لكل انتصار ميداني عسكري مجال من قيم التثميرات السياسية الممكنة. الوصول إلى التثمير الأقصى تحدده سمات القيادة السياسية للمقاومة، اذ يرتفع في لحظات كهذه الوزن النسبي لدور الأفراد والمراكز القيادية بالتاريخ. التثمير السياسي للنصر العسكري المقبل لغزة يمكن توزيعه على مستويين:ــ المستوى الخاص الذي يتعلق بغزة وكسر الحصار عليها وتثبيت معادلة ردع ذات مستوى أعلى مع الكيان الصهيوني وهو ماركزت عليه شروط المقاومة لوقف اطلاق النار.

ــ المستوى الوطني العام المتعلق بفلسطين وشعبها بكل أماكن وجوده، وهو ما لم تهمله شروط المقاومة عبر مطالبتها بوقف الاعتداءات على شعبنا الفلسطيني في الضفة واطلاق سراح المعتقلين منها إثر الأحداث الأخيرة، لتبعث رسالة واضحة حول دفاعها عن كل الشعب الفلسطيني وليس مجرد غزة. لكن ملاقاة الفرصة الاستثنائية التي يوفرها انتصار المقاومة وصمود أهل غزة تتطلب التعامل مع التثمير السياسي للمعركة العسكرية القائمة ضمن أفق الحل الشامل والعميق لأزمة حركة التحرر الوطنية الفلسطينية باتجاه تحقيق وحدة تستحق صفة الوطنية وقابلة للاستمرار. ما سيتقدم هو قراءة مكثفة للبّ الأزمة الوطنية الفلسطينية ورؤية أولية حول كيفية استثمار نصر غزة سياسياً للخروج منها. قراءة ورؤية يمكن اعتبارها بيان مفتوح برسم القيادة السياسية للمقاومة والحركة الأسيرة وجميع قوى للشعب الفلسطيني.

جوهر أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية

الأزمة الأساسية التي تشتق منها معظم مشاكل حركة التحرر الفلسطينية اليوم هي أزمة الوحدة السياسية والتمثيل السياسي للشعب الفلسطيني كوجهان لعملة واحدة. فما هي المقومات الضرورية لوحدة الشعب الفلسطيني؟ وما أسباب عدم تحققها؟
أولاً، وحدة الأهداف النضالية بمعنى ثوابت النضال الوطني التي تشكل عرى تماسك الشعب الفلسطيني في مشروع سياسي وتاريخي واحد، فكل ثابت منها يعبّر عن تطلعات جزء من الشعب الفلسطيني بالوطن والشتات، واسقاط أي منها يعني التخلي عمّا يقابله من الشعب الفلسطيني. الضربة الرسمية الكبرى لتلك الوحدة هي توقيع اتفاق أوسلو، فالاعتراف باسرائيل ومواطنيها أخرج فلسطينيي الـ ٤٨ من الحيز النضالي لمنظمة التحرير، لاحقاً تتالت تنازلات قيادة أوسلو لتشمل قضية اللاجئين التي أصبحت عبئاً على الدولة الموعودة وليصبح أبناء المخيمات في أراضي السلطة مثيري «شغب» و»زعران» ينبغى ترويضهم، وليصبح أبناء الشتات الفلسطيني «جاليةً» لا لاجئين.

