المعاناة أضخم من أن توصف. الخسائر أفدح من أن تُعدّ أو تُحصى. الارتكابات ارتقت إلى مستوى الجريمة باستهدافها شعباً ودولة ووطناً. والأنكى أن الكارثة مستمرّة. لا مؤشرات، حتى الآن، وبعد ثلاثٍ عجاف، إلى وقْف الانهيار وإلى تدارك وتفادي المزيد من الكوارث والآلام.إلّا أنه، وعلى رغم ما أشرنا فقط إلى عناوينه، ثمّة ما هو أدهى وأخطر. إنه المخادعة في تمويه أسباب الأزمة ــ الكارثة، وفي التمسُّك بمصدر الخلل والعجز والفشل، وفي استمرار المداواة بنفس الداء! هذا سبب آخر وأخطر لمراجعة المقاربات في شأن الأزمة: في أسبابها وفي تفاقمها، وفي المسؤوليات عنها، وفي العجز عن علاجها، وبالتالي، في استفحال أضرارها ومخاطرها. ولعلّه من الأجدى، في نهاية هذه السنة، وهي السنة الثالثة للكارثة المتمادية، أن نتوقّف عند هذه المسألة لا أن نستغرق، فقط، في تعداد الضحايا والخسائر: ما هو قائم وما هو متوقّع، وكلاهما مخيف وقاتل ومدمّر ومجرم!
أجل، في المحطّة الراهنة، وبعد مضيّ ثلاث سنوات ونيف، ما زلنا ندور في الحلقة المفرغة القاتلة إيّاها: الإمعان في تجاهل أسباب الأزمة عبر المراوحة في النظام السياسي نفسه الذي ولَّدها. العجز، حتى عن الحدّ من الخسائر بسبب إيكال أمور وشؤون البلاد والعباد إلى الطغمة الحاكمة نفسها التي ارتكَبت ونَهبت وأجرمت، بكل ما اكتنزته من خبرة الأذى والأنانية والفئوية، وكل ما اختبرته وأتقنته من أساليب التضليل والفساد والخبث والاحتيال والخداع...! هكذا، بكل وقاحة وسلاسة وإصرار وإنكار، تواصل الطغمة الحاكمة أساليبها وألاعيبها وصراعاتها ومناورتها، وكأنّ شيئاً لم يَحدث: كأنّ ما أصاب لبنان واللبنانيين هو أمر عابر لا أب له ولا أم، أو أنه رجس من عمل شيطانٍ مجهول رجيم!
ما يبعث على التعجّب والاستفزاز أكثر، أن الطغمة الحاكمة، لم تفلت فقط من الحساب فالعقاب، كلياً أو جزئياً، بل هي عموماً، وبعضها خصوصاً، أمعن في السعي إلى تأبيد النظام الفاشل عبر المزيد من توطيد أركانه وتعميم «فضائله»... أما بعضها الذي يدّعي التمايز والمعارضة، فيروّج للانقسام في حال فشلت أهداف أسياده أو تعذّرت تسوية جديدة للتقاسم. هذا ما يجري التحضير له حالياً، بشكل صريح يتردّد في الإعلام، ويُعدّ له في الغرف المغلقة السوداء، الداخلية والخارجية. أمّا الذريعة الجاهزة، فهي تناقض الثقافات والعادات والسياسات والتوجهات والعلاقات الخارجية.
يقع الإعداد أو التخطيط أو التلويح بالتقسيم، أساساً، في نطاق مشروع تآمري تفتيتي شامل ومتواصل. تَوسّل ذلك المشروع، في لبنان، أشكالاً عديدة: عسكرية، كالغزو الصهيوني للبنان عام 2006، وقبله عدوان 1982. ثم، سياسية، عبر محاولة السيطرة على السلطة واستخدامها في إثارة نزاع داخلي. ومن الأساليب المعروفة أيضاً، القديمة ــ الجديدة، إثارة الفتن الطائفية والمذهبية. اتخذ ذلك المشروع، في العقدَين الماضيَين، خصوصاً منذ الغزو الأميركي للعراق واحتلاله عام 2003، صيغة «الشرق الأوسط الكبير» (البوشي)، من ثمّ صيغة «صفقة القرن» (الترامبيّة). وكلاهما رمى إلى الهيمنة على منطقتنا، كما استهدف دعْم مطامع وعدوانية المشروع الصهيوني، وخصوصاً ضرب المقاومة ضدّه. تلك المقاومة التي تميَّز بها الشعب اللبناني واستطاعت أن تتحوّل إلى عامل مؤثِّر في التوازنات الإقليمية، ومحفِّز على مستوى مجمل الصراع مع العدو الصهيوني المغتصب والطامع (وخصوصاً في صفوف الشعب الفلسطيني).
