من المعلوم أن الخبز والبطاطا والبرغل والأرز والسكر تندرج ضمن قائمة المواد الأساسية لمعيشة المواطن. أما وإن البطاطا والبرغل والزيوت والسمون وبعض المواد الأساسية الأخرى أصبح الحصول عليها فيه كثير من الصعوبة، نتيجة ارتفاع الأسعار ومضاربات التجار والسياسات الاحتكارية وتدهور معدلات الإنتاج الصناعي والزراعي، فإن القرار الحكومي الذي قضى برفع سعر الخبز بمعدل 70% ومادتي السكر والأرز بنسبة 100% قضى على آخر أشكال الدعم الحكومي للسلع والمواد الأساسية بعد أن نُزع الدعم عن حوامل الطاقة سابقاً. بهذا تكون الدولة قد تراجعت عن دورها الاجتماعي، وأُجهض على آخر أمل للمواطن السوري في حياة مستورة.
وإذا دققنا في حجم المبالغ التي ستدخل إلى خزينة الدولة نتيجة رفع الأسعار، فإن رفع سعر كيلو غرام الخبز ستة ليرات سورية سيوفّر للخزينة مبلغاً يقدّر بشكل تقريبي بـ 159,687 مليون دولار سنوياً .
أما السكر والأرز: فإنه سيوفر للخزينة أيضاً مبلغاً يقدّر بـ 56,250 مليون دولار سنوياً، أي يبلغ حجم ما سيدخل الخزينة جراء رفع المواد الثلاث: 205,937 مليون دولار سنوياً.
وإذا كان النمر في يومه العاشر أكل الحشائش تحت ضغط التجويع بدلاً من اللحم وفق ما جاء في رواية زكريا تامر، فهل سيكون مصير السوريين كمصير ذاك النمر أم أنهم سيشاركون قطعان الأغنام والأبقار غذائهم، أم أن سياسات الإفقار لن تُبقي للسوريين شيئاً يقتاتون عليه. فمثلاً، حينما كان يسيطر الفقر والعوز والجوع على تفكير السوريين، كانوا يلجأون إلى ما تجود به الطبيعة من دردار، خبيزه، هندباء... فيسدُّون بذلك شيئاً من جوعهم. أما أن تتحول تلك الحشائش إلى سلع يتحكم بأسعارها التجار، فبذلك أصبحت كغيرها من المواد «الغذائية» التي لا يستطيعون تأمينها، كونها تخضع إلى العرض والطلب.
توجهنا سابقاً بالنقد اللاذع إلى عبدالله الدردري كونه ساهم في تحرير الاقتصاد واشتغل على إعادة هيكلته بناءً على توصيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وكان من نتائج تلك السياسات ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وإفلاس آلاف من الصناعيين والزراعيين وكذلك قطاع الثروة الحيوانية، فكان مآل الاقتصاد السوري الخراب. تحديداً بعد رفع سعر حوامل الطاقة الذي كان من أحد توصيات صندوق النقد والبنك الدوليين. ويعلم الجميع مدى خطورة انعكاس هذه الخطوة على الإنتاج الصناعي والزراعي والقطاع الخدمي، وعلى مستوى المعيشة. فهل سنترحّم على أيام الدردري بعد أن تجاوزت الحكومة الحالية الخطوط الحمر كافة بعد رفعها أسعار ثلاث مواد أساسية وأهمها الخبز.


تحسين الواقع المعيشي يحتاج إلى آليات وحلول تبتعد من معدة السوريين وجيوبهم الفارغة



وإذا كان حوالى 60% من السوريين قبل ارتفاع الأسعار الأخيرة، عاجزين عن تأمين المواد الأساسية، فهل يعني هذا أن جميع السوريين لن يتمكنوا بعد الآن من تأمين المواد الأساسية. لكن قد يقول قائل، إن قتل العقل وترويض الإرادة يبدأ من تجويع الإنسان، فهل يعني هذا أن الطريق الأقرب والأسهل لإلغاء تفكير الإنسان وقتل عقله وترويضه، يبدأ من حرمانه من أبسط مقومات الحياة والاستقرار البيولوجي. ألا يتصور البعض أن خطوة كهذه يمكن أن تزيد من احتقان المواطن الذي كان ينتظر القسم الرئاسي آملاً بقرار تحسين مستوى المعيشة. ليفاجأ برفع الأسعار وليس رفع الأجور. وإن حصل لاحقاً وأصدرت الحكومة قراراً برفع الأجور، ألا يعني هذا أن مصدر تمويله سيكون من جيوب الفقراء. ولن يكون مفاجئاً إن حصل وأقدمت الحكومة على رفع أجور العاملين في الدولة، أن يتناهبها التجار قبل أن يستعيد الفقراء بعضاً مما أُخذ منهم. وهذا لا ينسينا التساؤل عن مصير غير العاملين في قطاعات الدولة. أم أن هؤلاء لا يضير الحكومة إن ماتوا جوعاً.
