ربطت كارولين بيكيه C. Piquet (March, 2004)، في دراستها عن امتياز «شركة السويس» منذ عام 1854 وحتى تأميمها، هذا الامتياز الأوروبي «الحديث» في مصر بنظيره في القرون الوسطى الذي تمتّع به عدد من تجّار عالم البحر المتوسط، واشتراط الأوّل منْح مصر القدرة على ترسيخ بنية أساسية حديثة وتلقّيها المساعدة الأوروبية الضرورية في حفر القناة، وتحويل الإقليم الصحراوي إلى إقليم اقتصادي بالغ الأهميّة، بينما حَرم نظام الامتيازات، مصر من الاستفادة الكاملة من «هذه البنية الأساسية». وتوصّلت، في محصّلة مختصرة، إلى أن القناة خَدمت، في العقود التالية لحفْرها، مصالح الشركة المالية والاستراتيجية على السواء، وليس مصالح الاقتصاد المحلي، «ما أَبرز جميع تناقضات نظام الامتياز»، ولا سيما كونه عائقاً أمام مزيد من تنمية الاقتصاد الوطني(i). ولم يمثّل رأسمال «الشركة العامّة لقناة السويس البحرية» Universal Company of the Suez Maritime Canal (المؤسسة رسميّاً لصاحبها فرديناند ديليسبس، في 20 كانون الأول/ ديسمبر 1858) عنصراً حاسماً في مشروع القناة؛ إذ تولّت مصر واقعيّاً كلّ تكاليف عملية حفر القناة من خلال توفير الحكومة للعمالة الإجبارية (السخرة) من دون مقابل، والأراضي والإعفاءات الجمركية، كما تحمَّل الخديوي إسماعيل، بعد ثمانية أعوام وفي تجربة تشبه كثيراً أزمة الاستدانة الطاحنة في العالم الثالث قرب نهاية القرن الماضي، تسديد الفروق «المستحقَّة» للشركة بسبب تعديل السلطان العثماني فرماناً سابقاً للخديوي محمد سعيد بخصوص القناة، ما رهن مشروع «تحديث» مصر بأكمله، كما تصوّره إسماعيل، بإدارة قناة السويس وتوابعها الاقتصادية، وما قادت إليه من تدهور علاقات مصر مع الدائنين الدوليين نهاية سبعينيات القرن الـ19(ii)، وكانت من ضمن العوامل التي تعلَّلت بها بريطانيا لاحقاً لاحتلال مصر في عام 1882.
السويس و«غوردون الصيني»: بوابة توسُّع الإمبراطورية البريطانية
حضرت أهميّة قناة السويس الحاسمة لبريطانيا - القوّة العسكرية والاقتصادية العظمى في العالم -، في مذكّرة مهمّة أرسلها، في عام 1881، الكولونيل تشارلز ج. غوردون، قائد فرقة المهندسين الملكيّة في موريشيوس حينذاك، من نقطة تمركزه إلى لندن، وفيها تساءل عن قيمة الطريق البحري المارّ بالسويس حال «نشوب أيّ صراع بين بريطانيا وأيّ قوّة أوروبية كبرى»، في وقت كانت فيه الترتيبات الدفاعية للإمبراطورية نفسها قيْد مراجعة دقيقة من قِبَل بعثة «كارنارفون» Carnarvon Commission (1879-1882). وكانت فكرة غوردون، الذي قُتل لاحقاً على يد «قوات الأنصار» في الخرطوم (1885) خلال خدمته حاكماً عاماً للسودان، تقوم في الأساس على أنه في حال أيّ غلقٍ أو تخريب لقناة السويس، فإن البحرية الملكية (البريطانية) في البحر المتوسط ستواجه مشكلات لوجيستية خطيرة من شأنها أن تُفقدها قدْرتها على استمرار تفوّقها في الأخير. وارتبطت بهذه المذكّرة تقارير متكرّرة عزّزت على نحو غير مباشر أهميّة تقوية البحرية الملكية خطّ الكيب البحري كبديل عن طريق السويس. ويمكن ربْط هذه الأهميّة «المزدوجة» للسويس والكيب، بحقيقة استمرار تمركز القوات البريطانية في قاعدة «سيمونزتاون» البحرية في جنوب أفريقيا حتى عام 1955، عندما سلّمتها لحكومة إقليم الكيب، وهو ما دفع لندن، منذ ربيع عام 1956، إلى اتّخاذ مواقف أكثر عدائية تجاه مصر، لأسباب مفهومة(iii).
