7 تشرين الأول 1967، استسلم إرنستو تشي غيفارا لقوات مكافحة التمرّد التي دربتها الولايات المتحدة في بوليفيا. وبعد يومين قام الجيش البوليفي بإعدامه. وعلى الرغم من فشل غيفارا في الحصول على الدعم في أميركا الجنوبية للثورة الاشتراكية التي تصورها، إلا أن وفاته كانت لها أصداء عالمية.في إيطاليا، وبعد سماع خبر إعدام تشي، تجمّع المتظاهرون في تورينو أمام القنصلية الأميركية بينما نزل المتظاهرون في ميلانو إلى الشوارع وهم يصرخون «!Che Lives». بينما نظّم الطلاب العرب والأفارقة والآسيويون واللاتينيون في جامعة لومومبا في موسكو تظاهرة أمام السفارة الأميركية. وأقامت المنظمات العمالية في بنما حفل تأبين تكريماً لغيفارا، وكذلك فعلت حكومة الكونغو. واجتمع معجبو تشي في قاعة المهاتما غاندي بلندن لإحياء ذكرى الثوري الذي سقط. وفي الولايات المتحدة، قام المتظاهرون في أوكلاند بكتابة «Viva Che» و«Che Lives» على الشوارع والأرصفة والجدران. وبعد ذلك بوقت قصير، في أول احتجاج أميركي ضد حرب فيتنام، توقّف عشرات الآلاف للحظة صمت في واشنطن العاصمة تكريماً لغيفارا.


خلال السنوات التي أعقبت وفاته مباشرة، كان رمزاً بارزاً لأممية العالم الثالث والماركسية اللينينية والرغبة في التغيير الاجتماعي الراديكالي. ولكن الجانب الأكثر بروزاً في الحياة الأخرى لتشي هو عندما عاد إلى المسرح العالمي في نهاية القرن العشرين، تجاوزت شعبيّته تلك التي كانت في الستينيات. وساهم عدد من العوامل في ذلك، بما في ذلك المعارضة الواسعة للعولمة النيوليبرالية، وزيادة المشاعر المناهضة للإمبريالية نتيجة لحرب الولايات المتحدة على الإرهاب، والحنين إلى الستينيات من القرن الماضي، وأسلوب الثقافة المضادة. وتزامن هذا مع تحوّل تشي مِن شخصية ملهمة مناهضة للاستبداد ورابط مثير للذكريات بالماضي الراديكالي والرمز الشائع للثورة إلى شعار تجاري مرغوب وغير سياسي.
واجه غيفارا جلّاده وشرح جوهر كفاحه، وعبّر عن تعاطفه الثابت مع المظلومين والتزامه بالأممية، قائلاً لقاتله: «أنا أرجنتيني، أنا كوبي، أنا بيروفي، أنا تشيلي، أنا بوليفي، أينما كان هناك جُرح، وحيثما يتعرّض أحد للقمع أو التعذيب على يد الظالم، فأنا مِن هُناك»، تُمثّل هذه الكلمات الأخيرة القوية مثالاً على السّبب الذي جعل الكثيرين ينظرون إلى غيفارا على أنه رمز قوي للتضحية بالنفس الإنسانية، لكن تشي لم يقل هذه الكلمات مُطلقاً. حيث تمّت كتابة هذا النص لممثل يلعب دور غيفارا في فيلم المخرج جوش إيفانز الصادر عام 2005 بعنوان «تشي». لتُصبح قصة حياة تشي سيرة قدّيس أكثر من كونها سيرة ذاتية.