ونتساءل عن الهدف من رفع الأسعار. هل يندرج في سياق إكمال سياسات تحرير الاقتصاد؟ وإن كان كذلك، فإن هذا سيعني استكمال سياسات تحرير الأسعار، وهذا سينعكس على السوريين مزيداً من الفقر والحرمان. أم أنها خطوة لمعاقبة السوريين؟ أفلا يكفي السوريون ما أصابهم من الصراع الدموي الأعمى؟
أما إذا كان الهدف من رفع الأسعار تحسين عوائد الحكومة، فإن كثيراً من الآليات كان يمكن للحكومة اتباعها، وقد قام كثير من الخبراء الاقتصاديين بطرح مشاريع تنموية وسياسات اقتصادية، كان يمكن للحكومة من خلالها رفع معدلات التنمية وتحسين واقع الاقتصاد السوري وتخفيض معدلات البطالة، بالتالي تحسين مستوى المواطن السوري على كل المستويات وفي مقدمتها المستوى المعيشي. وقد ذكرنا سابقاً بعض الخطوات التي تندرج في سياق منهج استراتيجي كان يمكن أن يلحظها أصحاب القرار السياسي والاقتصادي، ونذكر منها: القطع مع السياسات الليبرالية والنيوليبرالية وسياسات مؤسستي النقد والبنك الدوليتين، تمكين الدور الرعائي للدولة بشكل يُعبّر عن مصالح الفئات الفقيرة والمتوسطة، التوقف عن خصخصة القطاع العام، مراجعة السياسات الضريبية المفروضة على الإنتاج، واعتماد الضريبة التصاعدية على الأرباح وحركة رأس المال وتحديداً المالي منه، إشراف الحكومة على إعادة توزيع عوائد التنمية بين الفئات الاجتماعية عبر سياسات ضريبية عادلة ومتوازنة تتيح للخزينة تمويل الخدمات التي تستهدف الفئات الأقل دخلاً، توجيه الاهتمام لتطوير رأس المال البشري، زيادة حجم الموازنات الاستثمارية وتوجيهها نحو المشاريع الاستراتيجية، تنمية المناطق الشرقية وتطوير الأرياف وتخديمها، تحفيز القطاع الخاص على المساهمة في عملية التنمية، استثمار الطاقات المتجددة والبديلة، محاسبة الفاسدين واسترداد الأموال المنهوبة والقروض التي استنزف من خلالها التجار والمستثمرون الوهميون خزينة الدولة، وضع المشاريع الاستثمارية ضمن سياق تنموي استراتيجي، وضع آليات سياسية ومالية لضبط وتحجيم تجار الأزمات ونهابي قوت الشعب ومخربي الاقتصاد وسارقي الثروات الوطنية. وهذا يعني أن تحسين الواقع المعيشي للسوريين يحتاج إلى آليات وحلول تبتعد من معدة السوريين وجيوبهم الفارغة. لقد بات الجميع يدرك أن الحكومة لم تعد تسيطر على أكثر من 2% من الإنتاج النفطي، وإن الإنتاج الزراعي والصناعي وموارد الاستثمار السياحي باتت شبه مدمرة، بالتالي فإن موارد الحكومة باتت محدودة جداً. لكن هذا لا يعني بالمطلق التلاعب بحياة السوريين وأحلامهم. فوعود الحكومة بتحسين المستوى المعيشي كشفت القرارات الأخيرة أن تمويلها سيكون من جيوب الفقراء، ومن قوت يومهم ولقمة أطفالهم.
لقد ساهمت سياسات التحرير الاقتصادي في إطار علاقة جدلية تربط السياسي بالاقتصادي، في تغيير التوازنات والتحالفات الاجتماعية. ذلك من جهة إهمال الفقراء والمهمشين، والاهتمام بكيفية تحقيق مصالح كبار التجار والمستثمرين والمضاربين. حتى بات هؤلاء يتحكمون بالمجتمع السوري واقتصادياته. وهذا يعني في أحد مستوياته تغيير التحالفات الطبقية والاجتماعية للحكومة وأصحاب القرار. إذ أنهم اصطفوا إلى جانب التجار والمستثمرين والمضاربين وأصحاب الرساميل في مواجهة الفقراء والمعدمين. وهذا سينعكس بشكل سلبي على الحكومة في مواجهة الخطر الإرهابي، ويفقدها الدعم الشعبي والحاضنة الشعبية، التي بدأت تتآكل مع أول قرار كان الهدف منه تحرير الاقتصاد، لأن اهتمام المواطن بالدرجة الأولى، سوف يكون موجهاً إلى تأمين كفافه اليومي، والمازوت الذي أصبح تأمينه حلماً يراود السوريين. وكذلك الماء الذي يتحول مع الأيام إلى سراب، أما الاستعاضة عن الكهرباء فإنه بات من الهموم اليومية. هذا بغضّ النظر عن تكاليف التعليم والطبابة والكساء. أخيراً نتساءل عن الآليات التي يمكن للمواطن السوري اعتمادها لمعالجة واقعه وتجاوز أزمته، هل سيمتهن السرقة والتسوّل والنهب والقتل؟ أم أنه سيتخلى عن قيمه الأخلاقية ويدخل حقل الانحلال والتخلّع وبيع الأجساد؟ أم سيتحوّل إن بقي على قيد الحياة كما تحوّل النمر في يومه العاشر؟
بهذا المعنى ألا تدلل القرارات الأخيرة على أنها تساهم في قتل إنسانية الإنسان وآدميته، هذا إن أبقى الصراع على شيء منها.
* كاتب سوري