على أيّ حال، لاحظ غوردون، أحد أبرز مهندسي الاستعمار البريطاني في النصف الثاني من القرن الـ19 والذي تبنّى رؤية مسيحية متطرّفة لرسالة بلاده في العالم، أهميّة القناة لتأكيد هيمنة بلاده العالمية في ذلك الوقت، وحساسيّة التدخّل البريطاني - وإن دعا إليه في آخر المذكّرة - لأنه سيمثّل عدواناً على أملاك فرنسية «في القناة وفي جزء من اليابسة المحيطة بها»، وأن دخول جنود إنكليز المنطقة سيمثّل غزواً «لأراضٍ فرنسية»؛ كما أن القناة تقع «في أراضٍ مصرية»، والباشا مسؤول عن حمايتها (كما اتّضح في إرساله قوات مصرية لحمايتها خلال الحرب الروسية - التركية في عام 1877)، ومن ثمّ فإن أيّ تحرك بريطاني، بحسب غوردون، سيُعدّ غزواً لإقليم تركي، وهو ما سيقود في المحصلة، كما توقّع، إلى احتلال بريطانيا لمصر. وبالنظر إلى أن التجارة هي ثروة بريطانيا الكبرى، بحسب غوردون مجدّداً، كان عليها حماية أهمّ محاور هذه التجارة في العالم، ومن بينها قناة السويس والبحر المتوسط. وعقد، في ختام مذكّرته، مقارنة مذهلة بين علاقات بريطانيا التجارية مع دول المتوسط (صادرات بقيمة 44 مليون جنيه إسترليني، وواردات بقيمة 40 مليون جنيه إسترليني)، ودول ومستعمرات «شرق السويس» عبر الكيب أو القناة (صادرات 133 مليون إسترليني، وواردات 111 مليون إسترليني)، أي أن بريطانيا ستفقد، في حال وقْف التجارة في «الشرق» (بغلق قناة السويس)، ثلاثة أضعاف ما ستفقده في حال وقْف التجارة في البحر المتوسط(iv).

باب الإمبراطورية «الدوار»: استمرار الهيمنة؟
في الفصل الافتتاحي للعمل الملحمي «السويس» (1991)، ربط مؤلّفه كيث كايل Keith Kyle بوضوح تامّ بين مخاوف الإمبراطورية البريطانية من تجربة تأميم الشركة الإنكليزية-الإيرانية للنفط Anglo- Iranian Oil Company في إيران (أكبر منتج للنفط في الشرق الأوسط وقتها، والمصدّر الأكبر للثروة البريطانية) في عام 1951، وتكرارها (حتى قبل قيام ثورة تموز/ يوليو) في قناة السويس، بحسب تصريحات شهيرة لإيمانويل شينويل E. Shinwell، وزير الدفاع في حكومة كليمنت أتلي C. Attlee (23 مايو 1951)، التي يمرّ عبرها إنتاج مصفاة عبادان Abadan (مركز تكرير النفط المخصَّص للتصدير) إلى أوروبا. وعزّز مخاوف لندن إقدام رئيس الوزراء الإيراني، محمد مصدق، (في توقيت حسّاس بعد إعلانه تأميم صناعة النفط في بلاده ومصادرة حصّة بريطانيا في الشركة التي ظلّت عند 51%) على التوقُّف في القاهرة (تشرين الثاني/ نوفمبر 1951) في زيارة حظيت بترحيب شعبي مصري كبير لدلالاتها على تحدّي الهيمنة الإمبراطورية(v)، وكونها جاءت أيضاً بعد أقلّ من شهرين على إعلان رئيس الوزراء المصري، النحاس باشا (8 تشرين الأوّل/ أكتوبر)، إبطال كلٍّ من معاهدة 1936 التي ظلّت الأساس القانوني الوحيد لوجود القوات البريطانية على التراب المصري، ومعاهدة 1899 بخصوص الحكم الإنكليزي المصري الثنائي في السودان «مستعمرة مصر السابقة».