يُنظر إلى تشي غيفارا على أنه نموذج الثوري الذي يطمح إليه كثيرون. ومع ذلك، لم يعد يجسّد أيديولوجية أو نموذجاً يلتزم به معجبوه. وفي حين أن هذا قد لا يبدو سوى خروج طفيف عن التفسيرات الشعبية السابقة للثوري، إلا أنه أمر بالغ الأهمية. فمنذ أوائل التسعينيات، أصبح غيفارا نموذجاً شاغراً أيديولوجياً. ولا يزال ارتباطه بالتمرد قائماً، إلا أن الابتعاد عن أسس الاشتراكية جعل من الممكن أن يصبح تشي رمزاً أكثر عالمية، وموضوعاً للثقافة الاستهلاكية المعولمة. وعلى غرار حياة نجوم هوليوود، فإنّ إعادة التخيّل الجماعي لتشي في حقبة ما بعد الحرب الباردة جعلت صورته أكثر جاذبية وأسهل في تحويلها إلى سلعة.
مثّلت الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي ذروة الأممية الثورية، وهي بنية الشعور التي تضخّم فيها فكرة النضال المشترك. وتزامن إنعاش تشي غيفارا في النصف الثاني من التسعينيات مع فترة مماثلة، حيث استحوذ تصوّر عالم سريع الاندماج. وإلى حد كبير، عكس هذا التصور الوعي الشعبي، حيث شكل انتشار الوسائط السمعية والبصرية والأنماط المتغيرة للتجارة العالمية خطابات التضامن المعولم.
وفي هذه البيئة، عمل أولئك الذين وصفهم سيدني جورج تارو، أستاذ العلوم السياسية، بـ«الكوزموبوليتانيّين الراديكاليين» محلياً، ولكن نظراً لمخاوفهم بشأن عدد من الظروف العابرة للحدود، شاركوا أيضاً في شبكات أوسع من النشاط خارجياً، على وجه التحديد، بحث الكوزموبوليتانيّون عن التضامن في النضال ضد الأرثوذكسية النيوليبرالية التي حددت سياسات التكيّف الهيكلي في العديد من دول الجنوب العالمي، وهي صيغة تنطوي على الخصخصة، وإطلاق قوى السوق، والتقشّف الاقتصادي.
ومع بداية الركود العالمي عام 2008، نفذت العديد من الدول الغربية بالمثل برامج تقشف، ما حفّز المزيد من الحركات المناهضة للنيوليبرالية في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية. وأدى هذا الاستياء الحاد من العولمة النيوليبرالية إلى بث حياة جديدة في تشي غيفارا، كرمز سياسي وعلامة أزياء، من أثينا إلى القاهرة ولاباز ولوس أنجليس.
أدى الاهتمام المتزايد بغيفارا إلى حدوث انفجار في الأدب حول مآثره. وجعلت هذه الأدبيات، بالإضافة إلى العديد من الأفلام، قصته في متناول جمهور أوسع. وفي إعادة تغليفه لجيل جديد، أكدت معظم الروايات سمات تشي الشخصية، مثل أخلاقه وموقفه المتحدي، بدلاً من مواقفه العقائدية. ونتيجة لذلك، أصبح تشي رمزاً لـ«فعل اتباع قناعات المرء»؛ وهذا يعني البطولة الفردانية بالمعنى الواسع.
علاوة على ذلك، جاء تشي ليمثل إحساساً بالثورية مقابل نظام قيم محدد بوضوح. وبالنسبة إلى كثيرين، جسّد ما يُمكن وصفه بـ«خيال عام ورومانسي وغير محدد حول التغيير والثورة». وبحلول نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان تشي غيفارا رمزاً شائعاً لـ«سوق المتمردين» المُزدهر. ليكتسح الأسواق في بيرو عام 2009، قميص ظهرت عليه صورة تشي وعبارة بسيطة تحتها «رمز التمرد» (símbolo de la rebeldía).

