العيش غير الحياة. الحياة هي أن نعيش في بهجة معقولة، أي في قدرة على العمل والمحبّة، من دون أن يطاول الإنسان قمع أو استغلال. العمل العادل هو ما يسمح للإنسان بأن يشحذ مواهبه وأن يأكل ويشرب ويتطبّب ويتعلّم، والمحبّة هي ما تسمح له بنموّ إنسانيّته، لأنّ من دونها الإنسان إمّا معزول ميت، أو مسحوق ومتسلّط. الفقراء يحبّون، ولكنّ إنسانيّتهم تنزف، هم إمّا بلا عمل أو أنّ عملهم لا يدرّ عليهم دخلاً عادلاً. كلّ الفقراء واحد: هابيل النازف.الظلّام هم مَن يدفعون الناس إلى الفقر، إلى شبه عبوديّة في العمل؛ هم الذين ينتجون الفقر إنتاجاً لكي يتمتّعوا هم بخيرات الأرض التي في الأصل هي خيرات مشتركة، هم أولئك الذين يمنعون عن الناس الحياة وبهجتها، ولسان حالهم ما شأني بغيري. كلّ الظالمين واحد: قايين القاتل، القائل في رواية العهد القديم "أو أنا حارس لأخي؟".

أمام القلّة الظالمة هناك أكثريّة من المظلومين، هم محرومون من الكثير من بهجة الحياة والكثير من الصحّة. لا مجال لسيطرة أقلّية على أكثريّة إلّا بإقناعها بأنّ لا أمل لها بالتغيير، وبإرضاء العسكر أو الميليشيات بفتات الثروات المنهوبة، واستغلالهم في قمع الفقراء إن احتجّوا، وقتلهم إن ثاروا. عندها لا يبقى أمام الفقراء سوى نهب بعضهم بعضاً، وظلم بعضهم بعضاً بطريقة أو بأخرى، لكي يستمرّوا في العيش البحت وينفّسوا عن غضبهم من واقعهم. هذا ليس عذراً لهم هذا شرح واقع، فـ"الذين في السلطة يقمعون... باستخدام أولئك الذين هم ضحايا الظلم... فأولئك الذين سبق أن أسيء معاملتهم يقومون بنوع من المساعدة... للذين في السلطة عن طريق إلحاق الأذى والظلم بالآخرين"، كما لاحظ القدّيس باسيليوس الكبير، في القرن الرابع ميلادي. عند انسداد الأفق، يصبح الإنسان ضدّ نفسه: هابيل ضدّ هابيل.

معظم الناس في رضوخ للمصير؛ ولكن إلى حين، فما من شعب رضخ طوال التاريخ وتأتي الانتفاضات عادة من حيث لم يتوقّع أحد. لم نكن ننتظر من اتّحاد النقابات التي فرّخها السياسيّون منذ التسعينيّات حتّى اليوم شيئاً (الجماعة رفعوا دعوى ضدّ شربل نحّاس عندما كان وزيراً لأنّه أعطاهم حقوقهم). والأحداث التي عصفت بالبلاد منذ الإعلان غير الرسميّ لإفلاس المصارف في تشرين الأوّل 2019 أظهرت مدى سيطرة السلطة على الأساتذة الجامعيّين، لإمساك السلطة بمفتاح التعيينات في الجامعة اللبنانيّة، وبمفتاح الواسطة في الجامعات الخاصّة، تلك الجامعات التي يحارب معظمها نشوء نقابات مستقلّة فاعلة فيها (الزميلة من الجامعة الأميركيّة التي أصبحت عضواً في مجلس النوّاب صرّحت أنّها ترى في رئيسه "مدرسة"). شيء من الأمل مثّلته «مواطنون ومواطنات في دولة» (ممفد) لكنّ خلفيّة الانسحابات التي رأيناها تقول إن «ممفد» دخلت في مسار التشابه مع أحزاب السلطة، وهو مطبّ معروف حول العالم حين تستنسخ معارضات الحكم ذهنيّته ووسائله، في هذه الحالة هناك اتّهام من المنسحبين باستنساخ ذهنيّة «القائد الأب» وهذا مريع لأكثر من سبب. فشل التنظيمات والأحزاب المختلفة في لبنان في تكوين جبهة وطنيّة واحدة لمواجهة السلطة الناهبة القائمة فشلٌ فادح، ما يحدث في «ممفد» هو آخر مظاهر الفشل، ما من تبرير لفتح المجال لاستمرار إنسان برئاسة حزب، مهما كان فذاً؛ خطر استتباب ذهنيّة «القائد الأب» أكبر من أخطار تغيير القيادة لأنّه فشل مؤكّد لهدف القطع مع الذهنيّة الحاكمة.

لم تتشكّل جبهة وطنيّة لمواجهة الوضع القائم، والسبب الأساس (من دون التقليل من أهمّية أسباب أخرى) هو أن الناس بعد الحرب الأهليّة لم يهتمّوا بالانخراط بالعمل السياسيّ والنقابيّ الحقّ، واختصروا مساهمتهم السياسيّة بتأييد هذا الزعيم وذاك وتبادل السباب عندما يتصارع الزعيمان أثناء نهبهم. الكثيرون ما زالوا على عبادتهم للـ«زعيم»، ذاك الصنم الذي أسّس للشِرك الحقيقيّ الواقعيّ الملموس.

المخرج من هذه الأزمة يبدأ بإعادة الاعتبار للأمل. ليس الأمل كشيء لا بدّ آتٍ، ولكن كإمكانيّة حقيقيّة واقعيّة تحتاج لعمل دؤوب متواصل. الإيمان بالله، وهو ما يدّعيه غالبيّة سكّان لبنان، هو إيمان بما لا يُرى حاصلاً اليوم، فالإيمان اليوم لا يرتكز بالأساس على المعاينة الشخصيّة، بل على شهادات الأوّلين حول كلام المؤسّس وشهادته ("طوبى لمن آمنوا ولم يروا"). إن أخذنا على الأقلّ هذا الجانب من الإيمان وطبّقناه في الحياة العامّة ينبغي أن نكون أكثر المرشّحين للأمل، للعمل جماعياً من أجل غد أفضل مع أنه غير حاصل.
الظلام عميم ولهذا نتمسّك بما لا يُرى اليوم، نتمسّك بالعدالة، بالحرّية، بالمساواة في الأخوّة البشريّة، نتمسّك بقضيّة هابيل النازف، نتمسّك بمحاكمة قابيل، نتمسّك بكلّ هذا لأنّنا نؤمن أنّه الأفضل للجماعة البشريّة. نتمسّك بالأمل، ولذلك نتمسّك بالعمل الجماعيّ المتواصل لتحقيقه.