نصّ قرار تأميم «شركة قناة السويس» على استيلاء مصر على «جميع أصول وحقوق والتزامات الشركة»، وحلّ جميع أجهزتها الإدارية وتكوين هيئة مصرية منفصلة لتشغيل القناة


وإلى جانب هذه التغيّرات الحادّة في تأثير وضع قناة السويس في مكانة الإمبراطورية البريطانية، يمكن قراءة نهاية الأخيرة في الشرق الأوسط من بوابة تأميم القناة وجمود تصوّرات لندن في شأنها. فقد ظلّت بريطانيا، حتى نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، تنظر إلى الشرق الأوسط، ولا سيما بعد استقلال الهند (1947)، كحجر زاوية استراتيجية للإمبراطورية، وكذلك لتزايد حجم وارداتها من النفط من منطقة الخليج حتى بعد تأميم شركة النفطة الإنكليزية-الإيرانية. وظلّت لندن تحتفظ بأغلب قوّاتها في الإقليم في منطقة قناة السويس مع وجود حاميات بريطانية صغيرة الحجم في الأردن والعراق وليبيا بحجّة مواجهة أيّ تهديد سوفياتي محتمَل، مع ملاحظة استمرار مساعي لندن، منذ عام 1947 - عبر انخراطها في مناقشات دفاعية رفيعة المستوى مع واشنطن -، الحصول على دعم الولايات المتحدة في استراتيجيتها الشرق أوسطية. وفيما قادت محدودية القدرات العسكرية البريطانية المتزايدة في الإقليم إلى تركيز قادة أركان الجيش البريطاني على تبنّي وجهة نظر الدفاع عن «الدائرة اللصيقة» (انطلاقاً من قاعدة قناة السويس) التي تضمّ إسرائيل والأردن وغربي العراق، فإن «البنتاغون» تبنّى رؤية مباغتة لتصوّرات لندن، قوامها استراتيجية «الحلقة الخارجية» outer ring، والتي تشمل دول الأطراف الشمالية (للدول العربية في الشرق الأوسط)، وهي تركيا وإيران وباكستان كوسيلة وحيدة للدفاع عن الشرق الأوسط(vi).

تأميم قناة السويس: ناصر وفرْض مكانة مصر الدولية
لم تكن مسألة وضع قناة السويس، منفصلة عن مجمل الترتيبات البريطانية و«الغربية» لاستمرار الهيمنة السياسية والاقتصادية في مصر ومنطقة الشرق الأوسط بأكملها. وكانت لندن تسعى - بحسب دراسة وثائقية مهمّة لستيفن أ. كوك S. A. Cook في مشروع إعادة حول النضال المصري من عهد عبد الناصر حتى ميدان التحرير (2012) - منذ عام 1953-1954 إلى شمول تركيا (عضو «الناتو» حينذاك) في ترتيبات إعادة ضبط الوضع البريطاني في قناة السويس على نحو كان يرجى منه ربط مصر بالغرب ومصالحه الأمنية، وهو الأمر الذي تمسّك برفضه «الضباط الأحرار» حتى وضع اتفاق حزيران/ يونيو 1955 جدولاً زمنياً لانسحاب القوات البريطانية من منطقة القناة، «ومنح البريطانيين حقّ استخدام قناة السويس لسبعة أعوام إضافية»(vii). وتكشف هذه الملاحظة حرص بريطانيا حينذاك على تأطير مكانة مصر الإقليمية والدولية في نظام إقليمي فرعي تقوده تركيا وما عُرف لاحقاً بـ«حلف بغداد»، وهو تصوّر مغاير تماماً للمشروع التحرّري لثورة تموز/ يوليو منذ لحظاتها الأولى.
ومهّدت هذه التطوّرات لأزمة السويس بامتياز؛ ويمكن فهم ذلك في ما قدّمه روبرت ر. بويي R. R. Bowie، في «مركز الشؤون الدولية» في جامعة «هارفارد»، من دراسة موجزة ومعمّقة حول أزمة قناة السويس في السياقَين الدولي والقانوني (1974)، تتبّع فيها تحوّل «الصراع» من الدبلوماسية إلى استخدام القوّة، وتشابكه بشكل تام مع العداء العربي الإسرائيلي، ودوائر أوسع في الشرق الأوسط وحلف «الأطلسي» والحرب الباردة. ووفق هذا المفهوم، فإن قرار ناصر تأميم قناة السويس في 26 تموز/ يوليو 1956 كان محصّلة للعديد من هذه التطوّرات، مِن مِثل تصاعُد الصراع العربي-الإسرائيلي والغارات الإسرائيلية الموسَّعة على قطاع غزة (شباط/ فبراير 1955)، وتوقيع العراق وتركيا «حلف بغداد»، ثم انضمام المملكة المتحدة إليه (5 نيسان/ أبريل 1955)، وبدء ناصر مفاوضات صفقة السلاح مع الاتحاد السوفياتي (أيار/ مايو 1955)، ثم بدء مصر والولايات المتحدة وبريطانيا محادثات في واشنطن حول تمويل سدّ أسوان العالي (تشرين الثاني/ نوفمبر 1955)، ثم إعلان وزير الخارجية الأميركي، دالاس، سحْب عرض بلاده لتمويل تشييد سدّ أسوان قبل إعلان ناصر قرار التأميم بأسبوع واحد فقط(viii).
