اعتبار أنّ أي حوارات مسيحية ــ إسلامية سينتج عنها إقامة دولة وطنية/ قومية هو وهمٌ، لا حقيقة موضوعية، لأن ركائز ومنطلقات الدولة الوطنية/ القومية لا علاقة لها البتة بأسس وأهداف الدين. فكل الحوارات الطائفية والمذهبية التي جرت في الكيان اللبناني لم تؤد إلا إلى تقاسم السلطة وترسيخ النظام الطائفي. خصائص «الاتحاد الشخصي»
و«الاتحاد الوطني»


السؤال المطروح يتمحور حول خصائص هذين المفهومين المختلفَي الماهية والهدف:
أساس الدين إنقاذ الإنسان-الفرد بمعزل عن هويته الوطنية أو القومية أو الإثنية، فالدين رسالة عالمية، بينما الهوية الوطنية/ القومية تختص بوطن ومجتمع محدّدين.
الاختلاف الثاني الأساسي، هو أن انتماء الفرد إلى دين معين، انتماء شخصي، وهويته شخصية/ فردية لا تلزم أي أحد آخر، بينما الانتماء إلى الهوية الوطنية/ القومية انتماء شعب ومجتمع ومجموعة من الناس تجد أن حياتها مترابطة بعضها مع البعض الآخر ضمن بوتقة جغرافية. فهويتها مستمدة من الأرض التي تحيا فوقها، ومن تراث وتاريخ شعبها، والحياة التي تتشاركها. أي أن الانتماء نابع من إقامتها على أرض معينة، والتعلق بها، واعتبارها جزءاً لا يتجزأ منها، ووعيها الجماعي يحتّم عليها الدفاع عنها بمعزل عن أديان شعبها وإثنياتهم، لأن مصيرهم واحد مهما تعدّدت الأطياف والآراء.
يسمّى الانتماء الديني انتماء شخصياً، والانتماء الوطني/ القومي انتماء لمتّحد هو عبارة عن شعب على أرض. فالشخص الوطني/ القومي لا يشعر بتميّزه عن الآخرين إلا عبر انتمائه إلى مجتمعه وأرضه، ويشعر بالضياع والغربة حين يهاجر إلى مجتمع آخر. هذا التحوّل من إحساس الفرد بنفسه إلى إحساسه بأنه جزء لا ينفصم عن مجتمعه وأرضه تبلور عبر العصور، وظهر بشكل واضح في أوروبا، فأنهى حقبة القرون الوسطى التي اعتمدت هويتها على الاتحاد الشخصي الديني (علاقة الفرد عبر الإيمان)، أو الإثني (علاقته عبر الدم)، وأصبحت الأرض هي المرجعية التي تحدّد هوية الشخص، واختلاف مجتمعه عن المجتمعات الأخرى، متخطية الدين والإثنية؛ هذا هو مفهوم الدولة الوطنية/ القومية المعاصرة.
هذه نقلة ثورية في المفاهيم، وفي رؤية الإنسان لنفسه وقيمه. هذا التطور البالغ الأهمية أصبح منجزاً على الصعيد العالمي، ولا رجعة عنه. فما من شخص يستطيع أن ينتقل من دولة إلى دولة أخرى إلا عبر جواز سفر يحدد مكان إقامته، والمجتمع الذي يحيا ضمنه، وغير ذلك يعتبر عبوراً غير شرعي يعاقب الشخص عليه بالسجن أو الترحيل. إذاً، تعريف الشخص أصبح ملتصقاً بهويته الجغرافية، لا دينه أو إثنيته، فالدين والإثنية أصبحا في المرتبة الثانية، ولا شرعية حقوقية أو عالمية لهما، أي إن المجتمعات في العالم تتعامل مع بعضها البعض عبر قوانين تحدّد وجودها الجغرافي لا غير.
