هذه المقالة لمناسبة عرض كتاب إسحق دويتشر: «اليهوديّ اللايهودي»، ترجمة ماهر كيّالي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثالثة بيروت 1986. توجد ترجمة ثانية للكتاب للمحامي السوري نجاة قصاب حسن بعنوان: «من هو اليهودي؟»
عندما يثير أحدهم مسألة «الهُويّة اليهودية»، يبدأ بافتراض وجود هوية إيجابية. لكن ألا يكون الوعي اليهودي في هذه الفترة، فترة «الإيجابية اليهودية» من تاريخ العالم، انعكاساً بصورته الرئيسية، للضغوط المعادية لليهودية (للسامية)؟ فلو لم تكن المعاداة لليهودية قد أثبتت عمق جذورها وتواصلها وقوتها في الحضارة المسيحية الأوروبية لما ظهر اليهود اليوم كطائفة متميزة، بل لأصبحوا مندمجين كلية في الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها. إن الذي كان يعيد خلق اليهودية باستمرار، ويمنحها حيوية متجددة، هو عداء البيئة المسيحية المحيطة.
لم يرَ سبينوزا، قبل ثلاثمئة عام، ما يثير الدهشة لكون اليهود حافظوا على بقائهم بالرغم من تشتتهم، فهو يفسر ذلك فيقول: «لقد تعرضوا للبغض الشامل بانقطاعهم كلياً عن الشعوب الأخرى». ويعزو بقاءهم إلى عداوة الآخرين لهم، ويذكّر بأنه عندما خيّر ملك إسبانيا اليهود بين القبول بديانة مملكته أو الذهاب إلى المنفى اعتنق عدد كبير منهم الديانة الكاثوليكية (ثلاثمئة ألف)، ومن ثم مُنحوا الامتيازات وعوملوا بنفس الاحترام الذي يعامل به المواطنون الآخرون. وسرعان ما اعتبر الذين قبلوا بالكاثوليكية أنفسهم من الإسبان، وبعد سنوات جرى اندماجهم بالسكان المحليين.
أمّا الذين رفضوا وقبلوا بالنفي فكان عددهم 60 ألفاً على وجه التقريب، وقد تم نفيهم وفق مرسوم الحمراء لعام 1492. ومرسوم الحمراء أو قرار الطرد أصدره في 31 آذار 1492 الملك الكاثوليكي الإسباني فرناندو الثاني والملكة إيزابيلا الأولى ونص على طرد كل اليهود من مملكة إسبانيا وأقاليمها قبل 31 تموز 1492.
أمّا في البرتغال فقد حدث العكس، فعندما أجبر إيمانويل الأول اليهود على اعتناق ديانته «تحولوا» بالفعل، ولكنه بقي يعتقد أنهم لا يستحقون أي مركز محترم، ولهذا بقوا منفصلين عن المجتمع البرتغالي.
قد يُخيل للمرء أن يقول إنّ ما يوقظ مثل هذه المشاعر السلبية لا بد أن يكون في ذاته ذا صفة أو هوية محددة إيجابياً. لكن مهما يكن الجواب، ففي نهاية القرن التاسع عشر، كانت «هوية اليهود المحددة إيجابياً»، تمر في طور الانحلال. والحقيقة أن الصهيونية كحركة سياسية مرتبطة عضوياً بصعود الطور الإمبريالي للرأسمالية، برزت إلى الوجود كاحتجاج ضد هذا الانحلال، في حين أن الاشتراكية الأوروبية قبلت، بشكل عام، اندماج اليهود وشجّعت على ذلك كجزء من حركة أوسع وأكثر تقدمية، وكنتيجة لما يفترض في المجتمع الحديث أن يقوم به من التخلص من كل الأعراف الإثنية والإقليمية والطائفية.
