لا ينبغي الملل من تكرار أن حجم الإجرام الذي ارتُكب، من قبل السلطة اللبنانية، ضد لبنان والأكثرية الساحقة من شعبه، كان ولا يزال يستدعي هبَّة تسونامية تُطيح المسؤولين عن الكارثة: كبارهم وصغارهم! التكرار هو، في الواقع، وسيلة حثّ لمحاولة كشف الخلل والاختلال في عدم قيام فعل تغييري جذري وسريع يتناسب مع حجم هذه الجريمة المتمادية. لم يحصل ذلك في لبنان. وهو كان حصل في بلدان عديدة كردّ فعل على ارتكابات أقل بما لا يقاس مع ما حصل في بلدنا! الانتخابات الأخيرة كشفت أن الاعتراض كان محدوداً، بل وحتى هزيلاً. ثم إنه، ويا للمفارقة، كان سطحياً في محصّلة تبلوره العامة في مجرى الانفعالات والاحتجاجات والتفاعلات والبدائل! نعم، تلك كانت هي النتيجة، رغم التدخل الخارجي الهائل والفجّ والمباشر والمتعدد الأشكال والأساليب، لتغذية الأزمة ولتعظيم آثارها السلبية والمدمِّرة ولزيادة عدد ضحاياها، حتى شملت حوالي 95% من اللبنانيين بأفدح وأقصى وأقسى الأضرار!لماذا لم يكن رد الفعل الشعبي بحجم الجريمة والارتكاب، ولو بالحد الأدنى؟ ثمة عدّة أسباب، أولها قدرات النظام السياسي والمنظومة الحاكمة على الإمساك بتلابيب المجتمع في الحقول كافة. سخَّر الطاقم الحاكم كل إمكانات الدولة في خدمة سلطته وتسلطه، ومن أجل إدامتهما: المؤسسات جميعاً، المالية والأمنية والقضائية والإعلامية والتربوية، وفي مجرى ذلك عُطّل الدستور والقوانين أو سُخّرت لمصالح الحكام. «القيد الطائفي» الذي وصفت مقدّمة الدستور إلغاءه بأنه «هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية»، ترسّخ وتكرّس وتعمّم أداةً لتضليل الناس وإثارة وتغذية العصبيات الطائفية والمذهبية. بذلك تبلورت منظومة تحاصصية سلطوية متكاملة، تدير من خلالها البورجوازية الكبرى السلطة وتهيمن على الموارد، وتنسج علاقات زبائنية عطَّلت الكفاءة والتكافؤ ومعهما الرقابة والمحاسبة، وأشاعت الفساد والنهب بوصفهما أداة حكم وتجسيداً لـ«حقوق» يكرسها «الميثاق» و«التوافقية» و«العيش المشترك» وتحميها رعاية الخارج، الأجنبي والعربي، والتبعية له.
في هذا السياق، وبدءاً من عام 1992، وضعت تلك السلطة خطة لتدمير مؤسسات المجتمع المدني السياسية والاجتماعية، أو إخضاعها للتحالف السلطوي الذي كان يدير نزاعات مريرة على الحصص والتوازنات في ما بين مكوّناته، لكنه يتحد بحزم لمنع أي تهديد لمواقعه من قبل قوى وأحزاب معارضة، خصوصاً، إذا كانت تتبنى برامج تحررية ومدنية ومستقلة، وجذرية عموماً...وهي، لهذا الغرض، استأثرت ومنعت وقمعت وزوّرت واستقوت بالخارج عدواً أم شقيقاً!
العامل الثاني الذي أسهم في ضعف رد الفعل على الجريمة، هو مسارعة واشنطن وحلفائها الإقليميين إلى الانخراط الكامل في محاولة استغلال الأزمة ومحاولة توجيه الاحتجاجات الشعبية، ليس ضد أفراد الطغمة الحاكمة، ومعظمهم أصدقاء وشركاء لواشنطن في سياساتها في لبنان والمنطقة، بل لاستهداف المقاومة ضد العدو الصهيوني. وهي طوَّرت لهذا الغرض، مبكراً، خطة متكاملة ومتواصلة تحدث عنها، بوضوح بلغ حد الوقاحة، مسؤولون كبار في الإدارات الأميركية: ديبلوماسيون وسفراء تولوا الملف اللبناني وأنفقوا من أجل إنجاح خطط إدارتهم مئات ملايين الدولارات. إحدى حلقات هذا المخطط كانت عدوان تموز 2006 الذي حرَّضت عليه وواكبته واشنطن وراهنت عليه علناً. بعد فشل ذلك العدوان، وقبله فشل العدوان على العراق، ومعهما مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، حدث تحوّل كبير في الخطط الأميركية: إثارة التناقضات الداخلية (الحرب الناعمة)، بديلاً من الغزو والحروب «الاستباقية». في هذا السياق تبلور التوجه بشأن الداخل اللبناني ووُظفت من أجل ذلك جهود ومؤسسات ومليارات وشعارات: أزمة لبنان الاقتصادية كانت المنطلق، واستغلال الانتفاضة هو الأداة.
