في علم النفس السياسي، يعدّ تغيير المواقف والآراء والميول للنخبة السياسية حالة طبيعية، لكون صنّاع القرار جزءاً من المنظومة البشرية المجتمعية، وطبائعهم التي تعمد أحياناً إلى تغيير قناعاتها مثلها مثل أيّ مجموعة اجتماعية أخرى وفق مدارس العلوم السلوكية. وهذا التغيير ناجم عن مجموعة من العوامل المتفاعلة مثل العقائد السابقة، أي القيم والتصوّرات، أو التكيّف الثقافي، أو المناخ السياسي المتّسم بالاستقطاب، أو الشخصية المزاجية للتعبير السوسيوثقافي، أو ربما الموروثات الجينية. لكن قواعد اللعبة السياسية عموماً قائمة على التغيير والسيولة، وهذا التغيير يراوح بين قطبين؛ إمّا القناعة الذاتية أو المصلحة، لذلك هي في السياق العام حالة طبيعية، ومن المحتمل أن يكون التغيير السياسي السطحي بمثابة خوارزميات تفضيلات العمل السياسي، كما يقول جورج برنارد شو: «التقدّم مستحيل بدون تغيير، وأولئك الذين لا يستطيعون تغيير رأيهم لا يمكنهم تغيير أي شيء». لكن بالنتيجة ضروري أن لا يكون هذا التغيير مفاجئاً وسريعاً، بل حتى كونه نتيجة للضغط الخارجي أو الداخلي، أو المفاجئ، يجب أن يكون بشكل تدريجي، لكونه سيصبح أكثر ضرراً عندما يتعلق باستراتيجيات دولية، أو مسارات تصبّ في شاطئ الأمن القومي، أو بالأهداف الجيوسياسية، وربما تغيير خريطة العالم.
(جاك ديفيس)

منذ سنوات، لا يزال الرجل الأكبر سنّاً في الإدارة والدبلوماسية الأميركية، هنري كيسنجر، صاحب الـ 100 عام أو يزيد (ولد عام 1923)، الصوت الاستراتيجي الأكثر صدى في البيت الأبيض والعالم، حتى وإن لم يشغل أيّ منصب. وإذا كان المؤرّخون والنقّاد قد وصفوا كيسنجر بأنه مكيافيلي زمانه، أو مترنيخ عصره، أو المتلوّن والداهية، أو «كاذب مذهل لديه ذاكرة رائعة» كما وصفه المؤرخ كريستوفر هيشنز، أو المجنون والمريض بالبارانويا كما كتب عنه سيمور هيرش، لكن بالنتيجة بقيت أفكاره مؤثّرة في أذهان صنّاع القرار، ولا يزال يمثّل جزءاً مهماً في مجتمع النخبة الاقتصادية، ودولة الظل وسياسة الباب الدوار. لكن بدت النسخة الأخيرة من كيسنجر تعيش التناقض في المواقف، وخصوصاً في القضية الأوكرانية. فما هي أسباب هذا التغيير، وهل هي حالة سياقية متكررة من الناحية العملية في مواقف كيسنجر تاريخياً أو سلوكاً؟

الهويّة المضطربة
لا يمكن الوصول إلى تفسيرات ناجحة في تحليل سلوك القادة في السياسة الخارجية (موضوع أطروحة الدكتوراه لكاتب المقال) من دون دراسة البيئة أو الموقف المحيط بالفرد من خلال نظام التصورات والقيم، وبخصوص كيسنجر عبر دراسة البيئة التي ولد فيها هذا اليهودي الألماني، ابن جمهورية فايمار، الذي ترك بلاده متوجهاً إلى نيويورك، ليعيش في متاهة الهوية التي عاشها المهاجرون الأوروبيون بين الهوية القديمة وهويته المكتسبة حيث يقول كينسجر: «من الصعب أن تكون جزءاً من شعب عانى ما عاناه اليهود على مدار ألف عام من دون أن يكون لديك إحساس قوي بهويتك، وإحساس بالواجب تجاه عقيدتك اليهودية». ثم كونه من أنصار المدرسة المثالية الويلسونية، لكن فشلها دفعه ليصبح بطرك المدرسة الواقعية، ولهذا تعامل مع ملفات مفاوضات السلام بحذر وريبة، وهذا ما كشفه الدبلوماسي السابق مارتن إنديك في كتابه «Master of the Game» أن نيكسون أبعد كيسنجر عن المفاوضات العربية - الإسرائيلية لمدة طويلة بسب ميوله تجاه اليهود، ولم يمنحها له إلا قبل اندلاع حرب 1973.
