«لن أزعم أنّه لو كان عليّ الاختيار بين النازيّة والشيوعيّة، لاخترت الشيوعيّة»وينستون تشرشل

«...ولكنّ الإيطاليّين اليوم قد فهموا أننا حزبٌ يمكن الاعتماد عليه تماماً. هذه الطبقة الحاكمة هي جدّيّة»
من مقابلة لجيورجيا ميلوني، زعيمة حزب «اخوة إيطاليا» اليميني

«لماذا يرفس القدر، باستمرار، بأسوأ النّاس إلى الأعلى؟»
مجهول القائل

منذ سنوات، حين بدأت انتصارات اليمين «المتطرّف» بالتوالي في أميركا وأوروبا، قرأت نصّاً يتناول هذا التحوّل في المزاجات من زاوية طريفة. الفكرة أنّه في الماضي، في السبعينيات مثلاً ووصولاً إلى التسعينيات، كان المناظر اليساري في الغرب هو من يمتلك امتياز «المتمرّد الجذّاب»: يخترق الممنوع في خطابه، يستثير الصدمة من الجمهور ولا يحترم شكليات التيار السائد وقيمه، ويستفزّ المؤسسة ويتمّ طرده على الدّوام من القاعات والمحافل. المحافظ اليميني، بالمقابل، كان يلعب دور المتزمّت البليد: يُصاب بالذّعر ما أن تستفزّ حساسياته، تُخدش أذنه حين يسمع كلمةً أو تعبيراً يخالف قاموسه، وهمّه - كناظر المدرسة - أن يؤنّب الناس محتكراً تعريف «العيب» و«الخطأ». الحال هذه الأيّام يبدو وكأنه قد انقلب: في الجامعات والاعلام والفضاء الإلكتروني، أصبح اليميني (والنوع الجديد المتطرّف تحديداً) هو من يحمل راية «التمرّد» وتحدّي الخطاب السائد وكسر ممنوعاته، إلى درجة أنّ الشخصيات العامّة التي يتمّ طردها من المنصّات الإلكترونية الكبرى في السنوات الماضية، أو تتعرّض للرقابة والمنع، أصبحت غالباً من صفوف اليمين. في الوقت ذاته، أصبح الليبرالي و«اليساري المديني» في الغرب هو من يبدو في موقع المدافع عن الشكليات والأخلاق «الصحيحة»؛ هوسه مراقبة خطاب النّاس ومفرداتهم وتعليمهم اللغة الصائبة، ويتبرّع بتوزيع العلامات على الخلق في الالتزام البيئي ولبس القناع بالشكل السليم.
مع انهيار المنظومة الاشتراكيّة والاتحاد السوفياتي، أصبح في وسع اليمين المتطرّف أن يستخدم المفردات والحجج الاشتراكية التي قام أصلاً للتصدّي لها. في مقطعٍ متلفزٍ اشتهر لجيورجيا ميلوني، تتحدّث الزعيمة الإيطالية بلغةٍ تبدو وكأنّها نقدٌ يساريّ للمنظومة الرأسمالية. «يريدون محو هويتكم وتقاليدكم وعلاقاتكم العضوية الأصلية الأساسية، كالوطن والدين والعائلة، حتى تتمكّن الرأسمالية منكم وتحوّلكم إلى أقنان منتجين مستهلكين لا أكثر. الانسان الفرداني الخلاسي المعولم، الذي لا يملك عقيدةً ولا هوية ولا جماعة، هو الكائن الذي يريد جورج سوروس أن نكون على شاكلته. الصفحة البيضاء التي تسمح للرأسمالية بالتوسّع والمراكمة من غير حدودٍ أو محرّمات». هذه، بتعابير ملخّصة، هي الحجّة البسيطة التي تستعيدها ميلوني باستمرار وبأشكالٍ مختلفة في خطاباتها الحماسيّة دفاعاً عن الهويّة الإيطالية وضدّ من يحاول «استبدالها». هذا الكلام لا يختلف ظاهرياً عن تحليلات نقاد الرأسمالية، مثل ماركس وبولاني، الذين شرحوا كيف أن انتشار الحداثة الرأسمالية يكنس الكثير من المؤسسات والهويات التي كانت تحيط بالفرد وتضيف إلى وجوده معنىً، أو تضامناً مع أتراب، أو سكينة وروحانية، وتصنع غشاءً بينه وبين السّوق المنفلت.