(أ ف ب)

تمّت كتابة أيديولوجية غيفارا إلى حدّ كبير من قصته المُتخيلة في صراع قوى الخير والشر، وبقت سياسته الراديكالية ضمنياً في قوته كرمز. ويجب أن نتذكر أن خيارات المستهلك هي عنصر لا يتجزأ من تكوين الهوية، كما يُمكن للثقافات المادية والبصرية أن تلعب دوراً حاسماً في تحفيز المجتمعات السياسية وترسيخ الهويات المجتمعية. فالسياقات الأقل شحناً سياسياً، يمكن أن تكون الرغبة في التماهي مع موقف اجتماعي أو مجتمع عاملاً مهماً في اختيار المستهلك. ونتيجة لذلك، يستجيب التسويق بانتظام لهذه الرغبة.
فالسياسة الراديكالية وثقافة الشباب والتسويق متشابكة بعمق منذ فترة طويلة. على سبيل المثال، في الولايات المتحدة ما بعد الحرب الباردة، قدر المسوقون الرغبات الإبداعية والهوية الكامنة في النزعة الاستهلاكية. وأدى التزامن اللاحق بين التسويق وثقافة الشباب إلى صياغة نموذج أصلي لـ«المستهلك المتمرّد» الذي راهن على هويته ضد الانصياع للثقافة الأوسع. وهكذا، أصبح كل من التمييز والتمرد مبادئ أساسية لتسويق البضائع للشباب. وأحد الأمثلة على ذلك هو النص المصاحب لعلم تشي غيفارا الكوبي على الموقع الإلكتروني لمتاجر التجزئة (Urban Outfitters) في عام 2012: «اخرج صرخة متمردة» - أنّ الثورة شعار تسويقي لا يخسر.
منذ عام 2011، اكتسبت الهالة الثورية لغيفارا أيضاً جاذبية بين قطاع عريض من المتظاهرين في المغرب وتونس ومصر والأردن واليمن وليبيا، ولوح المتظاهرون بأعلام تشي الحمراء إلى جانب أعلامهم الوطنية. وبعد الإطاحة بنظام معمر القذافي في ليبيا، ظهرت ملصقات تشي في جميع أنحاء طرابلس. وفي أواخر عام 2011، أعرب أحد المتمردين عن أمله في أن تستمر الروح المتمردة لغيفارا في توجيه المسلحين في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط، قائلاً: «بعون الله، يُمكننا جميعاً أن نكون مثل تشي غيفارا، نناضل من أجل السلام والحرية في جميع أنحاء العالم».
وبحلول عام 2013، كان غيفارا أيضاً واحداً من أكثر الرموز الملحوظة التي رفعها المتظاهرون عالياً في ساحة تقسيم في إسطنبول. وفي الواقع، كان جمهور تشي في تركيا كبيراً. ولم تكن سلع تشي متاحة على نطاق واسع فحسب، بل أصبحت الأيقونة الثورية مرتبطة أيضاً بالسياسة الراديكالية والعبارة المفعمة بالحيوية «اطلب المستحيل». وشجعت المواقع الإلكترونية ووسائل الإعلام الأخرى المتظاهرين على شراء منتجات تشي.
حمل غيفارا دلالة ثورية واضحة في خضم الاضطرابات السياسية في الشرق الأوسط، والتي ظهرت خطورتها الداخلية في ما بعد، لكن تأثر الشباب بما تعرضوا له من سيرة تشي مِن خلال الأفلام، والأدب، والإنترنت، والأزياء، وفهموا أنه يجسد رغبة فردانية للتغيير. بعبارة أخرى، قد يكون غيفارا مرناً، لكنه نادراً ما يحمل خطة. وقد لا يعود هُناك صدى حقيقياً لعبارات مثل «كن مثل تشي» خارج كوبا كما كان الحال في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، ومع ذلك فإن الرغبة في الاقتداء به، لإظهار الشجاعة والأخلاق، لا تزال قائمة بين العديد من الشباب حول العالم.
نتيجة لذلك، أصبح تشي رمزاً لـ«فعل اتّباع قناعات المرء» وهذا يعني البطولة الفردانية بالمعنى الواسع


بشكل عام، أدى التفكك أو التحول السياسي للحركات الاشتراكية خصوصاً في ما يسمى العالم الثالث إلى تجريد غيفارا ببطء من المعنى السياسي القوي. وعندما بدأت شعبيته في العديد من الدول بالارتفاع مرة أخرى في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان ذلك إلى حد ما نتيجة لمظهره العصري. على سبيل المثال، في أواخر عام 2006، ذكرت صحيفة «المونيتور» الأوغندية أن تشي أصبح «أحد أشهر ماركات الأزياء». وأضاف المقال أن صورة حرب العصابات البطولية في أوغندا كانت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالموضة لدرجة أن بعض الشباب افترضوا أن الوجه الشهير على القميص كان لمصمم ملابس.
أخيراً، وقبل أكثر مِن نصف قرن، أعلن الفيلسوف والطبيب النفسي الثوري فرانز فانون أن تشي غيفارا كان «رمز العالم لإمكانات رجل واحد». لكن في الألفية الجديدة، أصبح تشي ظاهرة مرتبطة بالتمرد الاحتفالي، وسلعة الثورة القائمة على اللقطة الإعلامية. وتبقى روحه المتمردة وأخلاقه الشخصية متسامية على وجه التحديد لأن العالم مكان مختلف تماماً.
إلى حد ما، إن انتشار تشي بعد الحرب الباردة في كل مكان نتيجة نوع من التسويق التجاري الواضح في الكتب والأفلام والملابس. وعبر هذا النسخ التجاري، تم تقديم غيفارا كأيقونة للشباب الراغبين في الوقت نفسه في أنماط ونماذج جديدة. وفي هذه العملية، تم تسطيح تشي، وتم إلغاء أفكاره ومعتقداته، وفصله عن الشيوعية. لقد تم اختيار تشي وتخفيفه وتجفيفه من المعنى الثوري. في الوقت نفسه، امتلأ بالمعنى الجديد، تربى على الدفاع عن الأشياء التي لم يتحدث عنها هو نفسه. نتيجة لذلك، أصبح تشي أبرز الرموز الاستهلاكية لثورة أشبه بحالة الطفل المُتذمر.

* كاتب مصري