ثم مشاركته كعسكري في الجيش الأميركي نهاية الحرب العالمية الثانية، وتناقض المشاعر لمحاربة بلده الأم في الحرب، ثم دخوله قلاع السياسة الأميركية منتقلاً ومتأرجحاً بين أولاً في الحزب الديموقراطي، ثم الحزب الجمهوري، ولاحقاً في أروقة الخارجية الأميركية وقرب طاولة الرئيس في البيت الأبيض، وهذه المتاهات الشخصية يبدو كان لها دور في صياغة تناقضات المواقف والأفكار.

الموقف من أوكرانيا
«التعاون في عالم مجزّأ» كان شعار «منتدى دافوس الاقتصادي»، وهو يعبّر فعلاً عن كينونة النظام العالمي، الذي لا يزال منقسماً حول عدد كبير من القضايا، منها قضية الحرب بين روسيا وأوكرانيا، حيث وقفت 40 دولة في سياق عقوبات على موسكو، مقابل 140 دولة لم يكن لها موقف، وكان كيسنجر، رغم مشاركته الافتراضية، الصوت الجيوسياسي الأكثر اقتباساً وجدلاً وتحليلاً، وكان الحديث مع تلميذه (غراهام اليسون) حيث قال كيسنجر: «قبل هذه الحرب، كنت أعارض عضوية أوكرانيا في الناتو، لأنني كنت أخشى أن تبدأ بالضبط العملية التي شهدناها الآن. الآن، وقد وصلت هذه العملية إلى مستواها، فإن فكرة أوكرانيا المحايدة في ظل هذه الظروف لم تعد مجدية... لكنني أعتقد أن عضوية أوكرانيا في الناتو ستكون نتيجة مناسبة». قبل أن يصرّح، قبل مدة، أن أوكرانيا يجب أن تصنع السلام من خلال التنازل عن الأراضي لروسيا، وهو ما أثار غضب الرئيس الأوكراني، نشر مقالة في «The Spectator» بعنوان «كيفية تجنب حرب عالمية أخرى» قال فيها إنها فرصة السلام الضائعة خلال الحرب العالمية الأولى عام 1916 والتي كان من الممكن أن تنقذ حياة الملايين، على حد رأيه، لأن الولايات المتحدة الأميركية آنذاك أخّرت جهود الوساطة إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية في 1916، وبحلول ذلك الوقت أسفر الهجوم البريطاني والألماني عن سقوط مليونَي ضحية أخرى، حيث استمرت الحرب العالمية الأولى لمدة عامين آخرين، يرى كيسنجر أننا أمام نقطة تحول مماثلة في أوكرانيا حيث يفرض الشتاء وقفة على العمليات العسكرية، وكان موقفه السابق مندرجاً في سياق مدرسة الواقعية في العلاقات الدولية والتي ترى أهمية الاستقرار قبل كل شيء، ويرى نفسه أحد أعمدتها. وقبل كل هذا، يعدّ أستاذ كيسنجر، هانز مورغن ثاو، معلّمه الأول في الواقعية، والذي يقول: «لا يتم التنازل عن مواقع السلطة لمجرد الحجج، حتى لو كانت صحيحة أخلاقياً أو عقلانياً، فإن هذا يحدث فقط قبل سلطة متفوقة».
ليست هذه المرة الأولى في التاريخ التي يمارس فيها كيسنجر سياسات أو مواقف متناقضة منذ بزوغ نجمه في الستينيات


هذا مع إدراك واقعية كيسنجر بأن الصراعات الجيوسياسية لا يمكن أن تحلّ عبر اتفاقيات وقتية كما حصل سابقاً في اتفاق مينسك الذي مثل حلولاً ترقيعية، وكما تقول أدبيات العلاقات الدولية إن لتلك الصراعات ذاكرة مثل الماء، وفي أوقات الفيضانات (الأزمات) تجري مثل السيول عبر القنوات القديمة.
ولطالما قال كيسنجر بأن على أوكرانيا أن تظلّ محايدة وألّا تنضمّ إلى «الناتو»، بل أكد قبل أشهر من تصريحه حول وقف إطلاق النار، بحيث تقبل أوكرانيا التنازل عن بعض الأراضي التي تمّ ضمّها كأرض روسية، بل حتى أنه في عام 2014، العام الذي ضمّت فيه روسيا شبه جزيرة القرم، قال كيسنجر إن أوكرانيا يجب أن تكون محايدة، وقال ما نصه: «إذا كان لأوكرانيا أن تعيش وتزدهر، فلا يجب أن تكون نقطة لأيٍّ من الجانبين ضد الآخر، بل يجب أن تعمل كجسر بينهما»، هذه المواقف المتناقضة تفتح الباب مرة أخرى لتاريخ كيسنجر في مواقف متناقضة سابقة.