تجاوز أزمة الحركة
الوطنية لا يمكن أن
يجرى عبر «تقبيل شوارب» مسوخ أوسلو

ثانياً، وحدة الارادة السياسية للقوى المختلفة التي تسمح لها بالتصرف كجسد واحد في القضايا المصيرية كحد أدنى، الأمر الذي يُجسّد عبر مؤسسة وطنية تمثل مظلة للقوى المتوافقة على الثوابت والتي لا يتجاوز اختلافها نطاق الايديولوجية والمسائل السياسية ذات الطابع اليومي. إن ضمان أداء هذه المنظمة لوظيفتها كإطار كلي لتمثيل الشعب وكمجسد لوحدة فعله السياسي يتطلب ضبط العلاقة بين هيئاتها وبين كل الشعب في الوطن والمنفى وفيما بين مكونات الفضاء السياسي داخل هذه المؤسسة (الفصائل والحركات والمنظمات الجماهيرية والأهلية... إلخ) عبر القنوات الديمقراطية من انتخابات ومؤتمرات وطنية وسواها. إنها منظمة التحرير الفلسطينية «أم الأولاد» التي همشت منذ أوسلو وتم «إنزال» ضرّة فاجرة عليها، سلطة أوسلو، وظيفتها العضوية تجريف مقاومة القابضين على الثوابت. فقد جرى أخذ م. ت. ف. كرهينة وتحويلها لشاهد زور و»لاعب احتياط»، فلم يعقد مؤتمرها الوطني إلا مرتين وبشكل شكك العديد من الأطراف بشرعيته، منذ أكثر من ثلاثة وعشرين عام، الأول بحضور كلينتون لتعديل الميثاق الوطني واسقاط الدفعة الأولى من الثوابت منه، والمرة ثانية عام ٢٠٠٩ اثر فوز حماس بالانتخابات التشريعية وانتهاء الولاية الدستورية لرئيس السلطة ليُجرى استذكارها كممثل شرعي ووحيد وجعلها مطية لاستمرار مسلسل قمع و ترويض مقاومة المجتمع الفلسطيني. أما أعضاء لجنتها التنفيذية فقد استشهد وتوفي الكثير منهم، ليُستبدلوا عبر التعيين و»الانتخابات» الاستزلامية ومعدة النتائج مسبقاً. الحوامل الموضوعية للوحدة السياسية والتمثيل السياسي للشعب الفلسطيني يشكلان وجهان لعملة واحدة. فإذا كانت الثوابت الوطنية هي مضمون الفعل النضالي وهدفه فوحدة التمثيل السياسي هي الشكل الذي يعطي للمضمون وجوده والوعاء التنظيمي الكلي لادارة عملية تحقيق الأهداف النضالية. التغيير بالمضمون يؤدي إلى التغيير بالشكل، أي أن التغيير بالأهداف النضالية يؤدي حكماً إلى تغيير صورته في الوعاء التنظيمي الحامل لهذه الأهداف، وهو ما شهدته م. ت. ف. وفصائلها. اذ توسع فيروس أوسلو الذي ابتدأ بإسقاط الثوابت، ليخترق منظمة التحرير مهمشا اياها بعد أن خلق وعاء تنظيمياً جديداً، سلطة أوسلو، يناسب الأجندة الجديدة واخترق الفصائل خالقاً حالة انقسام عمودية ليغدو داخل معظم الكيانات السياسية الفلسطينية تيارين على الأقل، وإن بنسب متفاوتة، القابضون على جمر الثوابت ووحدة الشعب الفلسطيني والقابضون على الأخضر الذين أصبحوا وكلاء لأوسلو في تنظيماتهم. لنصل إلى حالة الانقسام بين سلطة أوسلو وحماس، التي والحق يقال مثلت انقساماً موضوعياً، انقساماً بين المفرطين بفلسطين بصورتها الموحدة لكل الفلسطينيين وبين المتمسكين بكل فلسطين. فقصر مشكلة الوحدة الوطنية إلى الانقسام بين حماس وقيادة فتح هو استبدال العرض بالمرض، اذ أنه انقسام عميق حول الأّهداف والوسائل النضالية. فأي مصالحة لا تنسخ الأجندة السياسية لأوسلو تسقط عنها صفة الوطنية وتحمل في طياتها عوامل انتكاستها عاجلاً أم آجلاً لأنها تقفز عن جوهر الأزمة.