ونصّ قرار تأميم «شركة قناة السويس» (المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 26 تموز/ يوليو 1956 بوصفه القانون الرقم 285 لعام 1956) على استيلاء مصر على «جميع أصول وحقوق والتزامات الشركة»، وحلّ جميع أجهزتها الإدارية وتكوين هيئة مصرية منفصلة لتشغيل القناة، وأن يتلقّى المساهمون في الشركة تعويضات على أساس آخر سعر مذكور للأسهم في بورصة باريس في اليوم السابق للإعلان، على أن تكون قابلة للدفع بمجرّد تسلّم مصر جميع أصول الشركة وممتلكاتها (بما فيها الواقعة خارج مصر). وسعى ناصر، بحسب بويي وطائفة من المؤرّخين، إلى تعظيم الأثر السياسي للقرار بإعلانه في خطبة حماسية في المنشية في الإسكندرية. وبالفعل، فإنه مع إلقاء خطابه، تحرّك المسؤولون على الفور لإحكام السيطرة الفعلية على القناة ومكاتب الشركة، ودمَج مسألة التأميم في مجمله مع تحرّر مصر ومكانتها، بمهاجمته الإمبرياليين والاستعماريين والآخرين الذين هيمنوا على مصر واستغلّوها في الماضي، وتَحوُّل القناة، التي كان مفترضاً أن تكون في صالح مصر، إلى أداة للاستغلال والهيمنة.
ويتضح - على سبيل المثال - من مناقشات مجلس العموم البريطاني عقب قرار ناصر تأميم القناة بأيام قليلة، استمرار رؤية «غربية» صرفة للأزمة باعتبارها تهديداً لمصالح «الناتو» والعالم الغربي ككلّ. وقدَّمت ما عُرفت بـ«اللجنة الاستخباراتية المشتركة» JIC للمجلس تقريرها حول التأميم بعد إعلانه مباشرة. وجاء في خلاصة توصياتها أن التدخّل العسكري الغربي (الآني) لن يكون كافياً لضمان «نصر مبكر وحاسم»، لأن العواقب الدولية داخل الدول العربية (ولا سيما الأردن وليبيا) وأماكن أخرى ستفسح المجال أمام مزيد من التشدُّد، ولا يمكن توقّع ردود الفعل بشكل سليم. وأَطلقت الاستخبارات البريطانية مجموعة من الخطط في الشرق الأوسط لاحتواء تداعيات قرار التأميم، لكن لندن لجأت في النهاية إلى تكثيف التعاون العسكري مع الفرنسيين في عملية حملت اسماً كوديّاً Musketeer كان مقرّراً خلالها إشراك 80 ألف جندي منتصف أيلول/ سبتمبر وإنزالهم في الإسكندرية لإسقاط نظام ناصر واسترداد الهيمنة على القناة، بينما تولّى الفرنسيون مهمّة اصطناع مبرّر للعمل العسكري وتوجيه الأمور مع ناصر نحو الصدام، مع إشراك الإسرائيليين في هذه الخطط. واعتبر الفرنسيون أن الخطوة الأخيرة ضامنة للإسراع في التحرك العسكري ضدّ ناصر، وخفض الاعتماد على الجنود البريطانيين والفرنسيين المتمركزين في قبرص بشكل كبير(ix).

خلاصة
عزّزت أحداث العدوان الثلاثي على مصر وما تلاه من تسويات دبلوماسية دولية وتعظيم استقلالية سياسات مصر في دوائر حركتها اللصيقة (ولا سيما العربية والأفريقية)، في واقع الأمر، مصرية قناة السويس وإدارة شركتها في السنوات التالية. كما أسهم إقدام ناصر، بدعم شعبي هادر، على المضيّ قُدُماً - بعد تأميم القناة - في إطلاق مشروع واسع ببناء رأسمالية الدولة ومواجهة السياسات البريطانية والغربية الهادفة إلى تحجيم فرص نجاح المشروع وتجلّياته داخلياً وخارجياً، في تعزيز مكانة مصر بعد عقود من الاستعمار والتبعية العسكرية والاقتصادية المفروضة عليها، بل وفي إضافة زخم مستحَقّ وترجمة دقيقة لدور مصر الإقليمي طوال عقود لاحقة، على رغم مساعي الافتئات المتكرّرة عليه وسلبه لصالح «قوى إقليمية» وظيفيّة وصاعدة كواجهة لدول استيطانية أو «استعمارية» ومصالحها، وحاملة للواء زائف للتنمية والرفاه، فيما تجرّ خلف نفوذها الزاحف تكريساً واضحاً تماماً، ومجرّباً في واقع الأمر، للاستنزاف والنهب الاقتصادي وجهود معاقبة الضمير الوطني والنضالي المصري في صميمه.

* باحث مصري متخصّص في الشؤون الأفريقية.