عالم كيسنجر
القادة وصنّاع القرار يوصفون بأنهم بمثابة آلات صنع المعنى، فعندما يواجهون موقفاً يهدد الوضع الراهن، يلجأون إلى معتقداتهم الشخصية لجعل التهديد أكثر قابلية للتفسير وللسيطرة، وخصوصاً في أوقات الأزمات. وعليه، ليست هذه المرة الأولى في التاريخ التي يمارس فيها كيسنجر سياسات أو مواقف متناقضة منذ بزوغ نجمه في الستينيات، أيام عمله مستشاراً للأمن القومي الأميركي، ووزير خارجية في عهد ريتشارد نيكسون، واستمراره في المنصب الأخير في عهد فورد، حيث شكلت وجهات نظره الاستراتيجيات الأميركية لعقود قادمة. ومن الأمثلة على تلك المواقف قضية تعامله مع الصين وتايوان، وتحديداً عام 1971 حينما قدم كيسنجر سراً الى البعثة الدبلوماسية لدى جمهورية الصين الشعبية سعياً للاستفادة من الانقسام الصيني السوفياتي، وكان هدفه هو فتح جبهة ثانية ضد الاتحاد السوفياتي، مع نية الصين التوجه نحو الغرب، بالرغم من ضمانات كيسنجر لتايوان بأن واشنطن لن تتخلى عنها أو حتى تقدم تنازلات سياسية لماو تسي تونغ، حدث العكس تماماً، ليؤكد كيسنجر لاحقاً أن جمهورية الصين الشعبية يجب أن يكون لها دور رئيسي في الأمم المتحدة. وكان جورج دبليو بوش الأب رئيس البعثة الدبلوماسية غير الرسمية في الصين، الذي كان يرى بأن من الأفضل للولايات المتحدة الاعتراف بصينين، واتهم لاحقاً في مذكراته كيسنجر بسرقة الانتصار منه، حيث رفض كيسنجر دعوة بوش الأب، وهكذا تنصّلت واشنطن فعلياً من تايوان، رغم تصريحاته السابقة، وهذه مفارقة في سياق المصلحة الواقعية التي يريدها كيسنجر من التعامل مع صين واحدة.
وكان لكيسنجر دور واضح في حرب فييتنام تحت إدارة نيكسون، بعد توسيع الحرب لتشمل كمبوديا ولاوس، وقد وعد الرأي العام بالانسحاب، لكنه بالمقابل كان يتّصل مع الفيتكونغ سراً، وكشفت بعض الوثائق عن دوره في حرب كمبوديا ولاوس، ليحصل كيسنجر على جائزة نوبل للسلام لاحقاً، وكذلك دوره في قضية قبرص، حيث دعم كيسنجر تركيا أمام اليونان العضو في «الناتو»، رغم دعم واشنطن للحكم العسكري في اليونان، لكن كيسنجر دفع واشنطن إلى تسليح القوات التركية، ليتسبّب لاحقاً في تهجير أكثر من 200 ألف قبرصي إلى الأراضي التركية، فضلاً عن قضايا أخرى مثل دعم النظام الإندونيسي ضد تيمور الشرقية، وتعامله في ملف أميركا اللاتينية، ودوره في توسيع الصراع العربي الصهيوني.

أسباب التناقض
لا يمكن اعتبار نصائح كيسنجر ورسائله الدبلوماسية مجرد توصيات أو استشارات مجانية لصنّاع القرار، بل يمكن أن تمثّل الأفكار غير المعلنة في الصندوق الأسود الأوروبي أو الأميركي، من خلال موقف كيسنجر المبني على ثلاثة أعمدة أساس: توازن القوى الأوروبي، وآثار الحرب الثقيلة على الجسد الأوربي والغربي واحتمالية أن تكون نذير حرب أوسع، وتوازن الرعب النووي المحتمل من استمرار الحرب، رغم أن من غير المرجح استخدام موسكو للترسانة النووية، لهذا قد تكون وراء هذه المواقف جمله من النقاط هي:
- لا يمكن أن يبدّل مواقفه تاريخياً لمجرد مخاوف أو دفعاً لحرج كبير له بعدما هاجمه الكثير من المسؤولين والخبراء، وخصوصاً في كييف، أو بحثاً عن شهرة أو جدل، لكون عبقرية كيسنجر تكمن في فلسفة التاريخ وهي موضوع أطروحته في الدكتوراه، وهو يؤكد على أهمية الالتزام بالتاريخ بكل قوة وأن التاريخ لن يرحم، وأن الرهانات الصفرية في تاريخ العلاقات الدولية لن تحرز أي تقدم.