ولكنّ «الحيلة» التي تستخدمها ميلوني، والعديد من روّاد اليمين الجديد، هي أنهم يقدّمون - في طورٍ أوّل - هذا النقد العنيف للرأسمالية ولآثارها علينا فردياً وجماعياً ثمّ يضعون، في مقابلها، مفهومهم الخاصّ عن الهوية و«إيطاليا» و«العائلة» و«الدّين». أي أنّهم يقدّمون هذه الرموز كأنّها ثابتة ومحدّدة ومقررة سلفاً، ويكرّسونها بحسب مفهومهم اليميني عنها، متجاهلين أنّها - في ذاتها - موضوع نقاشٍ واختلافٍ وتحوّلات مستمرّة. ولكنّ المفعول الأساس للانتخابات الإيطالية (والسويدية) الأخيرة، هي أنها ثبّتت «تطبيعاً» مع احتمال أن ينتصر حزبٌ يميني متطرّف، جذوره تعود إلى بقايا الفاشيين في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، في الانتخابات الشعبية، ويحكم، وقد يخرج منه رئيس وزراء يقود بلداً أوروبياً كبيراً.

سؤال الرأسمالية
الفكرة الأساس هنا هي أنّه يجب أن نبتعد عن الاستخدام التقليدي لتعابير مثل «الفاشية»، وعقد المقارنات الكسولة مع تجربة اليمين الأوروبي قبل الحرب العالمية الثانية. بمعنى آخر، لا يجب أن ننظر إلى هذه الحركات بعين أعدائها؛ هم من مصلحتهم أن يربطوا بين انتصارات اليمين اليوم وبين صعود هتلر وموسوليني في الماضي، ولكنّ الحقيقة هي أنّ «جدّيّة» هذا اليمين، وخطورته، تنبعان تحديداً من كونه لا يشبه هتلر أو موسوليني. ميلوني تحمل فكراً يمينياً عرقياً متطرّفاً، ولكنها لا تقود مشروعاً معادياً للمنظومة القائمة (anti-systemic)، يهدّد بالخروج من الاتحاد الأوروبي أو الانفصال عن «الناتو» أو استبدال الديموقراطية بحكم الحزب الواحد. ميلوني تقول في مقابلاتها أنها تقدّس حريّة السوق، والحريات الخاصّة، والنظام الانتخابي التمثيلي. هي لا تريد الخروج من الاتحاد الأوروبي ولا تشكك في شرعيته، بل تريد تعديل سياساته «من الداخل» وعبر مؤسساته التمثيلية ذاتها، وهي - وهذا لا يقلّ أهمية - تجزم بأنها لا ترى إيطاليا إلا ضمن «الناتو» في حلفٍ دفاعي، وهي تتبنى موقفه بلا هوادة في حرب أوكرانيا. هذا ما أعطاها المقبولية الشعبية لتنال أصوات وسطيين، ويمينيين مع الـ«ليغا»، بل ويساريين يئسوا من أحزابهم؛ ولتعقد تحالفاً واسعاً «محترماً» مع باقي الأحزاب المحافظة في البلد. بمعنى آخر، هؤلاء «المتطرّفون» لم يجيئوا لكي يهدوا النظام، بل ليرثوا زعامته، وهم في ظرفنا التاريخي الحالي قد يمتلكون فرصةً معقولة لتحقيق هدفهم.
المسألة هي أنّ النظام الرأسمالي، مثلما هو لا يهتمّ لأسلوب حياتك الفردي أو ميولك الجنسية، فهو أيضاً يتقبّل أي حزبٍ حاكم وأي سردية ايديولوجية لا تتعارض مع النمط القائم للانتاج والتراكم. يمكن أن يجلس في سدّة الحكم عنصريٌّ قوميّ منغلق مثل ترامب أو ليبرالي «ووك» مثل ترودو، يبحث باستمرارٍ عن فرصةٍ لكي يرقص أمام الكاميرات باللباس الهندي. الفيصل هنا هو في نظرة السوق والشركات الكبرى إلى هذه النخب المحتملة: لا مانع من أن يحكم اليسار الليبرالي طالما أن هوياته المتقاطعة لا تتسلّل إلى المجال الاقتصادي، وإن اقتنعت المصالح المالية غداً بأن اليمين المتطرّف يخدم مصالح السوق، فسوف نعتاد أيضاً على الفكرة ونتطبّع معها.
