تفتتح مصر المراحل السياسية العربية وتنهيها أو تختتمها: 1) المرحلة الليبرالية مع حزب الوفد عام 1919. 2) النزعة العروبية وأنظمة «الديمقراطية الثورية» مع عبد الناصر عام 1952. 3) الصعود الاجتماعي ـ الثقافي ـ التنظيمي للاسلام السياسي منذ عام 1974. 4) ثنائية العسكر ــ الاسلاميون التي انبنت برعاية أميركية بين المشير حسين طنطاوي ومرشد «الإخوان» محمد بديع عقب سقوط حسني مبارك في 11 فبراير/ شباط 2011. 5) سلطة الاسلاميين برعاية أميركية عقب ابعاد الرئيس محمد مرسي للمشير طنطاوي والفريق سامي عنان في 11 أغسطس/ آب 2012. 6) الانقلاب العسكري على مرسي في 3 يوليو/ تموز 2013.
في أوائل حزيران 2014، وعقب اعلان نتائج الانتخابات الرئاسية المصرية فوز قائد انقلاب 3 يوليو الفريق عبدالفتاح السيسي بمنصب الرئيس المصري، قامت الإدارة الأميركية بإنهاء تردد استغرق أحد عشر شهراً نحو الاعتراف بالسلطة المصرية الجديدة التي أنهت حكم الاسلاميين، فيما كان حلفاء واشنطن الاقليميين في الرياض وأبو ظبي وعمان من أكبر الداعمين للفريق السيسي منذ اليوم الأول للانقلاب. تزامن هذا الاتجاه الأميركي مع شيء مماثل اتخذه «الاتحاد الأوروبي» و«الاتحاد الافريقي» تجاه السيسي، ومع تنازلات إثيوبية للقاهرة في موضوع «سد النهضة» لم تقدمه أديس أبابا للإدارات المصرية المتعاقبة خلال العشر سنوات الماضية في موضوع حصة مصر من مياه النيل.
كانت ملفتةً زيارة السيسي بعد قليل من تسلمه منصبه للجزائر حيث يوجد رئيس تحكم المؤسسة العسكرية من خلف ستارته المدنية، فيما السيسي جنرال خلع البدلة العسكرية بعد انقلاب عسكري ثمّ نظم انتخابات انبنت على توازنات ما بعد الانقلاب أتاحت له وللمؤسسة العسكرية المصرية أن يحكموا من جديد أرض الكنانة، ولو كان الرئيس المصري الجديد يرتدي رداء مدنياً هو واجهة مظهرية لبدلته العسكرية. هنا، تشترك القاهرة والجزائر ليس فقط في بنية السلطة وإنما أيضاً في أن السلطة بالبلدين أعيد انتاجها من جديد من بعد انتصار دموي على الاسلاميين، كما أن كلا البلدين من ركائز واشنطن الأساسية في منطقة الشرق الأوسط، وفي منطقة الصحراء بالنسبة للجزائر. ساهمت الجزائر في تحجيم سلطة راشد الغنوشي في تونس بين عامي 2011 - 2013، وهي تساهم مع القاهرة والرياض في دعم حركة اللواء خليفة حفتر في ليبيا، المدعومة من بقايا جيش القذافي، ضد الاسلاميين. في صنعاء تدعم واشنطن والرياض وأبو ظبي سلطة الرئيس منصور هادي، المدعوم من الجيش ومن بقايا نظام علي عبد الله صالح، ضد الاسلاميين المشاركين بالسلطة وفقاً لاتفاق نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 الانتقالي الذي أجري تحت مظلة «المبادرة الخليجية»، التي جرى تبنيها من مجلس الأمن الدولي. وتدعم هذه الأطراف الثلاثة الرئيس اليمني ضد الحوثيين و«الحراك الجنوبي»، وكلاهما مدعوم من طهران. في دمشق ما بعد 18 آذار 2011 أثبتت المؤسسة العسكرية التي وقفت خلف الرئيس السوري، بوصفه القائد العام للجيش والقوات المسلحة، في الأزمة أنها المؤسسة الأكثر تماسكاً وقوة ونجاحاً في النظام بالقياس إلى المؤسسة الأمنية أو حزب البعث. وهذا يختلف كلوحة عن أحداث حزيران 1979 ــ شباط 1982السورية عندما كان دور حزب البعث قوياً في مواجهة تحرك جماعة «الإخوان المسلمين»، وكان دور الأجهزة الأمنية محورياً.
