن المقدمين والمقدمات الآخرين كانوا «يضيعو» من عمق الأسئلة التي كان يطرحها. لكن بعد أن قرأتُ كتابه وشاهدتُ المقابلة مرة ثانية عدّلتُ في انطباعي. هو بريء جداً ولا يدخل في أدبيّات السلوك الاجتماعي المعهود. هو يسخر من النسويّة ومن الصوابية السياسيّة. هو حرّ ومتفلّت. وفي عصر التطبيع والتحالف الخليجي مع إسرائيل، هو من قلّة نادرة من الإعلاميّين (غير العاملين في إعلام المقاومة) الذين لا يزالون يتحدّثون جهاراً وبطلاقة عن رفض السلم مع إسرائيل. لكنه يعترف أنه أيّد اتفاق 17 أيّار في حينه ويقول: «لا أعتقد أنني ارتكبتُ في حياتي حماقة أشدّ هولاً من هذه الحماقة» (ص. 151).
طلال شتوي مدرسة مضادة لتجربة جورج إبراهيم الخوري في «الشبكة» في الصحافة الفنيّة. الهدف عنده لم يكن مادياً. هذا بديهي في الصحافة لكن نادر جداً في لبنان. صحافي يردّ الهدايا والمغلّفات والمكرمات. طلال شتوي لا يمكن إلا أن يكون غائباً عن الشاشات والإعلام الحالي. هو ينفر في مدرسة تركي الشيخ للإعلام مع أنه يؤيّد ما يقوم به محمد بن سلمان. يحيّرني طلال شتوي لكنني لا أستطيع إلا أن أحبّه وأعجب بتجربته في الإعلام.
هناك بعض من المعلومات المهمة في الكتاب. هناك مثلاً قسم عن أنور الفطايري. اغتيال أنور الفطايري بات يُحسب اليوم—مثل كل الاغتيالات حتى التي ارتكبها زعماء باتوا في ما بعد في 14 آذار—على النظام السوري فيما كان الاغتيال عملاً داخلياً بحتاً. يروي عن اختلاف الفطايري مع مشروع المفتي خالد ومحمد مهدي شمس الدين من حيث نشر سلطة الدولة اللبنانية. كان اليساري (الحقيقي)، الفطايري، يرى أن مؤسسات الدولة هي «الراعي الرسمي للإرهاب ضد اللبنانيّين» (ص. 264). الفطايري أخذ عقيدة حزبه على محمل الجدّ، خلافاً لرئيس حزبه.
ثم هناك جانب آخر في كلام طلال شتوي. هو أوّل شخص عملَ في إعلام الحريري وتحدّث عنه بالنقد. هناك من عمل في «المستقبل» وكان معارضاً لرفيق الحريري (وأعرف بعضهم)، لكنهم لم يتحدّثوا نقداً علناً عن التجربة. هو وحده الذي شذَّ عن تلك القاعدة. هذا ما يجعل طلال شتوي صحافياً استثنائيّاً. كان مدير المحطة يطلب منه إبراز ضيوف بإيعاز من رفيق أو نازك الحريري. يعترف أنه كان يعمل «تسويات» أحياناً. طلبت منه نازك الحريري إجراء مقابلة مع إيلي صعب. طلب منه رفيق الحريري أن يجري مقابلة مع عمر كرامي بهدف تسخيف صورته ودوره. (لحسن الحظ، يقول طلال، رفض عمر كرامي الدعوة).

في عصر التطبيع والتحالف الخليجي مع إسرائيل، هو من قلّة نادرة من الإعلاميّين الذين لا يزالون يتحدّثون جهاراً وبطلاقة عن رفض السلم مع إسرائيل


