نشرت «الأخبار» مقالة للكاتب والأستاذ الجامعي خريستو المرّ، بعنوان «نحو الميلاد: غربة المسيحيّين عن مسيحهم»، إذ نؤكد على صدقية ما ورد فيها كون المشكلة لا تختص بجماعة من دون أخرى، نعقّب في المقابل، وبالشكوى نفسها، والتسلسل ذاته، بأنه إذا ما طالعنا حال المسلمين اليوم بكل مشاربهم وفئاتهم وتوجهاتهم يفاجئك مسلكهم العام المناقض تماماً لنبيهم الكريم محمد (ص).بينما تجليات الله السرمدي تتلبّس الوجود كله بجمالياتها الغنية، منها ما نراه ويخطر في الذهن ومنها ما يغيب عنا كبشر، والصلوات الخمس اليومية تدفعنا دفعاً نحو التغيير والتنبه من الغفلة القاتلة، تبقى الغيبة الكبرى - ليست غيبة الإمام الثاني عشر حصراً كما في المعتقد - وأكثر مصداقاً هي عن أنفسنا كمسلمين موحدين لم نتفهّم بعد خلفيات التوحيد، بقينا رهين لقلقة اللسان من دون أثر، وغاب عنا أن التلاعب بالعقول ومسخها وإبراز الأنانيات على المستوى السياسي والاجتماعي وحتى الثقافي يعدّ جريمة عظيمة تناهض أبسط دعوات التوحيد إلى مواجهة التشتت والتقسيم والشرذمة. هنا تجد التناقض الفاضح عندما تكون موحداً لساناً وأنت تتحدى الله بجشعك وأهوائك، وننقض صلواتنا ليس بنقض الطهارة البدنية، بل من خلال نقض الطهارة المعنوية عندما نؤكد يومياً دخولنا في القذارة المعنوية التي تهدم دواخلنا وتجعلها فارغة وخاوية من أي معنى توحيدي خالص.
غاب عن بالنا أنّ الناس سواسية وأن العدالة بين الرعيّة هي لبّ الأديان وروحها.
في بلد كلبنان يتوحّد الناس حول طوائفهم ويتعبّدون بمذهبيّتهم وعصبيّاتهم، يتشدّقون بالدين والتديّن ويخونون الله يومياً ألف مرة عندما يسرقون بعضهم البعض ويعتدون على بعضهم البعض ويصادرون حرّية بعضهم البعض. لا أيها المتشدّق والمترسّم بزيّ الدّين والإيمان، لستَ حرّاً في أن تقهر غيرك، بل إيمانك هو مدى التزامك بفعلك الحر حيث يوافق كلامُك فعلَك وظاهرُك باطنَك، لا تنجرّ وراء الشبهات ولا تخاف من السلطان تقول الحق وتلتزم به.
من كان يريد تمثيل الناس عليه أن يتطهّر من عنصريّته وعصبيّته وأن يخلص فقط لتعاليم الله السمحة الكريمة التي دعت إلى صون الكرامات وحفظ الأموال والأنفس من الهلاك.
أليس المحبّون لعلي بن أبي طالب يكتبون على صفحاتهم الخاصة ويصرّحون من على منابرهم ببعض وصاياه، ومنها: «يا بنيّ، اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحبّ أن يُحسن إليك، وارض من الناس ما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم، ولا كل ما تعلم، ولا تقل ما لا تحبّ أن يقال لك...».
لنا أن نتساءل عن هذا الميزان الضائع منذ قرون، الذي يترنّح ولا يخرج إلى الوجود وإلى أيّ مدى سيظلّ هناك زمر من الهمج الرعاع يقفون في وجه إرادة الله وتعاليم نبيه الكريم الذي ارتكبت باسمه مجازر وجرت الخيانات ولم يكترثوا لما فيها وجعلت جماعات مصالحها هي المرجع وأضحت فوق الله وفوق المقدس، لا بل ارتكبت باسم الله أفظع المحرمات وترتكب يومياً.