لهذا المشروع الاستعماري (وصنيعته الصهيوني) أتباع محليّون سبق أن اختبروا فشل (بل مرارة) المراهنة على العدو الإسرائيلي خصوصاً. وعلى رغم ذلك، يواصلون ذلك الرهان الخاطئ والخائب مجدداً... وفي خدمة المشروع المذكور، تُجند العصبيات والفئويات والفساد والمال والإعلام والانقسامات والمصالح الفئوية. يشارك الفريق المحلّي التابع، وهو جزء من منظومة الحكم، ولو معارضاً جزئياً، في التمسّك بالنظام وبمنظومة السلطة والحكم، وبالطائفية والعصبيات أداةً لسيطرة طبقة الرأسماليين الكبار. إنه اعتراض على بعض السياسات لا على السبب الأساسي للأزمة. وهو بذلك (كما بعض قوى التغيير التي استغلّت النقمة الشعبية لتتسلّق إلى موقع أو مقعد)، لا يتبنّى من مفهوم التغيير سوى استبدال الأشخاص، دون المساس بالنظام السياسي ومنظومته التحاصصيّة وشبكة علاقاته الخارجية، خصوصاً مع القوى الاستعمارية وقوتها الأساسية: النظام الأميركي.
في مجرى استعراض القوى التي تتحدّث عن «الإصلاح»، تقع تلك الفئة التي تضع على رأس أولوياتها مسألة تغيير، معادلات وتوازنات التقاسم والتحاصص في النظام الراهن، وعلى قاعدة تكريسه وتأبيده! ويمثّلها، اليوم، بامتياز «التيار الوطني الحر» الذي ينادي، بالنسبة إلى الطور الحالي من الأزمة، بتكامل صفقة التسوية ما بين موقعَي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة. وهو قد أشار، في غير مناسبة، قديمة وجديدة، إلى وجوب إحداث سلسلة تغييرات في الصلاحيات والتوازنات، وإلى إجراء تعديلات دستورية تطيع بعض إصلاحات «الطائف» التي لم يُطبّق أصلاً الأساسي المهمّ منها! كرّر التيار العوني في هذا الصدد، مطالبته، أيضاً، باعتماد «اللامركزية الإدارية والمالية»... والفدرالية: إذا تعذّر تحقيق الأساسي من مطالبه!
في المقابل، وكما «التغييريّون» الجدد، وقف التغييريّون القدماء عاجزين عن التوحُّد والتشكّل في إطار وخطّة وقيادة وأولويات. ترك ذلك الساحة خالية لقوى العبث والنهب والفئوية المحليّة، وقوى التدخّل الخارجي التي تقودها واشنطن من أجل تشويه التحرّك وزجّه في معركتها مع المقاومة وسلاحها، دون المساس بسبب الأزمة الداخلي المتمثّل في الطغمة الحاكمة ونظامها ومنظومتها التابعة والمأجورة. هكذا، في النتيجة، جرى تبديد جهود ونضالات مئات الآلاف من الذين جذبتهم الأزمة إلى الشارع، ليجدوا أنفسهم في مهبّ الضياع والعبثية... ومن ثم ضحيّة تسخير واستغلال: خدمة لهدف استعماري ــ صهيوني مباشر!
هكذا، فيما تتفاقم الأزمات، ومعها المعاناة والخسائر، وفيما بلغ بعض «الثوار» حافة اليأس (بإلقاء المسؤولية على الشعب!)، هل يصل الحريصون على لبنان وإنجازات شعبه (في حقل المقاومة خصوصاً)، وقوى التغيير الجذري، والمتضررّون الذين يشكّلون الأكثرية الساحقة من الشعب اللبناني، إلى وضع الإصبع على الجرح وتحديد سبب المشكلة، ومن ثمّ، السعي إلى علاجها عبر مشروع وطني جامع؟
ذلك هو الرهان الإنقاذي الوحيد الذي ينبغي أن تُبذل من أجله الجهود وتُجنَّد الطاقات.

* كاتب وسياسي لبناني