سردية الصراع السني ــ الشيعي رغم رواجها إلا إنها تعاني من ثقوب عدة، أبرزها أنها تصف مظهر الصراع وليس عمقه ومضمونه، وتتجاهل الصراع الدولي داخل المنطقة ومستلزماته وأدواته، ثم إنها سردية انتقائية بهدف ستر وجوه أخرى لصراعات المنطقة وأزماتها. يعود رواج هذه السردية الى حجم الجهاز الدعائي المكلف بالتسويق لها، وهو حجم يتناسب مع المردود السياسي المتوقع منها.
من الضروري في هذه المرحلة بالتحديد الكشف والتذكير أن صراعات المنطقة هي صراعات سياسية في المقام الأول، حول رؤية كل طرف للعالم ولدوره الاستراتيجي فيه، ولكن بالطبع هذه الصراعات لا تتحرك في فراغ بل تتغذى وتأخذ معناها من الإرث التاريخي والثقافة والرؤى الدينية وغيرها.
يحاول حلفاء واشنطن، السعودية وقطر بالتحديد، التعويض عن الانكفاء الأميركي باستحضار أدوات ولاعبين جدد الى المنافسة الإقليمية، هنا تبرز أهمية تحفيز التعبئة المذهبية. في عصر الانفعال والقلق الهوياتي لا سيما في منطقة لا يزال التاريخ فيها نضراً، يسهل التلاعب بالمشاعر المذهبية بقليل من البروبغاندا والدعاية السوداء. لكن هل تتجسد فعلاً أزمة المنطقة بالصراع السني ــ الشيعي كما تروج آلة الدعاية تلك؟ إذاً ماذا عن الصراعات والتوترات بين كل من قطر ــ السعودية، تركيا ــ السعودية، السعودية ــ الإخوان، الإخوان ــ السلفيين، الإخوان ــ النظام المصري، السعودية ــ القاعدة، جبهة النصرة ــ داعش؟
تخوض «الشرعيات» السنية الكبرى، الوهابية ـ الإخوانية ــ القاعدة (الظواهري\ البغدادي)، حالة صدام غير مسبوق في السنوات الأخيرة. بل إن الصراع انتقل أخيراً الى البنية الداخلية لهذه الشرعيات لا سيما الوهابية والقاعدة، الأولى منقسمة بين السعودية وقطر، والثانية بين الظواهري وداعش. هذه الانقسامات تعكس حالة من الترهل والنزف، كان الشعور القطري بفائض القوة عاملاً أساسياً في جرأتها على تحدي السعودية ومنافستها على شرعية الوهابية، فيما كان رحيل بن لادن واختراق القاعدة سبباً في ظهور داعش.

التعبئة المذهبية
بوجه إيران هي أداة وهابية في سبيل احتواء الشرعيات السنية المناوئة

تبرز الوهابية في مركز الثقل داخل هذا الصراع، هي شرعية «الأمر الواقع» المكرسة بفعل الريوع النفطية، الاستبداد وغطاء الناهب الدولي. لذا كل «شرعية» سنية صاعدة لا بد أن تصطدم أولاً مع الوهابية، فكان التوتر الوهابي ــ الإخواني، والصدام الوهابي ــ القاعدي، بعد ضمور الصراع الوهابي ــ الناصري. وفي سياق هذا الصراع، نجحت الوهابية في اختراق كل من الإخوانية والقاعدة. مع الإخوان تمظهر الاختراق الوهابي ببروز تيار سلفي متشدد وأحياناً تكفيري داخل الجماعة، إلا أن صعود الإخوان ظل أحد الهواجس الكبرى عند الوهابية كونها الشرعية الأكثر قدرة على التمدد والتوسع السياسي. حاول الإخوان التذاكي على السعودية والسير خلفها، لحين اكتمال التمكين، بوجه إيران وحلفائها. إلا أن القلق الوهابي من الإخوان فاق حتى هاجسهم الاستراتيجي تجاه إيران.
أما مع القاعدة فالاختراق كان أكثر وضوحاً بسبب وحدة المنشأ والتماهي الثقافي ــ الفقهي، فوصل الاختراق الى حد التوظيف الاستراتيجي. لا تتحكم الوهابية بالأجندة السياسية للقاعدة وداعش ولكنها تأثر عليها، بالاستخبارات والتمويل والدعاة، فتمكنت من توظيفها في أفغانستان والعراق وسوريا ولبنان. كانت القاعدة، فرع بن لادن ــ الظواهري، الأكثر جرأة على تحدي السعودية، أما القاعدة، فرع الزرقاوي ــ البغدادي، فتقاطعت مع الوهابية في أولوية قتال المارقين والمرتدين بالتحديد الشيعة، وهذا يبرز عمق الاختراق الوهابي لداعش ولكن ليس لدرجة السيطرة عليها. حال السعودية مع داعش كمن يطعم ذئباً برياً في حديقته لإخافة جيرانه والسطو عليهم.