- لا يمكن أن يكون للعمر (الشيخوخة والخرف) دور في هذه الأفكار ولا سيما أنه في هذا العمر وضع آخر كتابين: «عصر الذكاء الاصطناعي ومستقبلنا البشري» (The Age of AI and Our Human Future) بالاشتراك مع العالمين إريك شميت ودانييل هتنلوكر، وكتابه الآخر «القيادة: ست دراسات في الاستراتيجية العالمية» (Leadership: Six Studies in World Strategy)، مع ضرورة التمييز بين كيسنجر الأكاديمي وكيسنجر السياسي.
- قد يرى الأمر من زواية تنافس أميركا - الصين، التي دخلت في تحالف مع موسكو قبل الحرب، وفي ظل إدارة ترامب وضع الأخير الصين كخصم وأشعل حرباً اقتصادية باردة، ثم جدّد بايدن هذه النغمة على وقع أوتار الحرب، وكأنه بدا كيسنجر يعمل وفق مبدأ «عند التعامل مع خصمين، من الأفضل لهما أن يكونا أعداء مع بعضهما البعض أكثر من كونهما معك»، ولهذا يرى بأنه يجب على واشنطن أن تضع نفسها في مكان أقرب إلى الصين، من مكان الصين مع روسيا، ولهذا لا يسعى إلى أن تكون لروسيا مكانة أكبر على حساب الصين إذا ما حققت الانتصار بشكل أكبر. بالمقابل، إن له تقديراً كبيراً عند الحكومة الصينية وعلاقات مميزة، فليس من السهل أن يتقبّل أوكرانيا مقابل خسارة روسيا والصين، فضلاً عن كونه قد أشار صراحة إلى ولادة وشيكة لنظام عالمي جديد نتيجة للحرب في أوكرانيا والصراع المتنامي بين الولايات المتحدة الأميركية والصين.
- قد تمثّل رسالة خاصة إلى الكرملين وبمثابة ورقة ضغط لإيجاد حل في هذا الشتاء قبل أن تتحول الحرب إلى مسرى آخر.
- أستبعد أن قراءة جديدة عسكرية استجدّت لدى كيسنجر لأن الواقع الميداني العسكري ما زال تقريباً في المعادلة نفسها على الأرض.
- قد تكون رسالة للداخل الأميركي، ولإدارة بايدن، وخصوصاً أنه يرى أن من الخطأ التصور بأن السياسة الخارجية للولايات المتحدة هي سياسة محكمة ومرسومة بعناية، لكنها «ليست سوى شكل من أشكال التوافق» (win-win deal) بين أجهزة الحكم المختلفة» كما يعتقد.
- إن كان قال كيسنجر إنه قد فهم تصريحه خطأ، لكنه رسالة استراتيجية واضحة، وكما يقول غوستاف لوبون: «فن أولئك الذين يحكمون يتألف قبل كل شيء من علم استخدام الكلمات».
-من الصعب أن يرجع كيسنجر بنسخته الأخيرة إلى المدرسة المثالية، لكونه يعدّ بطريرك السياسة الواقعية، ودائماً ما يتهم الجيوسياسيين الكبار الواقعيين أنهم يرون الدول مجرد بيادق على رقعة شطرنج عالمية، والواقعية ترى أن الحرب على روسيا هي حرب عالمية، وأن أوكرانيا تقود حرباً بالوكالة، وأن كييف ترفض المفاوضات لهذا السبب، بسبب حجم هذا الزخم الغربي. بالمقابل، إن موسكو ترى أن الهزيمة بمثابة انتحار يمسّ أمنها القومي.
النتيجة، أن خطاب الدعاية والحرب غير خطاب الواقع الحقيقي، وأن حوار اللاعبين الكبار غير حوار اللاعبين الصغار، ولهذا وغيره ربما نحن أمام شبكة من التسويات قادمة، يسعى كل طرف إلى رفع سقف مطالبه للحصول على مصالحه، فيما الرأسمال السياسي للجميع على المحك، وهي قد تكون عبر مفاوضات ليست بالقصيرة.
* دبلوماسي عراقي، باحث في العلاقات الدولية