لقد كان العنصر الإيجابي في الهوية اليهودية متأصّلاً، ولقرون عديدة، في الدور الاستثنائي الذي لعبه اليهوديّ في المجتمع الأوروبي في العصور الوسطى. ففي عصر الإقطاع وبداية الرأسمالية كان اليهودي يمثل نظام الاقتصاد النقدي –الربوي وأفكار هذا النظام في نظر شعوب كانت أفكارها تتطلع نحو قيام اقتصاد أسري طبيعي، وكانت شرائعها تحرم الربا (المسيحية والإسلام). ولم يكن من قبيل المصادفة أن تتخذ صورة اليهودي في ذهن المسيحي شكلاً رمزياً مثل شايلوك شكسبير في «تاجر البندقية»، و«يهودي مالطة» لكريستوفر مارلو. يقول بطرس بتروفتش لوجين، إحدى شخصيات رواية «الجريمة والعقاب 1866» لدستويفسكي: «من أخطائي أيضاً أنني لم أعطهم مالاً! شيطان يأخذني! ما بالي تصرفت تصرف يهودي؟». ويكتب توماس مان في رواية «الجبل السحري 1924» بخصوص بطل الرواية: «كان من الممكن أن يذهب هانس كاستورب إلى الراديكاليين ويصبح خاسراً كل شيء، أن يهدم بسلطة المال كل الأبنية القديمة، وكل جماليات الطبيعة، متحللاً كيهوديّ».
كذلك لم يكن الحقد هو الذي دفع ماركس ليقول إنّ الرب الحقيقي لليهوديّ هو المال. لقد تعمّد هذا لا ليدين اليهودية خلقياً وإنما ليقول جملة حقيقية حول الدور الخاص لليهوديّ في المجتمع المسيحي في العصور الوسطى الإقطاعية-المسيحية، ولاحقاً في الرأسمالية. ومضى ماركس ليقول إن المجتمع المسيحي بنموه في اتجاه رأسمالي متصاعد، إنما يصبح «يهودياً» أكثر فأكثر. لقد كان مقتنعاً أنه عندما يبدأ المجتمع الأوروبي بالتحول من الرأسمالية إلى الاشتراكية يكفّ اليهودي والمسيحي على السواء عن كونهما «يهودياً» أو «مسيحياً». ويقول: «يجب ألا نبحث عن سر اليهودي في دينه، بل لنبحث عن سر الدين اليهودي في اليهودي الواقعي. اليهودية دين المال، عبادة المتاجرة، المال هو إله إسرائيل الغيور. الأساس الدنيوي لليهودية هو الحاجة العملية، المنفعة الشخصية. مع انتصار المجتمع البورجوازي، الشعوب المسيحية صارت يهودية» (ماركس: المسألة اليهودية).
وفي حياة ماركس التي شهدت عصر الاندماج، كانت الهوية اليهودية تمر في طور التلاشي، على الأقل في غرب أوروبا. يقول إسحق دويتشر: إنني أعتقد بأن الأحداث المأساوية للعهد النازي في ألمانيا لم تبطل التحليل الماركسي الكلاسيكي للمسألة اليهودية وهي لا تدعو لإعادة النظر فيه. ومن البديهي أن الماركسية الكلاسيكية (ماركس: حول المسألة اليهودية 1843) لم تقرّ أو تسلّم بأي شيء من مثل «الحل النهائي» الذي قام به النازيون أو الصهاينة، أو التعقيدات الكبيرة للمشكلة في فترة حكم ستالين والفترة التي تلتها في الاتحاد السوفياتي. لقد ارتأت الماركسية الكلاسيكية تطوراً صحياً وأكثر انسجاماً مع الطبيعة العامة للحضارة البورجوازية ألا وهو الانتقال الزمني من المجتمع الرأسمالي إلى المجتمع الاشتراكي. ولكنها لم تأخذ في حسبانها استمرار بقاء الرأسمالية بآثارها الانحلالية على الحضارة بشكل عام. كان على العالم أن يعي ويتنبأ بمدى العمق البربري الذي سوف تغرق فيه البشرية إذا فشلت في إقامة النظام الاشتراكي الماركسي البديل.
أمّا النازية (والفاشية عموماً) فلم تكن أكثر من مجرد دفاع ذاتي للنظام القديم في وجه الشيوعية. لقد شعر النازيون بأن هذا هو دورهم، كذلك فقد رآهم المجتمع الألماني بأكمله، من خلال هذا الدور، ودفعت اليهودية الأوروبية ثمن بقاء الرأسمالية و«نجاحها» في حماية نفسها من الثورة الاشتراكية. إن هذه الحقيقة لا تدعو لإعادة النظر في التحليل الماركسي الكلاسيكي بل على العكس، إنها تؤكد صحة هذا التحليل.
