من الصعب أن أتخيّل صنعاء الحبيبة من دون الدكتور عبد العزيز المقالح –رحمه الله– الذي كان أحد أبواب اليمن العريضة المفتوحة لكل عربي ولكل حر في هذا العالم، وهو الذي كان مجلس المقيل الذي يشارك فيه كل يوم ندوة ثقافية سياسية راقية يشارك فيها نخبة من أهل اليمن وضيوف اليمن، تتلى فيها القصائد التي يختارها الشاعر الكبير، وتجري مراجعة الكتب التي ينتقيها بعناية المثقف الكبير، وتعرض التطورات في الوطن العربي والعالم، لا سيّما تلك المتصلة بفلسطين وقضايا الأمّة، ولا سيّما بقضية الوحدة العربية. لم يكن عبد العزيز المقالح مجرّد شاعر متميّز أنجبه اليمن العظيم، بل كان أيضاً قصيدة رائعة من عيون شعرنا العربي، ولم يكن مجرّد صاحب موقف قومي واضح من القضايا المطروحة كافة، بل كان موقف الأمّة بأسرها يلخصه بكلمة أو إشارة أو بعبارة.
لم يكن عبد العزيز المقالح مؤسساً ورئيساً لجامعة صنعاء على مدى عقود فقط، بل كان جامعة بحدّ ذاته يلتقي عنده طلاب من كل الأعمار، وأساتذة من كل الأقطار فيتزودون على يديه العلم والكرامة والحرية وبشكل خاص طعم التواضع الذي لا يرتقي إلى مدارجه العليا إلّا كرام القوم كراحلنا الكبير.
إبّان الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، التقط الراحل الكبير فكرة طرحناها أمامه، وكنّا عائدين مع الأخوين بشارة مرهج وفيصل درنيقة، والمغفور له عدنان عيتاني، من عدن، في مسعى للتقارب بين شطري اليمن، وهي دعوة مئة مثقف عربي لندوة في صنعاء تحت عنوان «ندوة المئة مثقف من أجل الانتفاضة»، تماماً كما تحمّس كثيراً لفكرة احتضان جامعة صنعاء لندوة حول «الوحدة العربية» أقامها «مركز دراسات الوحدة العربية» في أيلول 1988، وشارك فيها أكثر من 150 شخصية من أبرز شخصيات الأمّة من ثقافية وسياسية، وخرجت منها جملة مبادرات أبرزها تأسيس «المؤتمر القومي العربي» نفسه ومخيّمات الشباب القومي العربي. وقد كان المقالح من أبرز المتحمسين لعقده في صنعاء عامي 2003 و 2008، على التوالي، سعياً منه لبناء إطار للتحاور والتشاور بين النهضويين العرب.
ولعل أكثر ما كان يعتزّ به الراحل الكبير أنه كان بين أوّل من أذاعوا بيان ثورة 26 سبتمبر الجمهورية 1962، التي بقي أميناً لروحها ومبادئها حتى الرمق الأخير. وقد أبدى لي مخاوف كبيرة على اليمن في آخر لقاء لنا به إبّان انعقاد دورة الأمانة العامة للمؤتمر في صنعاء في كانون الثاني عام 2013، وكم كان حريصاً أن يلعب أحرار الأمّة دوراً في بناء الجسور بين القوى اليمنية المتصارعة منذ ذلك الحين.
لا شك أن آلاف اليمنيين المقيمين في صنعاء سيشيّعون فقيد اليمن الغالي وحامل رسالته الحضارية، ولكن مراسم العزاء ستعمّ كل منابر الثقافة والإبداع والالتزام في أمّتنا العربية التي فقدت برحيل المقالح واحداً من أنبل رجالها وأكثرهم عطاء وإبداعاً والتزاماً بقضية أمّته.
عزاؤنا اليوم برحيل المقالح أنه رحل وقد شاهد كيف ينتفض شعب فلسطين مجدّداً بوجه الاحتلال على أرض فلسطين، وكيف ينتفض شباب الأمّة في مواجهة التطبيع على أرض قطر، فحلم الرجل أن يرى فلسطين حرّة وأمّته موحدة في وجه أعدائها.
رحم الله الدكتور عبد العزيز المقالح، وجميل الصبر والعزاء لعائلته ومريديه ومحبيه وأصدقائه في اليمن والوطن العربي والعالم.