ما زلت أتذكر النقاشات الرائعة التي جمعتني مع عالم الاجتماع المصري الكبير الراحل السيد ياسين، أثناء زيارتي للقاهرة، حول أدبيات الاقتصاد السياسي المتعلقة بالدولة التنموية. المفهوم الأخير، كان يريه بأنه سيكون حاسماً في مقياس قوة الدول وبقائها في العصر الراهن، لكونه يمثل ضرورة بناء الدولة واشتراكها في صناعة سياسات تحقق نمواً اقتصادياً وتغييراً هيكلياً تنموياً سريعاً، مثل تجربة اليابان التي كتب حولها تشالمرز جونسون؛ كيف ساهمت الدولة التنموية عبر تدخل البيروقراطيين بعد الحرب العالمية الثانية للسيطرة المباشرة وغير المباشرة على رأس المال، والعملات الأجنبية، والواردات، وظروف العمل والضرائب، وحتى استراتيجية الشركات، لتشكيل سلوك الهيكل العام للاقتصاد. حيث قاموا ببناء ما سمّاه جونسون أفضل أنموذج على نظام السوق الموجه من قبل الدولة. وما زلت أتذكر مقولة السيد ياسين بانتهاء عصر الديموقراطية النيابية، وأن العصر بات عصر الدولة التنموية. ويبدو أن معايير نهاية التاريخ لن تعتمد على الأدبيات الليبرالية التقليدية في أندية الدول الديموقراطية من معايير الحكم الرشيد والانتخابات والتمثيل السياسي وغيرها، بل سيكون عمادها اقتصاد السوق والاستثمار والتوازن بين القطاع العام والخاص وما توجّه به سياسات البنوك وأفكار رجال الأعمال.وعليه، إذا كان القرن التاسع عشر أوروبياً، والقرن العشرين أميركياً، فإن القرن الحادي والعشرين سيكون آسيوياً. هذه الموازين الاستراتيجية للقوة العالمية تحمل أبعاداً ذات دلالات تاريخية ومستقبلية حاسمة لإعادة سلم الترتيب العالمي، جاءت في كتاب الباحث الأميركي من أصول هندية باراغ خانا: «المستقبل الآسيوي: التجارة والصراع والثقافة في القرن الحادي والعشرين». يرى أن العالم الآسيوي استطاع أن يكسر حواجز الهيمنة الغربية، بعد حقبة طويلة من الاستعمار الأوروبي والهيمنة الأميركية، عبر معادلة ناشئة وهي في طريق الإنجاز، مثل المشروع الصيني «الحزام والطريق» الذي يحاول أن يربط قارات آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، رغم أنه يراها خطوة لن تكفي وحدها لقيادة العالم. لكن الاقتصاديين وعلماء السياسة يتحدثون منذ عقود عن قدوم العصر الآسيوي، الذي من المفترض أن يمثل نقطة انعطاف عندما تصبح القارة مركزاً جديداً للعالم، والمسرح الاقتصادي العالمي، لهذا أصبح من المسلمات التنبؤ بأن آسيا سوف تهيمن على القرن الحادي والعشرين.
وأمام مصفوفة العالم الجديد التي تقسم النظام العالمي إلى شياطين وملائكة بات العالم حبيس فكرتين؛ إحداهما «هوبزية» الأسس، عبر تجذير وظيفة الدولة على أنها سلام أهلي للجماعة الوطنية مقابل عداء للخارج، والثانية «كانطية» وهي تنطلق من مشروع السلام العالمي، الذي ينعكس على سلم ترتيب العالم الجديد، ويمثّل بداية التاريخ كما يصفه الأكاديمي الفرنسي برتران بادي. لكن المشكلة أن السياسة الواقعية ما عادت واقعية، وحالة السيولة المنفلتة فيه عن الأطر الدولية المعروفة لهذه المرحلة الانتقالية ما زالت غير حاسمة، كما يقول برتران: «سوف يشهد المرء بزوغ تاريخ أكثر كثافة بما لا يقاس، وأكثر عالمية وأكثر اجتماعية، وأكثر إنسانية مهما كان مأساوياً أو بقي كذلك»، ولكن الخيال السياسي ليس له محل من الإعراب في عالم الواقع.