قنوات تحقيق الوحدة الوطنية الحقيقية

إن الانتقال من تشخيص الأزمة إلى الخطوات الملموسة للخروج منها، يتطلب الاجابة على السؤال التالي: هل الانقسام السياسي الفلسطيني تعبير عن اختلاف بالأراء يمكن اصلاحه بجلسات العصف الفكري والحوار المديد، أم أنّ له حوامل موضوعية مادية لا يزول إلا بزوالها؟
الجواب على هذا السؤال من وجهة نظر علم الاقتصاد السياسي مُضمّن في مقالة نشرت هنا في «الأخبار» بعنوان «الاقتصاد السياسي لأوسلو واعادة تكوين الحركة الوطنية الفلسطينية»، حيث خلصت إلى أن الخرق الأساسي الذي حققه رعاة أوسلو في المجتمع الفلسطيني هو خلق قوى اجتماعية مرتبطة عضوياً بالمشروع الاستعماري، قوى الفساد والمال في أجهزة السلطة واقتصادها التي تستمد وجودها من استمرار ترتيبات أوسلو واستمرار التمويل الدولي المشروط سياسياً، فالسلطة ليست سوى مقاول أمني متعاقد في مشروع قمع مقاومة المجتمع الفلسطيني وتغيير ملامحه وقيمه المقاومة.
الأمر الذي يعني أن تجاوز أزمة الحركة الوطنية بشكل حقيقي لا يمكن أن يجرى عبر «تقبيل شوارب» التمثيلات السياسية لمسوخ أوسلو الاجتماعية سابقة الذكر، التي لم ولن تسمح للشعب الفلسطيني باستعادة مؤسساته الوطنية على أساس الثوابت، فكلنا نعرف دور هذه القوى بالتخلص من الشهيد ياسر عرفات إبان اندلاع الانتفاضة، الأمر الذي يرجح تكراره اذا ماظهرت طفرة سياسية وطنية في قيادة السلطة. إن قراءات تاريخ الحركة الثورية العالمية وحركات التحرر الوطني تزودنا بأمثلة عدة للاستعصاءات السياسية والتنظيمية الكبرى يتوقف على حلها مصير ملايين ومليارات من البشر، وجرى التعامل معها وفق منهجية «من تحت لفوق»، أي ادخال الشعب بمعركة حسم الاستعصاء بشكل وطني وثوري عبر تأمين قنوات الفاعلية السياسية له.

