لم تعترني الدهشة منذ الوهلة الأولى عند زيارتي للمدينة الرياضية لنادي ريال مدريد (Valdebebas) في العاصمة الإسبانية، حيث لم يكن مجرد ناد رياضي بل أكثر من ذلك؛ النظام المؤسسي والتصنيف التراتبي، والأهم مكتب العلاقات الدولية، وكأنه وزارة خارجية مصغرة لنادي القرن، حتى إنه يطلق على بعض لاعبيه المخضرمين صفة سفير، ليمثلوا 600 مليون من عشاق ومعجبي النادي حول العالم، وأكثر من 455 مشروعاً في 75 دولة، فضلاً عن جمهور النادي الافتراضي المكون من 428 مليون متابع على منصات التواصل الاجتماعي.يبدو أن الرياضة أصبحت أكبر بكثير من مجرد نشاط بدني، فلقد تحوّلت إلى عنصر عالمي لمداخل الاندماج الاجتماعي في عالمنا الصاخب، بل تشكّل أحد أطر الهوية الخاصة التي تغلغلت إلى ذات المجتمع، ومسارات العنصر العاطفي، والمحفز للحماسة في المعادلة الرياضية التي باتت تصنع المواقف السياسية والاجتماعية، والهوية الجمعية البديلة أحياناً، وتشكّل جسور التواصل لتذهب أعمق من فلسفة الألعاب ذاتها.
لطالما كان للرياضة تأثير في الديبلوماسية، ومن هذه العلاقة نسج المصطلح الجديد الذي يصف الممارسة القديمة، وأصبحت تشكل كياناً وثيقاً كجزء من القوة الناعمة، أو أداة ثقافية لصناعة الانطباع العام في عصر سيولة الصور والانطباعات، لكون الرياضة ظاهرة عالمية تتجاوز الحدود اللغوية والوطنية والثقافية، أو وسيلة لنقل هوية أو تراث المجتمع والدولة، كجزء من الديبلوماسية العامة والأدوات الثقافية والرمزية. لكن الأهم أصبحت الرياضة حجر الأساس لصناعة براند أو ماركة الدولة (Nation Branding)، ففي سياق العولمة ليس بالأمر الجديد أن تهتم الدول بصورتها ونمط إدارة سمعتها في المسرح الدولي، بشكل يفوق مجرد كونه هدفاً اقتصادياً لجذب السياحة أو الاستثمار الأجنبي، بل توطيد تأمين النفوذ الجيوسياسي. ولهذا أصبحت مهمة صناعة العلامة الوطنية للدولة والأمة بمثابة نمط استراتيجي تسعى إليه الدول لتحقيق أهدافها، حيث وضع مؤشر دولي لبراند الدولة صيغ وفق ستة معايير: أولها يعنى بالسياحة والمعالم الحضارية للدولة، وثانيها بالصادرات أي منتجات وخدمات الدولة، والمعيار الثالث الهوية الثقافية والتراث، والرابع هو معيار الحكومة واستقرارها السياسي، والخامس هو طبيعة القيم الاجتماعية مثل التسامح والكرم وغيرها، وآخرها هو الاستثمار الاقتصادي وقدرة الدولة على جذب الشركات وصناعة بيئة الأعمال.
في أغلب الأحيان، يُستعان بشركات العلاقات العامة لصناعة هذه الصورة، فعلى المستوى الاقتصادي يمكن أن تتحوّل لاحقاً تلك الصورة إلى تحسين ماركتها التجارية، حتى قيل إن «مايكروسوفت» و«ماكدونالدز» من بين أبرز الديبلوماسيين الأميركيين، أو أن «نوكيا» هي مبعوثة فنلندا إلى العالم، أو أن سيارات «مرسيدس» تعمل بروح وكفاءة الأمّة الألمانية، وبذلك تتحوّل البراندات إلى رافعات إيجابية لتلك الصورة لكي تعلق على حائط المجتمع الدولي بتصور إيجابي وبمسمار راسخ.
وقد تحولت فكرة البراند من مجال تسويق المنتجات التجارية، إلى المنتجات السياسية والديبلوماسية للدولة لصناعة هوية حضارية تنافسية، ووفقاً لتقرير صادر عن وزارة الخارجية الإسبانية، فإن ما يقرب 41% من الأخبار التي تشير إلى إسبانيا في الصحافة الأجنبية تشير إلى الرياضة الإسبانية بكونها تشكّل إحدى العلامات الرئيسية للهوية والمكانة الدولية لشبه الجزيرة الإيبرية.
