حينما قال السيد نصرالله: «بدأ زمن الانتصارات ومضى زمن الهزائم»، لم يقل الرجل مجرد لغة، بل هو محمول ومضمون لواقع الأداء الميداني. نعم، هكذا يتحدث دائماً قادة حرب الغُوار. في زمانه قال ماوتسي تونغ: «يجب أن نتجرَّأ على النصر». قالها لواقع صيني شبيه بالواقع العربي اليوم، حيث استدخال الهزيمة يكتسح قطاعات واسعة، وحيث الثورة المضادة تغذي هذا الاستدخال وتكرسه ثقافياً وسياسياً ونفسياً وعسكرياً واقتصادياً.
لنعد إلى اغتيال محمد أبو خضير. لماذا نقل العدو الحرب إلى غزة؟ قد يصح القول إن هدفه كان عدم إحراج سلطة رام الله وتلافي انفجار انتفاضي في الضفة. وفي هذا بعض المعقولية.
لكن الكيان الصهيوني يعرف أين يتمترس عدوه الحقيقي والخطر. بكلام آخر، المسألة أوسع من حدود فلسطين العربية كاملة. المسألة بالنسبة إلى الكيان هو محور المقاومة والممانعة بأسره من طهران إلى الشام إلى بيروت إلى غزة.
لذا، فاختيار العدوان على غزة كان لاختبار قدرة المقاومة واختبار تواصل المحور مع غزة وربما اختبار ما هو أعمق من التواصل. فبطن الأرض دائماً أغنى من سطحها.
ولتوضيح أكثر، فالكيان لا يتصرف بمعزل عن قيادة الثورة المضادة، الولايات المتحدة. ولا نقصد هنا عسكرياً فقط، فكامل أسلحة الكيان التي تغوص في دمنا هي أميركية، بل إن الاحتلال ينسق مع واشنطن والاتحاد الأوروبي خطط عدوانه.
إن التناقض في الإقليم هو بين: معسكر الثورة المصادة وفي مقدمته معظم الأنظمة الحاكمة وخاصة أنظمة الريع النفطي، وبين محور المقاومة والممانعة.
الأول كما النظام الرأسمالي العالمي في تراجع والثاني كما البريكس في صعود. لهذا كان العدوان على غزة، لأن الثورة المضادة في مأزق مواجهة المحور الصاعد. إنها تستميت لوقف صعوده. صمود المقاومة حقق حق العودة بالصواريخ، وبالقتال الالتحامي مواجهةً مع جنود الاحتلال. هذا الصمود أعاد فلسطين إلى صدارة الأحداث تمهيداً للعودة إلى فلسطين. هي بالصاروخ والصمود الخطوة الأولى نحو العودة بالتحرير وليس حق العودة بالقانون الدولي.
هناك أكثر من إشارة جادة، بل مبادرة أربكت مضاربي كازينو المبادرات وخاصة القطرية والتركية:
خطاب الرئيس الأسد الذي أكد موقع فلسطين في المشروع القومي، والمؤتمر الإسلامي في طهران، ومؤتمر علماء المسلمين في دمشق، وتواصل سيد المقاومة مع قادة حماس والجهاد، واليوم خطاب السيد.
لا يمكن هذه التحركات أن تكون بلا تنسيق. وعليه، فإن معناها بأن محور المقاومة يأخذ زمام المبادرة بوضوح، وهو أخذ عزيز مقتدر مبني على القدرة القتالية لقواعد المقاومة.
لعلّه انقلاب واضح في ما هو بديهي في الحروب. البديهي هو أن تقود القيادة السياسية القيادة العسكرية. ولكن، يبدو أنه في لحظة الاشتباك يكون العكس وخاصة حين يكون موقف القيادة السياسية أقل صلابة من موقف المقاتلين. وهذه حالة حماس تحديداً.
قبيل استقلال جنوب اليمن في 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1967 اقترحت عدن قيادة القوميين العرب من خلال التنسيق مع عبد الناصر، واقترحت على الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن أن تندمج مع جماعة عبد القوي مكاوي وعبد الله الأصنج. ذهب الحكيم ومحسن إبراهيم إلى الجنوب ليقنعا قيادة الجبهة القومية بالاقتراح. كان الرد: نتعهد لكم بصحة موقفنا نحن الذين نقاتل على الأرض ومسلحي مكاوي أكثرهم من حزبنا وحين نسحبهم يبقى لديه القليل. (وهذا ما حصل). لذا اسمحوا لنا بأن لا نندمج لأننا القوة الحقيقية التي تقاتل والتي سيضطر الاستعمار البريطاني لمفاوضتنا وهذا ما حصل.
من هنا، يحق لنا القلق من الاستثمار من قبل أنظمة كازينو الدم بمبادراتها التي يُديرها العقل الصهيو ــ أميركي. أنظمة تستثمر في دم المقاتلين والمواطنين لتتقرب إلى الإمبريالية زُلفى. كل هذا يجب أن ينتهي. وهذا برسم الوعي السياسي للمقاتل الميداني.
والأنكى من كل هذا ذلك الدور الذي يؤديه الطابور السادس الثقافي، الذي لا يرى في حماس غير الأصولية الدينية، لا يرى المقاتلين والفدائيين ويعزف نغمة نشازاً في لحظة هي الوطن. هذا الفريق المثقف هو المثقف العضوي للثورة المضادة، ودوره قصف الموقف باستدخال الهزيمة، دفاعاً عن الكيان الصهيوني بلا مواربة. والكثير من هؤلاء من مرتدي ومتساقطي اليسار. فريق من اليسار لم يبقَ من يساريته سوى مهاجمة الدين وحشر الدين في أنظمة وقوى الدين السياسي.
* كاتب عربي ــ فلسطين