العامل الثالث كان تعثر دور قوى التغيير التقليدية: بضعف وأزمات وتشرذم مكوّناتها، وبخلافاتها وفئوية أطرافها. هؤلاء لم يتمكنوا من الارتقاء، عبر عملهم الخاص أو المشترك، إلى مستوى خطورة الأزمة، وإلى التصدي الفعّال لمحاولة حرفها ومصادرتها من قبل تحالف خارجي-إقليمي-محلي تقوده واشنطن. إن عجز قوى التغيير القديمة والعريقة عن بناء موقع ومشروع وطنيين، كان عاملاً شديد السلبية في مجرى تعاظم الأزمة اللبنانية.
العامل الرابع هو افتقار المجموعات الشعبية التي لعبت دوراً مؤثّراً في إطلاق مبادرات الاحتجاج وفي جذب مئات الآلاف، تحت تأثير الأزمة، إلى الشارع، إلى دينامية تطور ونمو تتبلور في مجرى الصراع وترتقي إلى مستوى قيادة جديرة، تضع خطة وأولويات. طغى الهدف الأميركي (الإسرائيلي ضمناً)، أي استهداف سلاح المقاومة، على المشهد العام، وترك تأثيراً بالغ الضرر على مجمل مسار الانتفاضة. استدرج ذلك أيضاً قيادة المقاومة إلى ردود فعل سلبية ضد التحرك عموماً، وإلى محاولة إظهار نفسها قوة حماية، ليس للمنظومة عموماً وليس فقط لحلفائها هي.
نتيجة كل ما تقدّم، كان حصاد ملايين اللبنانيين المتضررين هزيلاً في الانتخابات النيابية التي حصلت في أيار الماضي. الهزال لا يقتصر على عدد الناجحين في الانتخابات، بل بالدرجة الأولى، على هزال الشعارات والبرامج التي رفعوا لواءها. لقد جرى، مثلاً، الحديث عن الطائفية ليس بوصفها قيداً مفروضاً تضعه البورجوازية الكبرى في أعناق اللبنانيين للسيطرة، بإثارة العصبيات والغرائز، على ميولهم وتوجهاتهم واختياراتهم السياسية، بل من باب أخلاقي على طريقة: «كلنا إخوة» يا شباب! لم يحضر، مثلاً، في برامجهم، قبل الانتخابات ولا بعدها، بند تطبيق المواد الدستورية 22، 24، 95 التي تضع آلية متكاملة لإلغاء الطائفية السياسية ضمن «خطة مرحلية». إلى ذلك، فإن معظم «التغييريين» يتعاونون أو يتقاطعون أو «يطنشون» بشأن ممارسات تدخل خارجي فظّ في الشأن الداخلي اللبناني، خصوصاً الأميركي المتمادي والسعودي الذي يسير على خطاه. أمّا بعضهم الثالث، فقد انخرط في عملية الفرز التقليدية الطائفية والمذهبية والسياسية، بعيداً عن أي خيار معارض موجَّه ضد الخلل القائم في النظام السياسي خدمة لمصالح البورجوازية الكبرى ومرجعياتها الغربية التي تقودها واشنطن.
هل هذا الاستنتاج، والسياق العام الذي ينتظمه هما دعوة إلى اليأس؟ بالتأكيد لا. إن عجز الصيغ القديمة عن تلبية متطلبات ومهمات الحاضر، لا ينبغي أن يعني سوى أمر واحد: السعي لتطوير تلك الصيغ، أو اشتقاق صيغ جديدة تستطيع أن تؤطر النضال وتعبّئ الطاقات وتجبه المخاطر الهائلة الحالية والمتوقعة. ذلك ألفباء العمل الوطني راهناً. وهو العمل الذي يجمع ما بين طرفي الصراع التحرريين في مشروع واحد: التحرر من ربقة المشاريع الأميركية الصهيونية، من جهة، ومن تخلف وفساد ونهب القوى التابعة لتلك المشاريع، من جهة ثانية. هذان هما ركنا المشروع الإنقاذي الوطني، ومن هنا نبدأ.

* كاتب وسياسي لبناني