هذه كلّها، في عرفه، «ثنائيات زائفة»، والمشروع السياسي الوحيد الذي ننتظره هو مشروع «اشتراكي» حقيقي، يولد مكتملاً - بشكلٍ ما - في أحضان النظام الرأسمالي


شعبية اليمين المتطرّف لم تأت من فراغ. قد لا تمتلك ميلوني إجابات جيّدة على الاشكاليات التي تثيرها، ولكنّ معركتها سهلة نسبياً حين تواجه خصوماً خطابهم الوحيد هو في اقناع الناخب بأن يبقي الحال كما هو عليه، وأن يثق بالخبراء في روما وبروكسل ويبقي ماريو دراغي رئيس وزراءٍ إلى الأبد. فلنأخذ أهمّ الشعارات الشعبوية عند أمثال ميلوني، فكرة «الاستبدال العظيم»؛ أي أن الرأسمالية المعولمة - بغية مضاعفة أرباحها - سوف تستورد الملايين من المهاجرين السمر إلى أوروبا، وتستبدل تدريجياً الأهل الأصليين لهذه البلاد بشعوبٍ مهاجرة وثقافات غريبة وذريّة خلاسيّة. المشكلة هي أنّ هذا الكلام هو، بمعنى ما، صحيح. لا يمكن أن نتخيّل اضافة ملايين الناس إلى مجتمعٍ من غير أن يتركوا أثراً في الديموغرافيا والثقافة والتركيبة السكانيّة. كلّ شيءٍ له ثمن، والانخفاض السريع في الديموغرافيا الأوروبية ابتداء من السبعينيات (بعد طفرة ولاداتٍ حصلت اثر الحرب العالمية الثانية) حتّم إمّا استيراد أعدادٍ متزايدة من العمال الأجانب، أو التخلي عن آمال النموّ والرّفاه. بالمعنى الاقتصادي البحت، يفهم المخططون في أوروبا أن المشكلة اليوم هي ليست في كثافة الهجرة إلى القارّة، بل أنّ الهجرة بوتيرتها الحالية غير كافية لسدّ الفجوة السكانية القائمة. تقول مجلّة «إيكونوميست» إنّه مقابل كلّ مئة عامل ألماني سيتقاعدون في السنوات الخمس القادمة (أي من هم بين أعمار 60-64 سنة) يوجد فقط 82 ألمانياً في الفئة العمرية المقابلة، التي توشك على دخول سوق العمل (أي من هم بين أعمار 20-24 سنة). والمعضلة الأكبر هي أنّه لو نظرنا إلى الفئة التي تليهم مباشرة، سنجد فقط 58 ألمانياً بين سنّ الـ15 والـ19 يستبدلون كلّ مئة عاملٍ هم حالياً بين الـ55 والـ59 من العمر. لا ضرورة لشرح أنّه من المستحيل أن تحقّق نموّاً وبنيتك السكانية تتقلّص بهذا الشكل (والحال في إيطاليا، من هذه الناحية، قد تكون أسوأ من ألمانيا، وبعض دول أوروبا الشرقية أسوأ من الاثنتين. ومشكلة الانخفاض الحاد للمواليد والشعب الذي يشيخ بسرعة لم تعد محصورة في أوروبا، بل هو تحدٍّ تواجهه - في مراحل مختلفة - العديد من الدّول اليوم، من الصين واليابان وأجزاء واسعة من آسيا وصولاً إلى أميركا اللاتينية ولبنان وإيران).
في مواجهة هذا الواقع، لا تملك ميلوني حلولاً فعليّة باستثناء التخويف من المسار القائم والمطالبة بخططٍ لرفع نسب الانجاب - يشكك الخبراء في أنها قد تشكل فارقاً في الاتجاه العام للأمور. ولكنّ الخطاب «التقدّمي» الذي يواجه شيطنة المهاجرين كثيراً ما يقلّد منطق الرأسمالي بدلاً من أن يفكّكه ويتصدّى له. يبرز هؤلاء للمواطن الأوروبي، في تبرير «التسامح» مع المهاجرين، تنويعةٌ على المقولة التالية: «أنت تشتكي من وضع الاقتصاد والركود وتردّي مستوى حياتك، ولكنّ النموّ يحتاج إلى عمّال، ونحن ببساطة لا ننجب أطفالاً كفاية؛ فأنت إذاً لا يمكن أن تحسّن وضعك الاقتصادي إن لم تكن تحبّ أن يصبح جيرانك الجدد من المغرب وكينيا». أي أنّك تعتبر أنّ العقلانية الاقتصادية (الرأسمالية) هي التي تقرّر عنك شكل مجتمعك ومستوى تسامحك، وتستعمل المنطق التاتشري في فرض ذلك («ليس لديك خيار») - والنّاس عادة لا تحبّ أن توضع أمام «ابتزازٍ» من هذا النّوع. بمعنى آخر، هذا الخطاب «التقدّمي» لا ينطلق من فكرة انسانية، مثلاً، عن أنّ اللون والثقافة لا يشكلان فارقاً بين من يعيش ضمن جماعة متآخية؛ أو نقدٍ للمفهوم «الصافي» عن الهوية، باعتبار أنّ دول المتوسّط ليست حضارات متباعدة، بل هي تتخالط تاريخيّاً، وتتمازج ألسنة أهلها وألوانهم على الدّوام. وهم حتّى لا يقولون لهم ما معناه: «حسنٌ، الرأسمالية قد وضعتنا في هذا الموقف التاريخي، فلندرس كيف سنتعامل معه سويّة». المهاجر هنا، في أحسن الأحوال، هو شرٌّ لا بدّ منه.