أي ارتداد وعودة إلى الانتماء الشخصي، الديني أو الإثني، كما يحصل في الدول العربية، يؤدي إلى انهيار الدولة المبنية على أسس الحدود الجغرافية، وتفتتها إلى هويات شخصية، تتناحر وتتحارب، وتدمر نفسها وأوطانها. هذا لا يعني إلغاء الانتماء الشخصي أو الإثني، لكنه يعني حتماً وضعه في المرتبة الثانية. لا مجال للتطور والتقدم، وحتى البقاء، إلا عبر التقاء المجموعات التي يتكون منها الشعب على أولوية الهوية الوطنية الجامعة!
هذا يعني أن مقولات كـ«المسيحية المشرقية» و«العروبة الإسلامية» تعيدنا إلى تنظيمات ما قبل بروز وانتصار مفهوم الانتماء للمتحد الجغرافي الوطني/ القومي الذي هو واقعنا اليوم.

قضية الأقليات وإلغاء الآخر
لقد أثار المستشرقون الغربيون قضية «الأقليات» لأن بناء مجتمعاتهم وقومياتهم قام على رفض وإلغاء الآخر، ثم أسقطوا هذا المفهوم علينا بالرغم من أن تاريخنا وحضارتنا في المشرق العربي لا وجود فيها لمفهوم «أقليات» لا في تاريخنا القديم أو الوسيط، بل أديان ومذاهب وممالك تتصارع وتتآخى في صراعها للهيمنة.
كلمة «أقليات» تعبّر عن تجربة أوروبية مختلفة حضارياً عنّا تمام الاختلاف لأنها حضارة «إلغائية»، وبالتالي هي مهيأة فكرياً لإلغاء ما هو مختلف عنها، إمّا دينياً أو إثنياً، وهذا ما لم يحصل في تاريخنا. ففي أقسى حالات التطرف كما حصل زمن هيمنة الإمبراطورية الأشورية، تمثّلت الهيمنة في ترحيل المجموعات السكانية المهزومة من منطقتها إلى منطقة أخرى، وليس إبادتها. لا وجود عندنا لحضارة تقوم على إبادة شعوب، لا في العالم العربي، ولا في كيانات «سوراقيا»، ولا في الحضارة الفارسية.
تجربة حضارة الهلال الخصيب اندماجية، ومنذ القدم تقبلُ الاختلاف الإثني والديني كما يدل تراثها الأدبي والاجتماعي. والتراث الإسلامي في تاريخنا الوسيط على شاكلتها تماماً: غير إلغائي ومتسامح مع الآخر. أمّا الحركات الإلغائية المستحدثة كـ«داعش» و«النصرة»، فهي دخيلة ومن خارج هذه المنطقة، لذلك لفظتها غالبية سكانها المنفتحة، والمستعدة لقبول الآخر واستيعابه طالما هو لا يسعى إلى إلغائها، والدليل الساطع هو هذه الحضارة المزركشة بألف لون ولون في مشرقنا.
حضارتنا التي قامت على التسامح لا الإلغاء هي نقطة قوتنا، لكنها أيضاً نقطة ضعفنا إذا لم نحرص على دعمها بقوة مادية مجندة تحميها، لأنه من السهل للمستعمر أن يستغل هذه اللوحة الفسيفسائية فيفتتها بإدخال مفهوم «الأقليات»، وهو حصان طروادة الغربي.
يظن البعض أن المسيحية هي ذاتها في الممارسة، شرقاً أو غرباً، وهذه الرؤيا تنطبق أيضاً على العديد من المسلمين في ما يختص بإسلامهم، ولا ينتبهون إلى أن الأديان تتلوّن بألوان مجتمعاتها. فالدين المسيحي في الغرب، مختلف عن مسار المسيحية في مشرقنا. مسيحيتنا منفتحة على الآخر، بينما مسيحيتهم هي على شكل حضارتهم: إبادية. فالإكليروس المسيحي الغربي مثلاً أصدر فتاوى بإبادة من ليس عرقه أبيض إبان اكتشاف كريستوفر كولومبس للقارة الجديدة، واعتبار «الأعراق» الأخرى غير بشرية، وبلا روح، ومسموح إفناؤها بشتى الطرق. هذا دليل على أن فهم الرسالات الدينية يختلف بين مجتمع وآخر.