لهذا، فإن براند الدولة يمثّل سياق الجهد الحكومي وغير الحكومي المنسق والفعال لإدارة صورة البلد، ونظام إدارة السمعة من خلال تعزيز الهوية الثقافية للمجتمع وتاريخه خارج حدودها في السوق الدولية، ضمن نظام الأنماط والصور في عصر الثورة المعرفية. فعلى المستوى المؤسسي، في عام 2009 حصلت اللجنة الأولمبية الدولية (IOC) على صفة مراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأُسِّس مكتب للرياضة من أجل التنمية والسلام (UNOSDP) من قبل كوفي أنان عام 2001، وجرى السياق على استخدام الرياضة لصناعة التأثير الدولي وتحقيق النتائج على مستوى العلاقات الدولية على رغم الأسطورة الخيالية التي تحكي قصة فصل الرياضة عن السياسة.
براند الدولة يمثّل سياق الجهد الحكومي وغير الحكومي المنسق والفعال لإدارة صورة البلد، ونظام إدارة السمعة من خلال تعزيز الهوية الثقافية للمجتمع وتاريخه خارج حدودها


إن الحيادية والاستقلالية مفردتان لا مكان لهما في قاموس السياسة أو العلاقات الدولية، كما يقول الروائي جورج أورويل: «في عصرنا لا يوجد شيء اسمه بعيد من السياسة، كل القضايا هي قضايا سياسية». بالتالي عملية فصل الرياضة عن السياسة هي عملية عقيمة لن توصلنا لأي نتيجة. وهذا الارتباط هو قديم منذ انطلاق الألعاب الغلغامشية (الألعاب الأولمبية آنذاك) في العراق القديم قبل أن تظهر في اليونان، حيث أن العراقيين القدامى مارسوا فنون المصارعة والملاكمة والتجديف كما وردت في ملحمة غلغامش ووظفوها بشكل سياسي لحماية ممالك ودويلات تلك الحقبة.
وعلى الرغم من أن كثيرين يعتقدون أن الرياضة هواية ليست سياسية أو محايدة، فإن الرياضة متداخلة بشكل معقد في السياق الاجتماعي والسياسي الأوسع. وكانت بوادر الأمر بداية في ما يعرف بالهدنة الأولمبية التي تأسست في القرن التاسع قبل الميلاد، والتي أدّت إلى نهاية جميع الأعمال العدائية في الأراضي اليونانية قبل شهر واحد من بدء الألعاب، ثم مُدّدت الهدنة إلى ثلاثة أشهر قبل الألعاب في القرن الخامس قبل الميلاد، وصولاً إلى ديبلوماسية «Ping-Pong» التي فتحت العلاقات الصينية - الأميركية في أوائل عام 1970 والتي مهدت لمستشار الأمن القومي هنري كيسنجر للسفر إلى الصين، وبعد ذلك في عام 1972 لحقت الزيارة التاريخية لرئيس الولايات المتحدة ريتشارد نيكسون. أو كذلك الهدنة المماثلة نتيجة الحرب في يوغوسلافيا قبل أولمبياد برشلونة عام 1992، وأيضاً إقناع الكوريتين بالمشاركة معاً في ألعاب بيونغ تشانغ تحت علم موحد، حيث وقّعت الدولتان اتفاقية لتقديم ترشيح مشترك لألعاب 2032، أو ديبلوماسية لعبة الكريكيت بين الهند وباكستان، في إشارة إلى أن الرياضة يمكن أن تصبح قناة انفراج في العمل الديبلوماسي، أو لنقل رسائل غير مباشرة بين الأطراف والفواعل الدوليين كما حصل في تعاقد نادي الحشد الشعبي لكرة السلة في العراق مع اللاعب الأميركي سي جاي جايلز.
وأحياناً توظف الرياضة كأداة سياسية براغماتية مثل الألعاب الأولمبية في برلين بعهد هتلر عام 1936، والمقاطعات السياسية في جنوب أفريقيا، وصولاً إلى قرار الفيفا بإقصاء روسيا من المشاركة في كأس العالم في قطر، على خلفية أحداث أوكرانيا، أو تهديد واشنطن بعدم مشاركتها في ألعاب أولمبياد الصين بحجة حقوق الإنسان.