إن الحديث عن «المجتمع اليهودي» كوجود كامل ومستقل لا معنى له. فبالإضافة إلى انتماء اليهود في المجتمعات المختلفة إلى طبقات مختلفة، كذلك فإن التقاليد الثقافية للأمم التي عاش اليهود بين ظهرانيها كأقليات، تركت تأثيراتها فيهم بصورة متفاوتة، وتركت على نظرتهم العقلية طابعاً يختلف من جماعة إلى أخرى ومن شخص إلى آخر. فمثلاً لا يزال التوتر والعداء قائميْن بين اليهود الألمان ويهود شرق أوروبا، الأمر الذي يشكل موضوعاً لعدد لا يُحصى من النكات الساخرة.
لقد أدى تركز اليهود في المناطق الحدودية لروسيا إلى جعل أي نمو روحي عضوي بين اليهود والسلافيين أمراً غير ممكن. وفي بولندا أقام اليهود في أحياء مهجورة حتى قبل عام 1940. كانت القومية البولندية والعداء لليهود (اللاسامية) والإكليريكية (الظلامية) الكاثوليكية كلّها تعمل إلى جانب الانفصالية اليهودية. وعملت الأرثوذكسية والصهيونية من جهة أخرى ضد قيام تكافل مثمر لجهة الاندماج. يضاف إلى ذلك عمل اليهود في القطاعات الوسيطة غير المنتجة. ليس الاشتراكيون وحدهم من تكلم عن الصفة غير المنتجة لـ«النظام الاقتصادي اليهودي» في مجتمعاتهم، بل الجميع، ولذلك فإن العداوة بين العناصر المنتجة والعناصر غير المنتجة في المجتمع المعني كانت أمراً لا مفر منه في أيّ حال. ولقد نما على هذه العداوة الاجتماعية والاقتصادية عبر القرون، هذا البناء الفوقي الضخم للغربة الإيديولوجية والكراهية.
خلال القرن التاسع عشر كان اليهود في أوروبا الغربية ينتمون بصورة رئيسية إلى الطبقة الوسطى البورجوازية. كان هناك عدد قليل جداً من العمال اليهود وعدد من الحرفيين وأصحاب المحالّ الصغيرة. فمعظم اليهود كانوا من التجار الذين يقومون بمبادلاتهم على نطاق واسع في عواصم غربية عديدة، كما كان بعضهم من كبار أصحاب البنوك، وأصبح آل روتشيلد رمزاً للبورجوازية اليهودية المتغطرسة. وتميز المجتمع اليهودي بصفة البورجوازية السائدة في الغرب بشكل مناقض لصورة المجتمعات اليهودية في أوروبا الشرقية. صحيح أنه وُجدت في شرق أوروبا بورجوازية يهودية وتجار وأصحاب محالّ يهود، لكنّ الغالبية العظمى من اليهود كانت من الفقراء الكادحين والمهنيين البدائيين وما كان يُطلق عليهم بالتضخيم اسم «صناع الأدوات المعدنية»، ولكنهم في الحقيقة كانوا من صانعي الأقفال والسمكرجية ممن اعتادوا أن يشكلوا لأنفسهم جمعية يسمونها «نقابة عمال المعادن». وكان عدد كبير منهم بلا وظائف وبلا أرزاق منظّمة، أو كانوا باعة متجوّلين وسماسرة زيجات يساومون على نسبة حصتهم من المهر.
بعد قيام الثورة الفرنسية تمتّع اليهود بمساواة رسمية في نظر القانون في بلدان أوروبا الغربية. وصاحب هذه المساواة أمام القانون نموّ في اندماج اليهود بالمجتمع. حتى تلك الشرائح التي احتفظت بوعيها ودينها اليهودي أصبحت مندمجة من خلال تبنيها لغة البلاد التي عاشت فيها واكتسبت مظهر المواطنة.
أمّا الملايين من اليهود في بلدان شرق أوروبا فقد عاشوا ضمن مجتمعات مكتظّة بالسكان ومنفصلة عن بيئاتها غير اليهودية. ولم تكن أحياء اليهود ذات طابع رسمي، مع أنه كان يسمح لهم بالخروج منها بالطبع، ومع ذلك فقد عاشوا جماعات منغلقة يرتدون ملابس مميزة يطلقون لحاهم ويتكلمون لغتهم الخاصة ويطورون ثقافتهم وأدبهم. وفي الغالب كانت معرفتهم باللغة البولندية أو الروسية شبه بدائية، وبقيت اليديشية لغتهم التي يتكلمون بها. لقد شكّل يهود أوروبا الشرقية المنبع الرئيسي الذي نهلت منه الصهيونية تأييدها، فقد جاء منها معظم القادة والرواد والمجنّدين الإسرائيليين.
