لعل القراءة الراجعة المتأنية الفاحصة لبعض الوثائق التي سبق أن رسمت لاقتراحاتٍ وخطط، وضعت أمام صانع السياسة الأميركي في وقت فائت كطرائق للتعامل مع سوريا، ومقارنتها بما يعتمل حالياً في المنطقة من أحداث مشتعلة متوترة وحروب، تلقي أنواراً كاشفة للتاريخ وترفع ما يعتري الواقع من طلاسم وقد تنبه - ولو بعد فوات الأوان - قوافل المنخرطين في المشروع من الذين انساقوا بفعل عوامل مختلفة في الأحداث إلى سباتهم وضلالهم وقد تجعلهم لا يتمادون في هذا الطريق.
سنقتصر في المقالة على بعض تلك الأوراق التي هي في متناول الجميع ومتاحة لهم إما عبر المكتبات العربية أو عبر بحث بسيط عبر شبكة الانترنت ولن نغوص كثيراً في تلك الوثائق «الغامضة» و»العميقة» والصعبة الوصول إلا للقلة المتطلعة صاحبة الاختصاص أو الاهتمام.
صدرت في شهر آب عام 2005 طبعة أولى من كتاب يتناول حكم الرئيس بشار الأسد ومقارنة التغير في أسلوب الحكم عما كان عليه في فترة والده حافظ الأسد وبعض التوصيات التي يقترحها الكاتب للقيادة الأميركية للتعامل مع الرئيس السوري الشاب الجديد.
مما لا شك فيه أن عنوان الكتاب موح جداً ومثير للمفاجأة والصدمة عند إسقاطه على الأحداث الراهنة التي تجتاح سوريا وتجعلها تتقلب على حرب مدمرة بالوكالة، بغية تغيير دور سوريا في المنطقة عبر الأجندة الشعبوية في إسقاط النظام الحاكم.
اختار الكاتب عنواناً لكتابه «اختبار بشار بالنار... وراثة سوريا»
Bashar's trail by fire ، Inheriting Syria
المؤلف صاحب الكتاب من مطبخ السياسات الأميركي ورأس حربة مكتب الأمن القومي وكبير باحثي معهد بروكينغز لسياسات الشرق الأوسط ومديره السابق وهو يدعى فلينت ليفيري. معهد بروكينغز الذي يديره السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل مارتن انديك المعروف لدى رجالات سوريا ولبنان وأحد المدراء السابقين لمعهد واشنطن ذو الميول اليهودية المتطرفة.
يستعرض الكتاب أن سوريا ظلت بالنسبة للسياسات الأميركية لغزاً غامضاً تكتنفه الألغاز والأسرار، فهذه الدولة الصغيرة المتعددة الاثنيات والطوائف، الفقيرة اقتصادياً، الهشة اجتماعياً، سهلة على أن تكون صيداً في متناول قوى الهيمنة الدولية، لكن سوريا لم تكن كذلك خصوصاً مع الطريقة التي حُكمت فيها من قبل الرئيس حافظ الأسد الذي وصفه الكاتب بأنه كان عبقرياً استراتيجياً (ص 87 من النسخة المترجمة 2005 طبعة الدار العربية للعلوم) وأنه استطاع وفق توازنات دقيقة في سورية وفي المحيط أن ينتشل سوريا من مرحلة الانقلابات إلى مرحلة مستقرة، وأن تمر سوريا من مرحلة الصراع عليها من قبل المحاور المختلفة لتصبح فيما بعد الشريك الأساسي في كل ملفات المنطقة. ويسجل الكاتب للرئيس الراحل أن سياسته سارت وفق توازن حذر مع سياسات الإدارات الأميركية، ولعبت دوراً مشاكساً وممانعاً للرغبات الأميركية وبلغت ذروتها في المواجهة المباشرة في لبنان قبل أن تقترب سياسته من أميركا بعد حرب تحرير الكويت 1991 وبدء محادثات مؤتمر السلام في مدريد.

سوريا ظلت بالنسبة إلى السياسات الأميركية لغزاً غامضاً تكتنفه الأسرار

الكتاب يقدم في ثلاثة فصول عرضاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً لسوريا، ويهتم بتحليل مطول لشخصية الرئيس بشار الأسد.
يذكر المؤلف دراسة استراتيجية أعدها محافظون جدد قبل تسلم الرئيس بوش الابن مقاليد حكمه في دورته الأولى مؤسسة على نقاط عدة أهمها: ضرب وتفتيت العراق، ونسف عملية اوسلو، وضرب سوريا في لبنان.
يؤكد الكاتب المطّلع والمشارك في مكتب الأمن القومي أن هذه التوصيات قد أخذت دورها في التنفيذ خلال فترتي حكم بوش والمحافظين الجدد بسبب أن مُعدّي التقرير قد تبوأوا مناصب رفيعة في حكمه.
لكن سوريا ظلت طوال فترة حكمهم دولة «ممانعة» للسياسات الأميركية في المنطقة، وظهّرت فيما بعد مطالب الولايات المتحدة من سوريا في: المحافظة على حدود آمنة مع القوات الأميركية في العراق، التخلي عن حركات المقاومة العربية الإسلامية، التعاون في ضرب القاعدة ومنظمات مقاومة الاحتلال الأميركي في العراق. [قبل أن يضاف لها المطلب القديم وهو الخروج من لبنان لضرب شرعية النظام الحاكم مع صدور القرار 1559 وما تلاه من مفجر صاعق باغتيال الحريري وبدء شلال الأحداث الموالية
المرتبطة].