والتوجّه السياسي للمحطة كان في تعميم السلام، خصوصاً أن السلام مع إسرائيل كان عنصراً في مشروع الحريري. وعندما استفاض عزت العلايلي في الحديث والحنين العروبي والوفاء لجمال عبد الناصر، اعترضت إدارة المحطة وحذفت معظم ما جاء فيها. «اعتبروا الحنين إلى العروبة سياسة» (ص. 398). وهناك من لا يزال يربط رفيق الحريري بالعروبة. هو حاربها قبل أن تصبح محاربتها—وباسم العروبة—سياسة ثابتة للنظاميْن السعودي والإماراتي. لكن عندما ظهرت ابنة أبو أرز على برنامج «الليل المفتوح» لم تعترض إدارة المحطة، ولم تحذف (ص. 442). قال له أسعد المقدّم بعد أن كبر الصراع بين إدارة المحطة وطلال، صاحب أنجح برنامج على المحطة، إن الذين يديرون المحطة هم «رهط من الفاشلين والوصوليّين والنصّابين» (ص. 461). وتسبّب نجاح طلال في إثارة غيرة مسؤولي المحطة، وواحد منه حاول أن يسرق منه، قانونيّاً، اسم وفكرة البرنامج كي يبيعهما باسمه (ص. ٤٦٥). أطلق طلال عليه وصف «اللصّ». ألغت المحطة حلقة مع أنسي الحاج بحجّة أنه غير معروف، وسأله مسؤول في المحطة عن «نور الهدى»، ظناً منه أنه رجل متقاعد. لكن طلال يعترف أنه لا يكره تلفزيون «المستقبل» بالرغم من مرارة التجربة. كيف لا يدير طلال شتوي محطة تلفزيونية؟ هذا سؤال ساذج. أشكّ أن طلال شتوي سيجد عملاً بعد مشاهدة مقابلته وقراءة «بعدك على بالي».
حاول أن يعمل مع «إل.بي.سي» لكن التجربة لم تستمرّ طويلاً. فاوض محطة «الجديد» لكنه رفض شكل العلاقة التي أرادها أصحاب المحطة معه. أمّا «إم.تي.في» فقد طلب طلال منها مبلغ 20 ألف دولار شهرياً، نصف له والنصف الآخر لمخرجه رشيد كنج. «كاد ميشال المرّ يقع عن كرسيّه» (ص. 499). رفض عرضاً من تلفزيون دبي وآخر من «إي.آر.تي» وقبل عرضاً في دبي. تشارك في مطعم يقدّم المشاوي على مدار الساعة. من لا يحلم بلحم مشوي بعد منتصف الليل؟ (ويقول أسامة الرحباني إن منصور الرحباني كان يستيقظ من النوم في الليل ليأكل اللحم المشوي. ليالٍ طويلة من عسر الهضم). تلقّى من «دار الخليج» في دبيّ عرضاً لإدارة مجلّة «كل الأسرة». اسم المجلّة مُضجّر بحد ذاته لكن الشخصيّة المسلّية التي يملكها طلال شتوي والحسّ الروائي يتيحان له النجاح في تجربة أخرى. وهذه أوّل مرة أقرأ فيها عن تجربة إعلاميّة للبناني في دبي من دون انبهار أو تبجيل للحاكم والشيخ. لا تطبيل في رواية طلال شتوي. هو صريح بالنسبة إلى الإغراءات الماديّة ونوع المكاتب واتساعها، وعن إجازات مدفوعة في بانكوك. لكن نمط العمل والتوجيهات والألاعيب من فوق تجعلك تتعجّب أن طلال لم يهجر التجربة قبل أن يصل إلى آخر رمقه. اشترط على أصحاب الدار شرطيْن فقط، وافقوا ثم أخلّوا بواحد منهما (أن يعيدوا النظر بالمرتّب بعد ثلاثة أشهر من العمل، ص. 510). كنتُ دائماً أتساءل عن قدرة الإعلاميّين العمل في الخليج. العمل في الطب أو الهندسة أمر مختلف—لكن ليس لي. قررتُ باكراً في حياتي أن العمل في الخليج ليس لي. الكثير من زملاء الدراسة باتوا هناك. زميلة أردنيّة في جامعة جورجتاون قبلت بعد الدكتوراه عرضاً للعمل في مركز أبحاث إماراتي تابع مباشرة لمحمد بن زايد ووزارة الدفاع. لم تستطع البقاء لأكثر من أشهر. قالت لي (في زمن الحواسيب ذات الأقراص المرنة فيها): لم يكن هناك قرص مرن في الحاسوب، وكان الحراس المراقبون يرافقونني بمجرد أن أنتقل من مكتب إلى آخر أو من مبنى إلى آخر. حدّثنا طلال عن تجربة دبي لكنني على قناعة أن هناك الكثير المزعج في التجربة لم يكتب عنه. حتماً، أفردت مجلة «كل الأسرة» صفحات وأعداداً في تبجيل الحاكم.
يكتب طلال بأسلوب خاص به. من غيره في وصف المعاناة السرطانيّة يقول إنه كان يمصّ عصير الفواكه وإنه حاول أن يمصّ أقراص الكبّة المشويّة؟ (ص. 570)؟ وحتى في حمل الأحقاد، طلال خفيف على القلب وظريف. يحمل ضغائن من سنوات الدراسة، ويسمّي الأسماء من دون مواربة. المعلّمة الفرنسيّة جان ماري لاموش (ص. 57) باتت تمثّل للقارئ تاريخاً من الاستعمار الفرنسي. أشعر أنه علينا محاسبتها عن استعمار الجزائر بعد وصف شتوي. يقول عن المدرسة: «لا أحبّ أن تزعل مني مدرستي الأولى ولكن أجدني مضطراً إلى الإقرار بأن أجمل ذكرى أحملها لها هي: السينما» (ص. 73). أحببتُ ما رواه عن الفترة التي تولّى فيها بطرس حرب (ما غيره) وزارة التربية في عهد إلياس سركيس. كان يومها يطمح لمنصب الرئاسة (تعرف أنه أقلع عن هذا الطموح عندما ترى لحيته اليوم). اخترع «يوم العلم». كم كنتُ أمقتُ ذاك اليوم. طبعاً، في مدرستي لم نعر اليومَ اهتماماً: الإدارة كانت منشغلة بالعلم الأميركي والتلاميذ انقسموا بين أعلام «فتح» و«الشعبيّة» والأكثرية اختارت أعلام اللامبالاة.
أشعر أن طلال شتوي حارَ ودارَ في التيارات السياسيّة ونبذ التطرّف قبل أن يستقر على موقفه مع آل كرامي. يعترف أنه كان ينتقل من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين في الحديث الواحد. كان معادياً للاحتلال الإسرائيلي لكن مع «الشرعيّة» (يا لطيف). ومدهش أنه في موقفه الحالي مع الممانعة أنه لا يخشى غضبة النخبة الثقافية القاسية في أحكامها. من ليس معها--أو بالأحرى، من ليس مع رعاتها في الخليج--فهو إيراني ورجعي وخشبي). يقول لهم طلال: «أنا خشبي». يقول عن الديموقراطية: «أنا اليوم أجاهر بأن الديموقراطية، بتطبيقاتها الأميركية التي "مسحت" كل ما سبقها من تجارب وفرضت نمطها على الجميع في الغرب والشرق، هي نظام حكم مخادع لا ينتج سوى المزيد من التخلف الحضاري» (ص. 145).
طلال شتوي يقيم في طرابلس، على ما أظن. هل من يعيده إلى الإعلام بصورة عاجلة؟يستطيع طلال شتوي بعودته أن يعيد لنا الأمل بالإعلام في لبنان. عُدْ، وفوراً، رجاءً.

* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@