لقد تركت أوروبا الإقطاعية فراغات في نظامها الاقتصادي، كالاقتصاد النقدي والربا، جاء اليهود وملؤوها، وعندما جاءت الرأسمالية بـ«دين» الرأسمال وجد اليهوديّ في الرأسمال دينه. هكذا أعادت الرأسمالية المتأخرة، في طورها الإمبريالي، اليهوديّ إلى الحياة من جديد. يقول ماركس: «اليهودية بقيت ليس رغم التاريخ بل بالتاريخ» (حول المسألة اليهودية).
مرة أخرى: لكن من هو اليهوديّ؟ من أجل ذلك نحكي هذه الحكاية:
في ظل الاحتلال الألماني للأجزاء الغربية من الاتحاد السوفياتي أمر ستالين بتقديم المساعدة لمليونين ونصف مليون من اليهود في المناطق المحتلة، وذلك بنقلهم إلى المناطق الشرقية للبلاد. لقد وجد هؤلاء اليهود أنفسهم في موقف غريب، فقد أصبحوا بعد إخلائهم السريع وانتقالهم إلى كازاخستان وأوزبكستان وإلى جمهوريات وسط آسيا، في حالة ارتباك ويأس، وألقي بهم في أوساط غير مألوفة واقتلعوا من جذورهم. وكان عليهم أن يكسبوا قوتهم وسط فقر مدقع ونقصان في الطعام، وسط مجاعة حقيقية، وبذلك أصبحوا من جديد بارزين في السوق السوداء على حساب لقمة الفقراء، لقد عادوا سماسرة.
لقد كان برونو باور وماركس مناهضيْن لليهودية، وهذه المناهضة عامة تشمل باور، فيورباخ، ماركس، موزس (موسى) هس (الذي شكّل حلقة الوصل بين فيورباخ وماركس ثم انقلب وغدا صهيونياً)، سبينوزا، غوتيه، فولتير، وهنريش هاينه. «والمعروف عن هاينه أنه ابن عائلة يهودية تركها واعتنق المسيحية وكان معجباً بمارتن لوثر والمذهب البروتستانتي الإصلاحي للكنيسة» (الجبل السحري)، «والفكر البورجوازي الثوري كله، الأدب الإنساني، التراث التقدمي الخالد، يحمل هذا النفَس المناهض لليهودية. الأدب ترك لنا نماذج يهودية سلبية خالدة» (باور-ماركس: حول المسألة اليهودية، مقدمة مرقص)، كل هؤلاء يجمعون على مناهضة اليهودية. «الفكر البورجوازي الثوري الإنساني يأخذ على اليهودية (الدين والجماعة والصفة) خصوصيتها، انغلاقها، تعصبها، محدوديتها ولا إنسانيتها، ولا أخلاقيتها، بعدها عن البشر وسعادتهم وعن التاريخ، عن التاريخ ومصائر الشعوب والمخاض الأوروبي» (مرجع سابق) إن المأثرة الأولى الكبرى لرجال من طراز ابراهام ليون (الفهم المادي للمسألة اليهودية)، مكسيم رودنسون، إسحق دويتشر (جميعهم ماركسيون من أصل يهودي) وفضلهم على الفكر الماركسي والمصائر البشرية، أنهم وقفوا ضد الصهيونية، عارضوا الابتزاز بـ«اللاسامية»، وضربوا التجاهل الماركسي شبه العام للمسألة اليهودية ذاتها (فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية)، فعلى من لم يقرأ مؤلفاتهم أن يقرأها (مرجع سابق).

* كاتب سوري

مراجع:
1-إسحق دويتشر: «اليهودي اللايهودي»
2-باور-ماركس: «حول المسألة اليهودية»، ترجمة إلياس مرقص
3-دوستويفسكي: «الجريمة والعقاب»، ترجمة سامي الدروبي
4-توماس مان: «الجبل السحري»، ترجمها عن الألمانية عدنان حبّال