كلمة «أقليات» تعبّر عن تجربة أوروبية مختلفة حضارياً عنّا تمام الاختلاف لأنها حضارة «إلغائية»، وبالتالي هي مهيأة فكرياً لإلغاء ما هو مختلف عنها، إمّا دينياً أو إثنياً


حضارة الغرب الأوروبي قامت على إبادة ما هو مغاير لها كما حدث في الأندلس، أو في القارة الأميركية، وإسرائيل تلميذة هذا النمط الأوروبي الإبادي، وإدخال مفردة «الأقليات» في تاريخنا الحديث هو نتاج هيمنة الثقافة الأوروبية التي تعمّدت نشر هذا المفهوم لخلق بيئة مؤاتية للفتن والحروب الأهلية، واستغلالها للسيطرة علينا.
كما بيّنا، لا وجود لإبادة شعب أو دين في حضارتنا «السوراقية»، لكن الغرب عمد، عبر سايكس-بيكو، إلى بناء كيانات سياسية قائمة على إلغاء الآخر لتحفيز عداوات داخلية يستفيد منها لنهب الموارد الطبيعية والسيطرة على مواقع استراتيجية هو بحاجة إليها لمد نفوذه.
تم اختراع الكيان اللبناني من قبل الفرنسيين على أساس ديني/ طائفي بحت لوضعه في مواجهة عالم عربي غالبية سكانه يدينون بالإسلام، أي تطبيق نظرية «الأقليات» الدينية، وتدريبها على رفض الآخر المختلف عنها، وهذا معاكس لتجربتنا الحضارية التي تنتهج المسار الاندماجي القابل للآخر والمتسامح معه. ومن المهم ملاحظة أن هذا المفهوم لم ينتشر في كيانات «سوراقيا» خارج لبنان. فمسيحيو سوريا والعراق وفلسطين والأردن مندمجون اندماجاً كاملاً في مجتمعاتهم ولا يتعاطون مع الغرب أو فرنسا وكأنها أمهم الحنون، ومن الغبن اتهامهم بأنهم منقسمون بين مسيحية مشرقية ومسيحية موالية للغرب. خروج المسيحيين من هذه المناطق كان لأسباب اقتصادية وكنتيجة للحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية على المنطقة، تماماً كما دمرت حروب «الفرنجة» في القرون الوسطى بيزنطة المسيحية.
هجرة المسيحيين من المشرق العربي سهلة لهم لأنهم أتقنوا اللغات الأجنبية قبل غيرهم من جراء انتشار الإرساليات الغربية التبشيرية، والإشارة أنهم يغادرون خوفاً من المسلمين غير صحيحة، والبرهان أن الآلاف من المسيحيين «المشرقيين» يعملون في دول الخليج الذي يدين سكانه بالإسلام.
هدفَ الغرب إلى ترسيخ مفهوم «الأقليات» في منطقتنا لإبقائنا ضمن بوتقة الاتحاد الشخصي، ومنعنا من التطور باتجاه الدولة الوطنية/ القومية لأن هذه الأخيرة هي الوحيدة التي تستطيع مواجهة المستعمر والتغلب عليه والحفاظ على استقلالها، بينما تدمّر الاتحادات الشخصية كالطوائف والإثنيات، المجتمع وتمنع تماسكه وتآلف مكوناته.
لم يكتف الغرب بإسقاط مفهوم «الأقليات» غير الموجود في حضارة المشرق العربي -ما قسّم المنطقة إلى اتحاد شخصي إسلامي من جهة، ومسيحي من جهة أخرى- بل عمد إلى تدعيمه بنظرية «التعددية» للدلالة على الاختلاف الإثني أو الديني.