لعل أهم ما في الكتاب هي تلك الاقتراحات والتوصيات التي وصل لها المؤلف وشكلت مروحة من الخيارات المقدمة للإدارات الأميركية، والتي نجد من المفيد إسقاطها على السياق الزمني للأحداث في فترة حكم الرئيس بشار الأسد مع تأكيدنا أن الكتاب صدر إبان حكم بوش في فترته الثانية 2005.
تشكلت مروحة الخيارات المطروحة أمام صناع السياسة الأميركية من:
ــ الاستمرار في ممارسة الضغوط وأنواع العقوبات الأميركية المختلفة.
ــ تغيير النظام بالقوة والإجبار... بالحديد والنار.
ــ إعادة إحياء مسار السلام السوري «الإسرائيلي».
ــ التواصل والانخراط المشروط مع نظام الرئيس الجديد.
ويفند المؤلف أن سياسة العقوبات المفروضة على سوريا لم تقدم الفائدة المرجوة كونها أحادية لم تلزم دول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، ويلاحظ أن محادثات السلام مستبعدة وقتذاك بسبب وجود شارون في الحكومة الصهيونية، بينما شجع المؤلف في خلاصته الأخيرة أن يكون الانخراط الايجابي مع الحكم السوري بصفقة تحفظ مصالح الطرفين (بما فيها استعادة الجولان السوري) وتنزع من سوريا مبررات أنها دولة شرسة مناهضة للسياسات الأميركية في المنطقة، معولاً على شخصية الرئيس الشاب المنفتح على مثل هذه الحلول الايجابية.
اللافت في الكتاب وبقراءة راجعة مدققة أنه عند مناقشة خيار التغيير القسري للنظام أنه وجد أنه من الصعب التعويل على حرب أخرى تخوضها حكومة بوش بعد حربين فاشلتين في أفغانستان والعراق رغم وجود منظرين أقوياء لمثل هذا الخيار في الإدارة الأميركية. وبالتالي لم يجد إلا طريقة واحدة وهي استخدام المعارضة السورية الخارجية في إسقاط النظام في سيناريو مشابه لاحتلال العراق، ورغم أن هذه المعارضة ضعيفة ومشتتة ومشبوهة، [تمول من الإدارة الأميركية] ولا تجد الدعم الشعبي الكافي في سوريا لدرجة أن المعارضة السورية الداخلية تخشى فقدان مصداقيتها إن هي تعاملت معها لذا يصل الكاتب إلى التقليل من أهمية هذا الخيار [وقتذاك؟!].
إن السياق التاريخي لما جرى من أحداث بعد خروج القوات السورية من لبنان وفشل الخيار القائل بأنه سيسقط النظام بسبب التداعي الداخلي وما استتبع تلك المرحلة، من دخول لسوريا مع المقاومة اللبنانية في مواجهة المصير بحرب 2006، والخروج منها بمظهر المشارك بالانتصار، دعا القوى الدولية الفاعلة بما فيها أميركا إلى الدخول عبر وكلاء إقليميين (تركيا وقطر بدرجة أساسية) لمحاولة احتواء النظام والدخول معه بصفقات لفصله عن إيران ولتخليه عن حركات المقاومة (حزب الله وحماس).
لم يترك الفشل الحاصل في سياقه التاريخي خياراً غير «اختبار الحديد والنار»
تسرع بعض المعارضين السوريين في إسقاط قراءة الكتاب على الأحداث التي جرت بعد صدور الكتاب مباشرة، وظنوا أن معمودية النار ستقع حتماً عبر احتلال أميركي بالقوة العسكرية الآتية من العراق، أو وفق تداع مباشر عبر انقلابات داخلية عند الخروج «المُذِل» من لبنان.
النظرة الفاحصة لتطبيق هذا الخيار على سوريا في الزمن الراهن ستظهر حتماً الاختلاف البنيوي والثقافي بين الفهم المتباين لــ»اختبار النار» بين التراث العربي والتراث الغربي.
في استعادة لطقس عربي بدوي معروف يدعى «البشعة»، يُعرض المتهم بأمر خطير ما، لمحاكمة خاصة من نوع مختلف، تفصل في براءة المتهم من عدمها ويقدم إلى أداة معدنية محماة بالنار لدرجة الاحمرار تسمى «بشعان»، تمرر على لسان المتهم بسرعة، فإن كان صادقاً فلن تسبب له أي أذى أو قد تخلف حروقاً بسيطة سهلة المعالجة، بينما تُصيبُ المرتكبَ بحروق شديدة، تودي بحياته وذلك بسبب حالة القلق والخوف التي تؤدي إلى نضوب إفراز اللعاب في فمه.
على أن اختبار النار وفق الطقوس اللاهوتية الغربية القديمة تتضمن المشي على النار وشوكات المحاريث الملتهبة تسع خطوات وحمل قضيب فولاذي محمى بالنار ويترك المتعرض للاختبار بين حروق خفيفة أو حروق قاتلة.
لا بد أن معمودية اختبار النار التي تتعرض لها سوريا بما فيها الرئيس السوري قد سببت لها حروقاً شديدة، تحتاج لعناية فائقة، لكنها ليست من ذلك النوع الذي سيقضي على دور سوريا في الدولة والإقليم، فسوريا التي تتجاوز هذه المعمودية المطهِّرة، ستخرج أكثر نضجاً وتجدداً وشباباً، بمشروع حضاري نهضوي، يحقق وحدة الدولة، دولة المواطنة المتساوية، متعددة الثقافات، وعينها على حضارات العالم ودولها الواعدة، ترمي في طريقها كل المشاريع الواردة الدخيلة، المذهبية منها والطائفية، وتخلف وإلى الأبد كلَّ تاريخ الاستبداد والتخلف والظلم الاجتماعي، محافظةً على دورها الرائد في الاستمرار بمواجهة سياسات الهيمنة الأميركية الغربية المتغطرسة واستطالاتها في المنطقة.
* كاتب سوري