سؤال الإمبريالية
من هنا، فإنّ الكثير من التحذيرات التي تسمعها من النخب الأوروبية الحاكمة ضدّ اليمين المتطرّف وخطره على الليبرالية هو ليس حقّاً صراعٌ على الايديولوجيا والقيم وحقوق المهاجرين، بل طواقم حاكمة تتنافس على استبدال بعضها، وكلّ يحمل قيمه وجمالياته وتحالفاته الاجتماعية. نحن هنا لا نتكلّم عن المهاجر الذي يقلق على ظروفه في المستقبل، أو على اليساري العتيق الذي يراقب بلاده وهي تنزلق إلى أسوأ ما في ماضيها. نحن نتحدّث عن الإداريين والقادة في الاتحاد الأوروبي، الذين يخافون من أن يقعوا ضحيّةً لدورة خلدونية يصبحون فيها بمقام «النظام القديم»، المنحلّ والفاسد والمأزوم، وتأتي طبقة جديدة لتستبدلهم. هنا، وليس في الهجرة، المعنى الحقيقي لـ«الاستبدال العظيم» الذي يجري في أوروبا والغرب. الطريف هنا هو أن جيورجيا ميلوني لا تنظر إلى نفسها وحزبها باعتبارها معادية لليبراليّة، بل هي تركز هجومها الايديولوجي على «اليسار»؛ إذ تعتبر أنّ العناصر «المنحلّة» التي تسلّلت إلى النظام جاءت من ايديولوجيا اليسار، بل تتهمّ اليساريين بأنهم هم رأس حربة النخبة «المعولمة» (هي هنا بالطبع لا تتكلّم عن اليسار الماركسي القديم، بل عن ما يسميه اليمينيون الأميركيون «اليسار الثقافي» - النسخة السائدة اليوم عن «اليسار»).
حين نتكلّم عن النقد الاقتصادي، أي النقد الذي يتوجّه إلى القاعدة المادّيّة للمجتمع، فإنّ الإمبرياليّة هي مكوّنٌ أساسيّ لهذه البنية المادّيّة. لا يمكن أن تواجه فعلاً مسألة «الرأسمالية» من غير أن تواجه مسألة «الإمبريالية» وهي، في السياق الأوروبي، تعني أموراً مثل «الناتو» والاتحاد الأوروبي والمنظومة النيوليبرالية المعولمة. مأزق «اليسار الغربي»، تاريخياً (وقد كتب في الموضوع الكثير)، تتلخّص في أنّ اليساري - في المبدأ - يمثّل الطبقة العاملة ومصالحها، ولكنّ تفكيك الإمبريالية والهيمنة سيكون ضدّ مصالح الطبقة العاملة في بلاده ويحرمها من امتيازاتها. هذا سؤالٌ كنت أطرحه حين أجد نفسي في أوساط اليساريين في الغرب، وهم أناسٌ أمميّون، يتعاطفون مع شعوب الجنوب، ويكرهون الحكومة الأميركية وسياساتها، إلخ. المسألة هي أنه لا يمكن أن يحصل إعادة ترتيبٍ للثروة في العالم من غير أن يخسر الغربيون عامّةً في مستوى رفاههم. النّخب ستخسر أكثر، ولكنّ الجميع - بمن فيهم الطبقة العاملة - لا يمكن أن يحافظ على مستوى دخله واستهلاكه النسبي في عالمٍ أكثر عدالة. حين تحين ساعة الحقيقة، ماذا سيكون موقف هذا اليساري من الطبقة العاملة في بلاده؟ هل «يخونهم»، المجتمع الذي جاء منه والناس الكادحين الذي يعيش بينهم، لصالح القضية الأممية والطبقة العاملة في فييتنام وأوغندا؟ أم هل سيحاول اقناع أهله بأنّه من العدل أن تعيش القلّة (أي هم) في حالة ركودٍ وانحدار مقابل أن يرتفع حال الغالبية ويتساوى معهم؟ ومن سيستمع إلى مثل هذا الكلام؟