هذا هو الفخ الذي نُصب للمثقفين المنتمين إلى المشرق العربي، إذ إن مفهوم «التعددية» في الغرب لا يشتمل على تعددية الأديان، بل هو مختص حصراً بتعددية مجتمعية ضمن الدولة الواحدة كبلجيكا مثلاً التي تحتوي على إثنيّتين مختلفتين تتكلمان لغتين مغايرتين، أو سويسرا، الدولة-الأمة المحتوية على ثلاث إثنيات. وفي الولايات المتحدة الأميركية نتحدث عن تعددية أقوام كالسود القادمين من أفريقيا، أو اللاتين المتدفقين من جنوب القارة، لكنهم قطعاً لا يفرقون بين المواطنين على أساس ديني!
بناء عليه، إن أردت تطبيق معايير «التعددية» التي يريد الغرب إسقاطها على المشرق العربي، فذلك يعني التمايز الإثني لا الديني. هنا، الاختلاف الإثني الوحيد الموجود والرافض للاندماج هم الكرد. عدا ذلك، لا تمايز بين المسيحيين والمسلمين، فثقافتهم واحدة وكذلك لغتهم، وجذورهم الإثنية مختلطة. لذلك اعتبار الدين إثنية، وتشويه مفهوم «التعددية» المرتبط حصراً بالعرق، هو مشروع صهيوني لإعطاء شرعية لتقسيم الجغرافيا المشرقية على أسس دينية لا وطنية جامعة. لذلك القول بأن العروبة هي الإسلام، أو أن المشرقية هي المسيحية، يلتقيان مع المشروع الصهيوني الآيل إلى تقسيم المنطقة دويلات دينية/ طائفية.
الحوار المسيحي-الإسلامي لا يؤدي إلى المواطنة، لأن الدين يرتكز على الاتحاد الشخصي بمعزل عن الجغرافيا، بينما المواطنة لا توجد إلا ضمن بوتقة أرض محددة المعالم والتعريف. لذلك إدخال الدين كعنصر يقرر الهوية الوطنية لا يقود إلا إلى بناء دولة طائفية كالتي يرزح تحتها لبنان، وأخيراً العراق الذي تعمّد الأميركي بعد احتلاله له تقسيمه بناء على هويات شخصية دينية وإثنية تدمّر المتحد الجغرافي الموحّد والجامع.
الأمة العربية، كي تكون موجودة فعلاً من الخليج إلى المحيط، عليها أن تبني على الجغرافيا الجامعة لكل الإثنيات والديانات المتواجدة على أرضها، وأن تساوي بين المواطنين بمعزل عن دينهم أو إثنيتهم، فيصبح هذان المدلولان شأناً خاصاً لأفراد أو مجموعات لها كل الحق في انتماءاتها الشخصية، لكن لا يحق لها البتة إلغاء الآخر. والأمر نفسه ينطبق على الكيان اللبناني. ولكي يحصل ذلك علينا التخلي عن إلباس هويتنا بلبوس ديني أو إثني، واستبدال ذلك بتشاركنا على أرض عشنا فيها منذ القدم، وهي سبب وجودنا، ومصيرنا فيها واحد لا فرق بين عرق وآخر أو دين وملة وطائفة، فالمستعمر يحتل الجغرافيا، ولا يحتل ديناً أو إثنية!
نحن بحاجة إلى العودة إلى جذورنا في هذه البقعة من الأرض التي رفضت عبر تاريخها مفاهيم «الأقليات» و«التعددية»، والبناء على مفهوم الدولة-الأمة التي لا تعزل الإثنيات ولا الأديان، بل تشمل الجميع ضمن بوتقة جغرافية تريد المحافظة على حضارتها المتميزة والمزدانة بألوان قوس قزح.

* أستاذة جامعية