تعطي صورة القاهرة ـ تونس ـ طرابلس الغرب ــ صنعاء ــ دمشق 2014 أنّ «الربيع العربي» قد فشل وأن رياح التغيير الداخلية، التي دعمت من واشنطن واقليمياً من اسطنبول، لم تستطع النجاح في العالم العربي، كما نجحت الموجات الديمقراطية في الجنوب الأوروبي (البرتغال ـ اليونان ـ اسبانيا) في عامي 1974 ــ 1975، وفي أميركا اللاتينية بدءاً من أرجنتين 1983 وصولاً إلى تشيلي 1989، وفي فيليبين 1986 وكوريا الجنوبية 1987، وفي أوروبا الشرقية والوسطى بما فيها الدول الجديدة المنبثقة عن تفكك دولة الاتحاد السوفياتي بين عامي 1989 و1991.
لم يستطع الاسلاميون العرب، الذين أثبتوا في الدول الخمس الجمهورية التي جرت فيها حراكات «الربيع العربي» أنهم الأقوى بين معارضي الأنظمة من حيث قوة القاعدة الاجتماعية، أن ينجحوا في تجربة السلطة في مصر وتونس بعد الامساك بدفتها، ولم يكونوا عنصر مشاركة مريح في ليبيا واليمن، وفي سوريا كانوا عنصراً مفجراً لتناقضات المعارضة التي صمدت السلطة السورية أمامها ولم تتزعزع أو تسقط مثلما جرى في البلدان الأربعة الأخرى رغم قوة الدعم الدولي ــ الاقليمي الذي تلقته أطراف كثيرة في المعارضة السورية، ما يعبّر عن ركائز اجتماعية قوية داخلية للسلطة السورية (مع دعم من موسكو وطهران) لم تكن موجودة في البلدان الأربعة المذكورة، ويعبّر عن ضعف القاعدة الاجتماعية للمعارضة التي لم تتجاوز حدود الريف السني وبعض المدن (حمص ــ درعا) فيما ظلت مدينتا دمشق وحلب، بأغنيائها وفئاتها الوسطى، مع السلطة.
في سوريا واليمن وليبيا لم يستطع الاسلاميون على الطراز الإخواني، وخصوصاً في مرحلة ما بعد 3 يوليو 2013 وفشل وسقوط مرسي، منع توليد تعبيرات اسلامية تطرفية أصبحت تتجاوز «الإخوان» باتجاه نموذج أصبحت له اليد العليا بين الاسلاميين، يمثله الآن أبو بكر البغدادي الذي يتجاوز في تطرفه ابن لادن والظواهري وأيضاً في ثقله على الأرض، وهو في الحقيقة لم يصل إلى ما وصل إليه الآن من قوة لولا المصعد السوري وليس العراقي، فيما ربيع الاسلاميين التركي عام 2002 أتى بإسلام معتدل مثله حزب «العدالة والتنمية».
هناك مراجعة الآن في واشنطن، يمكن تلمس ملامحها في لندن، باتجاه العودة إلى «العسكر» لحماية مصالح واشنطن في المنطقة، بعد أن فشل الاسلاميون العرب في الوصول إلى ما حققه أردوغان من زواج مصلحة مع واشنطن قاد إلى تحجيم المؤسسة العسكرية التركية ومعها كل التركة الأتاتوركية: السيسي هو عنوان هذه المرحلة الجديدة، وأيضاً تخلي واشنطن منذ الربع الأول من عام 2014 عن مطلب باراك أوباما بـ«تنحي الرئيس السوري» الذي طرحه في 18 آب 2011. يبدو أن حصيلة «الربيع العربي» التي فجرت مجتمعات ببناها الداخلية نحو مسارات لا يمكن السيطرة عليها، مع انتاج الاسلاميين بنى متطرفة على طراز البغدادي في تماثل مع ما أفرزته الحركة الشيوعية العالمية من افرازات مثل بول بوت في كمبوديا، طغت على اعتدال إنريكو برلنغوير الأمين العام للحزب الشيوعي الايطالي في السبعينيات، يدفعان كعاملين، واشنطن إلى هذه الاستدارة نحو العسكر باتجاه الحفاظ على الأوضاع القائمة العربية بعد أن فجّر «الربيع العربي» بنى منطقة الشرق الأوسط في اتجاهات انفجارية من الواضح أن القوى الدولية والاقليمية ترى مصلحة في اتجاه تسكيني واحتوائي لها ضمن الأوضاع القائمة ومن دون خرائط جديدة.
* كاتب سوري