في التجربة، انقسم أكثر اليسار الغربي إلى موقفين هنا: الفريق الأوّل فهم، مسبقاً، أنّه لن يقف بشكلٍ جذريّ ضدّ الامتيازات التي يحصّلها بلده من الإمبريالية، فيندمج في المؤسسة (ويعدنا بأنّه سيترافع لأجلنا، حين يستطيع، «من الداخل»؛ بمعنى أنه يتعاطف معنا ويقف ضدّنا، وهو يريد صدقاً تلطيف السياسة الخارجية لبلده، ولكن في البداية عليه أن يهزم ميلوني). الموقف الثاني هو ذاك المزايد والطهوري، يبدو ظاهرياً على النقيض من الفريق «الواقعي» ولكنه ينتهي إلى خلاصات مشابهة. هنا، يتمسّك المعارض الغربي بمفهومٍ مثاليّ عن المشروع «اليساري»؛ بمعنى أنّ الخيار السياسي الصحيح لا ينتمي إلى الصراعات التي نراها حولنا، «في الواقع الحقيقي»، بين أميركا وأعدائها، بين إسرائيل وإيران، بين روسيا و«الناتو»، إلخ. هذه كلّها، في عرفه، «ثنائيات زائفة»، والمشروع السياسي الوحيد الذي ننتظره هو مشروع «اشتراكي» حقيقي، يولد مكتملاً - بشكلٍ ما - في أحضان النظام الرأسمالي، وبفرض نفسه دفعةً واحدة في لحظةٍ سحريّة، وكلّ شيء دون ذلك هو «رأسماليات»، كلّها متساوية في السوء (بمعنى آخر، نحن لا نؤيّد الإمبرياليّة، ولكننا ضدّ أعدائها أيضاً، وحتى يأتي المشروع اليساري «الحقيقي»، سوف نعلّق الأحكام وننتظر الظّهور).
في عهد الليبرالية المتأخّرة، يعود أبناء الفاشيين ليحصلوا على فرصتهم من جديد. قد يبدو مشهداً خيالياً في المفارقة: أن يتّحد الغرب في محاربة روسيا، باسم الليبرالية فيما، في بولندا وهنغاريا وإيطاليا وغيرها، يحكم اليمين المتطرّف وتعود الرموز الفاشية أو يعاد انتاجها. استغرب أحد الأصدقاء في نقاشٍ مؤخّراً أن لا تكون للأميركيين والأوروبيين حساسية من انتشار الرموز النازية والأفكار العرقيّة بين حلفائهم في أوكرانيا. هم، في النهاية، خاضوا حرباً عالمية ضدّ النازيّين، وقُتل أجدادهم على شواطىء أوروبا ثمناً لدحرهم، فكيف يتسامحون مع أي إحالة لهذا العدوّ التاريخي؟ هل يتعاملون مع فاشيين جدد من أجل محاربة روسيا؟ الحقيقة، في رأيي، أن هذا خيارٌ بسيط وليس صعباً. من ناحية، يخبرنا التاريخ أن الحكومات الغربية قد تعاملت مع الصعود الفاشي، في دورته الأولى، بمزيجٍ من التسامح والرّضى، طالما أنّه يتصدى للاشتراكية ولستالين. من ناحيةٍ أخرى، هؤلاء في نهاية المطاف قد قاتلوا النازيين فعلاً وبعضهم عانى من الغزو والاحتلال الألماني، ولكن هذا كلّه قد دام لأقل من خمس سنوات. هي تجربة عرفها جيلٌ واحد من الأميركيين، انسحبت بعدها إلى نطاق الأفلام التاريخية والحربيّة وأبحاث المؤرّخين. أمّا الشيوعية (وروسيا)، فهي كانت بمثابة العدوّ الوجودي للغربيين لأكثر من قرن؛ أجيالٌ كاملة ولدت ونشأت مع فكرة «التهديد الروسي»، فهو عداء أشدّ حدّة، بالطبع، من أي حقدٍ متوارث تجاه اليمين المتطرّف. هذه الحكومات، في نهاية الأمر، كانت تفضّل دوماً الفاشيين على الرّوس.

* كاتب من أسرة «الأخبار»