‏أعيا الشعر، وما زال يمارس سلطانه علينا وعلى من سبقنا، ونحن نحاول تأطيره بفكرة تحدّه عن غيره - وهو رهان الخاسرين على المعنى المحدود. وأسرف البعض في فكرة أن القصيدة أرض متاحة للجميع حتى يعربد فيها. وكأن هذه العربدة منتجة لأفكار غير متناهية، إلى حد الاعتساف في ابتكار معان جديدة تودع في مصرف تلك القصيدة أو هذه. وتنبع فكرة التعصي على الحل، مرة من مفهومنا إلى الشعر، ومرة من محاولة سلب الشاعر أعز ما يملك، وهي تلك المقولة: «المعنى في قلب الشاعر». غير أن الإسراف في محاولة خلق مناخات غريبة عن التربة الخصبة التي نشأت فيها وتوشّت مضامينها بملامحها ورتوشها. ‏غير أن الذي يمنحنا معنى الأدبية ليس فقط البحث في ما أراد الشاعر، ولكن في كيف أراد؟ وهل يجوز لي أن أطلق عليه بين قوسين «سؤال الحال». ويتفرع عن سؤال الحال: كيف كانت حال الشاعر يوم أراد؟ وكيف قال الشاعر؟ وكيف بنى جملته الشعرية. وسيلتحم في هذا المستوى مفهوما البناء والتخييل، المنتجان لصيرورة المعنى من جديد. ومن الضرورة بمكان أن يواجهنا سؤال آخر: وهل يتألف بناء بلا خيال، أو يتخيّل شاعر بلا بناء، إنها علاقة جدلية، وهذه العلاقة غير الجدلية تنتج اللامتناهي من المعنى.
‏لقد انطلقنا من فكرة الحد وتعصيها، ومن فكرة المعنى، ثم سؤال الحال، وفرعنا من السؤال أسئلة، لكن قبل سؤال التفريعات، سنطلّ إطلالة سريعة - أيضاً - على أسئلة أكثر جدية تزيح حجاب المعنى عن لذة النص، وعن الدهشة التي تمليها لحظة البوح. وقد تزحمنا أيضاً فكرة السبق إلى هذا المعنى أو ذاك، ولعلنا في التراث نسمع: ما سبقه إليها أحد أو ما سبقك إليها أحد، وكأن هذه المقولة تنعش فكرة أخرى في دواخلنا، وهي هل أنها مقولة رصينة تنمّ عن تفكير خبر اللغة وألم بها؟ إنه سؤال مشروع يمليه علينا تفكيرنا اللغوي، تفكيرنا اللغوي النابع من أفكار تقوم على استحالة التماثل بين مبدع وآخر، ذلك أننا على ثقة من أن التغير في الجملة يؤدي إلى إضافة - وفكرة الأصالة تنبع من الإضافة. وربما ما تأدّب به علماء الكلاسيكيات من مقولات، تمثّل تفكيراً عالياً في فهم المعنى، ومنها «أي زيادة في المبنى زيادة في المعنى». وإذا علمنا أن عصب البوح هو اللغة، فمن الواضح نحن نرزح أمام سلطان لغوي يضارع الزمن ويسبق، ويتجاوز مقولاتنا الشعرية الزاحفة على الخطاب الرتيب وكأن الفصاحة خيال كسراب. فما كان فصيحاً في عرف اللغويين سيتم إقصاؤه - طبيعياً - ويؤول إلى مآلات أخرى. وحتى أعلام الشعر الذين تخلد جماليات شعرهم، لن يتقيد بتلك الجماليات شاعر يمزق جلباب الشعر أو ينفض الغبار عنه، فإذا الشاعر هو بمثابة الزلزال الذي يزلزل ولكنه يعيد ترميم اللغة من جديد. والبحث عن أدبية النص تكمن في اللغة التي خلقها الشاعر ولم تألف الذيوع أو الصيت من قبل.
‏الشاعر هو أيقونة جديدة للغة، وقاموس جديد سيفقد خاصة اللغة فيه يوم يكون معجماً مدوّناً على الرف، وسيفقد قوته اللغوية حتى يعيد شاعر آخر استعمالات اللغة عن نحو آخر. فالناقة في شعر طرفة أصبحت اليوم أيقونة أو رمزاً يمثّل دلالات لا حصر لها، وهكذا تحوّل كافور، أو شخصيات المتنبي من شعره، وأيضاً بلقيس نزار ومدخل الحمراء وخبز أمّ محمود درويش، لقد تحوّلت المقولات الشعبية إلى تراث شعري في شعر أمل دنقل في «يا سالم لا تصالح» أو البكاء بين يدي زرقاء اليمامة أو في شعر محمود درويش «يطير الحمام يحطّ الحمام».

* عالم لغوي بحريني