كثرٌ هم الخائنون والمطبلون لهذا الزعيم أو ذاك أو هذه الدولة أو تلك، ضيّعنا البوصلة وطارت الحقوق، فإذا كنا متشدّقين بتعاليم محمد السمحاء كمسلمين فحريٌّ بنا أن نناهض أنفسنا أوّلاً وننتشلها من عقدها وأمراضها الفكرية حتى نقدر على مواجهة الإيدلوجيات التي تسحق كرامة الإنسان وتمارس العنصرية والاستعمار المقنّع وخلط الأمور والمفاهيم وتزيين الباطل.
نعم إن وصايا محمد، كما وصايا المسيح، تحرّضنا على أن ننتقم من أنفسنا فنصلحها من انكفائها على كل أنانية بغيضة فنمنع الفاسدين الذين لا يقلّون خطورة وخبثاً عن الصهاينة من سرقتنا وسلب حقوقنا.
نعم نعاني زمن اغتراب قاتل عن روح الإيمان ومعانيه الجليلة ويحتوشنا التأزم النفسي المصلحي حيث نعبد الطائفة والزعيم أكثر من عبادتنا لله. ننعزل عن الإيمان الملتزم سلوكاً حياً، الذي ينتج عدالة وأخوّة وتسامحاً، وننعزل عن نصرة أنفسنا عبر نصرة المحرومين والفقراء وانتشالهم من مافيات الاستغلال والتعسف. ما أكثر المنعزلين اليوم، من المسلمين والمسيحيين، عن تعاليم محمد والمسيح في أشكالها الاجتماعية الأخلاقية التربوية. فإذا ما أمعنت النظر في فضاءات كلامهم، ولا أستثني أحداً، تعثر على كم هائل من التنظير الكلامي الذي يحشو الأذهان من دون التأسيس الأخلاقي والتهذيبي. غاب فقه المعاملات والأخلاق عن واقعنا وراج فقه العبادات الطقوسية، فماذا ننتظر؟
بقي محمد غريباً بغربة أتباعه، كذلك عيسى المسيح، بقيت نضالاتهم تستصرخ من يذود عنها فعلاً لا قولاً، تستنجد بأصحاب النخوة والضمائر الحية أن يتحركوا ويرفضوا كل هذا السبات.
نعم، طالما المنتمون إلى المحمدية والعيسوية يعبدون أهواءهم ويرفضون تقبّل مثال الله لأنهم يخافون من تحمّل مسؤوليات ذلك، بل رضوا بأن يكونوا مع القشور والشكليات كونها توافق سطحيتهم ونفوسهم الضعيفة المستكينة إلى الأرض، خافوا من التوحيد لأنه يدعوهم إلى المساواة وأن يعطف غنيهم على فقيرهم وأن يأخذ الحاكم للضعيف حقه من القوي، بينما نرى حكاماً ظلمة قساة لا يتناهون عن المنكرات التي يفعلونها ولا يشبعون من نهب الثروات، حتى اعتاد رعيّتهم على الظلم والقسوة واستحبوها وتفننوا في طرائق التوحش.
نعم، يبقى رهان الأحرار أن تكبر مساحة التحرر من أثقال الانتماءات الضيقة الحزبية والعائلية والفئوية وينطلق الجميع إلى فضاءات الوعي بلا وجل، فليس الدين مستودع أسرار وكتاباً مغلقاً على الذوات ومبهماً على القراءة، بل هو كتاب وجود مفتوح وبسيط لا تعقيد فيه، مركوز في نفوسنا الطرية يبحث عن قارئ يحسن فهم لغة الإيمان والحياة.
نعم، ألم يحن الوقت في لبنان للخروج من عتمة الكراهية والانعزال والتجمعات البشرية المنغلقة والسير بخطى ثابتة نحو تأكيد الكرامة البشريّة عبر قيام كيان اجتماعي متحرّر من العصبيات؟ ألم يحن وقت التطهّر من وحل الطائفيّة لكي تدلّ على محمد والمسيح المولوديْن في طفولةِ الحبِّ والحرّية والخير؟

* كاتب وحوزوي