وعليه، فإن قواعد الرياضة، كما هي قواعد الديبلوماسية، تتفقان على الأطر الخاصة بكل ممارسة، كما يقول هارولد نيكولسون: «في الديبلوماسية... حتى لو سجل خصمك يجب عليك أن تلتزم بقواعد اللعبة»، وكأن تعبيره عن قواعد اللعبة إشارة مبكرة إلى العلاقة بين الرياضة والديبلوماسية، ثم أضافت العولمة صبغة أنماط فاعليها الجدد لتحول لاعبي الرياضة إلى فاعلين مؤثرين في العلاقات الدولية، مثل لاعب التنس الإسباني رافائيل نادال الذي يخرج بإعلان لوزارة الخارجية الإسبانية للترويج لموسم سياحي، وكما أنشأت الولايات المتحدة الأميركية قسم الديبلوماسية الرياضية في وزارة خارجيتها، حيث يقول الديبلوماسي الأميركي جيم كاين: «قد تكون الرياضة مورداً سياسياً أكثر فاعلية من سياسة العصا والجزرة، فهي وسيلة قوية للتواصل وبناء العلاقات مع مختلف الأطراف الثقافية والعرقية».
في عالم اليوم تحرف تصوراتنا بكل ذكاء عن مجموعة معينة من الناس والثقافة والمجتمعات من خلال تفاعلاتنا المباشرة الضئيلة والتصورات في وسائل الإعلام والاتصال، لذلك يصار عمداً إلى ربط ثقافات معينة بقوالب نمطية جاهزة، والشرق الأوسط هو المختبر الأساس لبناء هذه التصورات. وكان كأس العالم في قطر فرصة رائعة لتغيير نمطية الصورة التقليدية عن إنسان الشرق، وهوية العرب وصورة المسلمين، ونجحت الدوحة في تفكيك هذه الصورة نوعاً ما، فضلاً عن كون المونديال أسهم بشكل كبير في تعزيز براند الدولة. وعلى هذا الأساس استضافت الأخيرة العديد من الأحداث الرياضية العالمية الكبرى، مثل دورة الألعاب الآسيوية 2006، وكأس الأمم الآسيوية لكرة القدم 2011، وبطولة العالم لكرة اليد للرجال 2015، وبطولة العالم لألعاب القوى 2019، أضافت لها بطولة كأس العالم لكرة القدم نكهة أخرى، وهي أوّل بلد عربي وأوّل بلد في الشرق الأوسط يستضيف هذا الحدث الرياضي الشهير، وبمثابة فرصة لترويج هويتها، وخصوصاً للدول الصغيرة جغرافياً التي نجحت في ترميز صورتها عبر أيقونات رياضية مثل رياضة رالي السيارات في البحرين. كما وظّفت قطر فرص الاستثمار الرياضي، ففي عام 2011 اشترت نادي كرة القدم الفرنسي باريس سان جيرمان، وهذه الخطوة الرياضية كانت ضربة اقتصادية وسياسية، مثلاً أصبحت الخطوط الجوية القطرية شريك الطيران الرسمي للفيفا، وسياسياً كما عبّر الأمير السابق لدولة قطر: «اعتراف اللجنة الأولمبية الدولية أصبح أهم من اعتراف منظمة الأمم المتحدة».
ومن الدوحة إلى البصرة، حيث يشهد الجميع وبالصورة الإجمالية نجاح بطولة كأس الخليج 25 التي تنظمها البصرة العراقية، ربما لم تحظ الدورات السابقة منذ انطلاق هذه البطولة في عام 1970 بمثل هذه الإشادة والإعجاب والجمالية، وقد بذل العراق جهوداً كبيرة وواضحة عبر مؤسساته المختلفة لتنظيم هذه البطولة ساهمت في نجاحها، لكن العنصر الأبرز كان في نجاحها عبر مسار الديبلوماسية الشعبية التي قادتها الجماهير العراقية، وتحديداً في مسار طبيعة الهوية العراقية بشكل عام والجنوبية على وجه الخصوص، في منطقة عاثت بها السياسة والحروب في المنطقة لكن حاولت الرياضة تعديل مسارها، فضلاً عن التعاطي السلبي العربي تجاه الملف العراقي الذي استمر لسنوات، فكانت فرصة عراقية رائعة لتغيير وصناعة صورة إيجابية جديدة تمثل البطولة الرياضية الخطوة الأولى التي تحتاج في ما بعد إلى عمل وتخطيط دائمين لكي تحوّل التهديدات إلى مكاسب.
وهكذا فإن الديبلوماسية الرياضية أصبحت جزءاً أساساً من خطط الديبلوماسية العامة، ولعلنا نشهد في الوقت القريب فتح قنصليات رياضية في السفارات كجزء من أدوات الديبلوماسية الحديثة وكجزء من عولمة صناعة الرياضة التي سارعت شبكتها بالانتشار، وربما هذه الديبلوماسية القطاعية ستعمل على تغيير مفاتيح السياق التقليدي للأزمات، كما يقول نيلسون مانديلا: «تمتلك الرياضة القدرة على تغيير العالم».

* ديبلوماسي عراقي، باحث في العلاقات الدولية