تصور أولي: الوحدة الوطنية من تحت لفوق

إن النصر العسكري للمقاومة الفلسطينية في غزة يمثّل فرصة تاريخية استثنائية يجب التقاطها وعدم التفريط بها، لأن رصيد المقاومة الشعبي بأعلى مستوياته الأمر الذي يسمح بتخفيف وتصفير الخسائر التاريخية لمعركة استعادة الوحدة الوطنية الحقيقية. فما لسبيل العملي إلى ذلك؟ بالملموس، المطلوب اعادة صوغ الفضاء السياسي الفلسطيني وحل الاستعصاءات السياسية التالية:
١ــ تهميش م. ت. ف. وعدم شرعية هيئاتها وحجب وظيفتها عنها كممثل شرعي ووحيد للشعب.
٢ــ انتقال مركز القرار السياسي لسلطة أوسلو المرتهنة عضوياً للخارج.
٣ــ فيروس أوسلو الذي خلق تياراً على صورته داخل معظم التنظيمات الفلسطينية.
٤ــ الانقسامات التنظيمية التي زالت مبرراتها السياسية التاريخية والإيديولوجية، ليغدو حاملها الوحيد فعلياً حصصها المالية في م. ت. ف في ظل تحكم قيادة أوسلو بالحسابات المالية للمنظمة والتعقيدات الاجتماعية التي خلقها ذلك، بالاضافة إلى تمتع بعض قياداتها بامتيازات ومناصب السلطة.
٥ــ تغير الأوزان النسبية للفصائل التاريخية وتكون فصائل جديدة ذات أثقال نوعية بالمجتمع الفلسطيني. إن سقوط وهم إمكان ملاقاة قيادة أوسلو للتغيير المطلوب ومماطلتها بخصوص اصلاح منظمة التحرير وتهربها الحتمي مستقبلاً منه (إلا اذا توافقت القيادة السياسية للمقاومة مع أجندة أوسلو وهو أمر بعيد المنال)، اضافة إلى ضرورة ايجاد حل لمشكلة الشرعية، كل ذلك يعني أن التغيير لا يمكن أن يأتي إلا بدفعة من «تحت» أي عبر تفعيل طاقة النشاط السياسي المتصاعد للتجمعات الفلسطينية المختلفة والذي ازداد توهجاً إثر انجازات المقاومة، الأمر الذي يحتاج إلى وعاء سياسي وتنظيمي يمكن بناؤه عبر اطلاق حركة من أجل التوحيد الوطني، لا تستثني أحداً إلا من يستثنى من الثوابت. تعمل الحركة على بناء هيئاتها ورؤاها من تحت لفوق مع التنسيق والادارة الفوقية بين قيادات القوى السياسية المقاومة، بهدف تشكيل لجان تمثيل سياسية للشعب الفلسطيني في كل حي ومخيم وقرية ومدينة وجامعة وسجن وبلد، تعمل للتحضير الديمقراطي لمؤتمر وطني شامل، يضع على جدول أعماله بحث:
١ـ البرنامج الوطني وطابع العلاقات الاقليمية والدولية المنشودة التي تتوافق مع تحقيق الثوابت الوطنية.
٢ـ سبل استعادة م. ت. ف. وقيامها بوظيفتها عبر النظام الداخلي لمنظمة التحرير من دون استثناء حلول أخرى في حال استمرار السياسات الابتزازية والاستزلامية الفاسدة لقيادة أوسلو في ادارة شؤون منظمة التحرير.
٣ـ العمل على اقرار أوراق سياسية وتنظيمية في هذا المؤتمر لتنبثق عنه هيئة تمثيلية سياسية فلسطينية تتابع تنفيذ توصيات المؤتمر.
إن فتح المعركة على الصعيد الوطني الكلي سيؤدي إلى انتقالها آلياً لداخل كل فصيل، لتجرى اعادة الاصطفاف وصياغة الحركة على أساس الموقف من الثوابت، الأمر الذي يجب استثماره في تعميق عملية التوحيد وتوسيعها لتشمل توحيد التيارات المنقمسة رغم انسجامها الفكري في فصائل منظمة التحرير التاريخية .
إن حالة انقسام حركات التحرر الوطنية هي ظاهرة موضوعية شملت معظم إن لم يكن كل حركات التحرر والتي ذهبت حدّ الانقسام الجغرافي، إلا أن الحالة الشعبية التي خلقتها وستعمقها انتصارات المقاومة في كل أماكن وجود الفلسطينيين بالاضافة إلى حالة الاستياء الاجتماعي المتصاعدة بالضفة نتيجة الوضع الاقتصادي المزدري وفقدان المبرر السياسي لوجود السلطة نتيجة فشل المفاوضات المحتوم، بالاضافة إلى الأثر الايجابي الذي سيتركه تحقيق كتائب شهداء الأقصى لانجازات اضافية على الأرض وتحفيز فاعلية الشرفاء من حركة فتح الموجودين في كل مكان. إنّ كل ذلك سيلعب دوراً حاسماً في جعل الثمن السياسي التاريخي يتناهى نحو الصفر لعملية عزل قوى الشذوذ عن الصراط الوطني الفلسطيني المقاوم، وهكذا نكون تجنبنا مصير باقي حركات التحرر بالانقسام العميق. فكلنا يعلم أنّ حكومة الوحدة الحالية هي حكومة هشّة ولن تصمد أمام الاستحقاقات المقبلة إلا اذا وافقت حماس على برنامج أوسلو وهو أمر بعيد المنال.
لا يكتسب توجه كهذا ضرورته كونه الطريق الوحيدة لاجهاض محاولات واشنطن قيد الاعداد لتمديد عار أوسلو، لا بل أنه سيعيد فلسطين وشعبها كقوة طليعية فاعلة من قوى المقاومة والتحرير تدفعها وترفعها وليست قوة منفعلة أومفعول بها أومستَزلَمة في سياق الصراعات الدولية والاقليمية، ففلسطين وحدها القادرة اليوم على التسريع الهائل لعملية فرز القوى ودفع الاصطفافات السياسية والاقليمية لسكتها الصحيحة بعيداً من الاصطفافات الفئوية والطائفية الهدّامة.
إن عملية من هذا النوع اذا ما أديرت بشكل جيد وبأفق وطني وصدر رحب من قبل قوى المقاومة الكبرى تحديداً ستؤدي إلى تنشيط الدورة الدموية للشعب الفلسطيني وضخ دماء وكفاءات جديدة شابة وحكيمة ستجعل من الجسد الفلسطيني الموحد المقاوم قادراً على ملاقاة الظرف الجيوسياسي الدولي قيد التشكّل الذي سيسمح بتحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني، كل التطلعات.
فهل تفعلها القيادة السياسية المقاومة، وتحديداً قيادتا حركتي حماس والجهاد الاسلامي، وتعظّم التثمير السياسي للنصر الأسطوري المقبل فتكون بذلك على مستوى كوادرها العسكرية وصمود شعبها؟
* كاتب فلسطيني