يعاني المجال العربي السني من ثلاثة انغلاقات كبرى، سياسية ــ دينية ــ استراتيجية، وتقف الوهابية عند عنق هذه الانغلاقات الثلاثة. تسعى الوهابية لتعميم نموذجها الاستبدادي فتدعم أغلب أنظمة الاستبداد العربية وتستعين بها عند الحاجة بوجه الإخوان والقاعدة من ناحية وبوجه إيران وحلفائها من ناحية ثانية. وتسعى الوهابية إلى تمتين هيمنة مدرستها الدينية الرجعية، الإقصائية والمعادية للإنسان، المرتكزة إلى الإلغاء والتوسع وإخضاع الديني للسياسي. واستراتيجياً تستمر الوهابية في السعي إلى محاصرة كل محاولات التحرر والاستقلال الوطني في المنطقة وبناء منظومة للتكامل الإقليمي. الوهابية ترى في العمالة للغربي ضرورة لوجودها وفي الهيمنة الخارجية ضمانة لنفوذها، هي التي انتقلت من يد البريطاني الى الأميركي واليوم تسعى نحو شراكة معلنة مع الإسرائيلي. بالخلاصة، الوهابية تخنق المجال السياسي العربي، تهيمن وتبتلع الاعتدال السني وكل أفق للإصلاح الديني، وتحبط التحرر الوطني وتكرس التبعية للأجنبي.
دور الوهابية في هذه الانغلاقات الثلاثة يفسر صعود القاعدة وأخواتها، وصدام الوهابية مع الإخوان والناصرية، وكذلك الى حد بعيد مع الشرعية الشيعية المتمثلة بإيران. الموارد الهائلة للوهابية تمنحها قدرة على اختراق وتوظيف تيارات داخل الشرعيات السنية، وتزداد هذه القدرة بقدر ما تنجح في تزخيم التوتر المذهبي. الصراع والتنافس بين الوهابية وكل من الإخوان والقاعدة هو بالأساس صراع سلطوي وتنافس على قيادة المجال السني لا سيما أن كلاً من القاعدة (الظواهري ــ داعش) والإخوان يتبنى فكرة إقامة الخلافة الإسلامية. ساهم دور الوهابية من خلال الانغلاقات أعلاه في تراجع الأفكار والمجموعات الإصلاحية والتقدمية، وأصبح بديلا الوهابية يختلفان عنها فقط من حيث الدرجة وليس النوع، وهنا المعضلة الكبرى.
تحاول الوهابية خلق ديناميكية تجعل من صدامها مع الشرعيات السنية يعزز من فرصها في الصراع مع إيران، والعكس صحيح. فعلياً، كثيراً ما تحاول الوهابية توظيف الصراع المذهبي مع إيران من باب استثماره في صراع الشرعيات السنية. أي أن التعبئة المذهبية بوجه إيران هي، في جانب منها، أداة وهابية في سبيل احتواء الشرعيات السنية المناوئة. الوهابية المتحالفة مع واشنطن وتل أبيب بحاجة الى صراع يمكن توظيفه للعب دور الريادة والقيادة داخل المجال العربي السني ولتهدئة صعود الشرعيات البديلة، فيما الوجه الثاني لصراع الوهابية مع إيران هو جزء من دورها الوظيفي كأداة للناهب الدولي.
لا يعني ما تقدم غياب كتلة وازنة سنية معتدلة وتحررية ولكنها تعاني من الضمور والتآكل منذ فشل المشروع القومي. هي كتلة مشتتة، فاقدة لمستلزمات التعبئة والحشد والتأثير الجماهيري. وأيضاً لا يعني ما تقدم أن السنة وحدهم يتحملون مسؤولية الواقع العربي الحالي، بل أولاً الوهابية التي تعمل على مصادرة هذا الواقع، إلا أن السنة بوصفهم الأكثرية فإن مستقبل العرب والمسلمين مرتبط بشكل رئيسي بالخيارات التي سيتخذونها. في 25 أيار 2000، وبمداخلة لمتصل سعودي على قناة الجزيرة، ضمن التغطية المباشرة للانسحاب الإسرائيلي، قال التالي: «صحيح أن حسن نصر الله شيعي رافضي ولكنه اليوم هو قائد الأمة الإسلامية»، مذ حينها أدركت الوهابية أنها دخلت عصر الأفول، إدراك تعزز خلال السنوات التي تلت في ظل صعود القاعدة والإخوان المسلمين، وثم ضمور دور الراعي الدولي. الوهابية في حالة هيستيريا تجاه «الآخر» مهما كان عنوانه، كل «آخر» هو تهديد الى أن يجرى توظيفه أو احتواؤه أو القضاء عليه. الوهابية مجرد «إسرائيل» أخرى، الفارق أن إسرئيل «سرطان جلدي» فيما الوهابية «سرطان رئوي».
* باحث سياسي