بينما يتحدّث فريق، من أمثال صموئيل هنتغتون، وفرانسيس فوكوياما، وتوماس فريدمان، وآخرون، عن النزعة الأميركية، كان الباحث الياباني أوكاكورا تينشين، والشاعر الهندي رابندرانات طاغور، والباحث الصيني ليانج كيشاو، وآخرون، يتحدثون عن النزعة الآسيوية. وبين النزعتين جدل فكري ونظري وعملي واسع، وإن أي عملية اختراق بين الطرفين تحتاج إلى جهود تاريخية غير تقليدية، نحتاج فيها إلى «ماركو بولو» - مغامرة التاجر والمستكشف والرحالة الإيطالي إلى الأرض الشرقية في القرن الثالث عشر، حيث أن المهمة العسيرة لم تكن معروفة ولا محسوبة النتائج، وشبهت لاحقاً برحلة هنري كيسنجر إلى الصين.
في عام 1953، كان الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون، قد زار جزيرة الصين الوطنية تايوان عندما كان شاباً، حل ضيفاً على الجنرال تشان كاي شيك، وقال إنه لن يتم الاعتراف بالصين الحمراء، وشجع الانطباع بأن الولايات المتحدة تشجع آمال تشيانغ في إعادة غزو البر الصيني. غير أن الناس سرعان ما سمعوه يقول لاحقاً في واشنطن: «سوف أذهب ذات يوم إلى الصين، إلى البر الصيني»، ثم يقدر له بعد عقدين من الزمن أن يكون الاختراق نحو العالم الصيني على يديه، عبر زيارته للصين بنصيحة من كيسنجر ليدشن لعصر الوفاق بداية السبعينيات، رداً على جميل بكين السياسي لواشنطن ومساعدتها على الخروج من مستنقع فييتنام. ولهذا كتب في مذكراته: «يجب أن تصقل الصين ونشجعها خلال العقود القليلة المقبلة، بينما لا تزال تتعلم تطوير قوتها الوطنية وإمكاناتها، وإلا فسنواجه يوماً ما ألد عدو وُجد في تاريخ العالم». ويبدو أن نبوءة نيكسون تتحقق اليوم، وهو قد حذّر من إضفاء الطابع الرومانسي على العلاقة بين الطرفين: «العلاقات بين الدول العظيمة معقدة، إنها كأجهزة معقدة يجب مراقبتها والعناية بها باستمرار، لذلك ليس هناك ما يضمن أن العلاقات الصينية - الأميركية ستستمر في التحسن بعد انتهاء الحرب الباردة».
بات العالم حبيس فكرتين؛ إحداهما «هوبزية» الأسس، والثانية «كانطية»


رغم كل جراح آسيا التي مزقت نظامها تاريخياً، لكنها تسير بهدوء وثقة لتعيد رسم ملامح هذا النظام بقوة الاقتصاد وعجلة التواصل والاتصال المحدثة، وهي تطير بجناح الديموغرافيا حيث يعيش أكثر من نصف سكان العالم في آسيا. في المقابل، انخفاض عدد السكان في الاقتصادات المتقدمة؛ مثلاً النمو السكاني الهائل في الهند وإلغاء سياسة الطفل الواحد الصينية، ومع تقلص السكان وتقدم العمر، ترتفع التكاليف ما يثقل كاهل الميزانيات الحكومية ويبطئ النمو الاقتصادي، وتنتقل الوظائف مثلاً إلى دول آسيا وأفريقيا حيث لا يزال السكان من الشباب، وطائر الاقتصاد الذي بات يكبر أقرانه في القارتين الأهم اقتصادياً. وقد أظهرت دراسة حديثة أجرتها «BBVA Research» حول الاستثمارات الصينية في الخارج، أن أوروبا تفقد وزنها في هذه السنوات، في حين أن ثقل الاستثمارات الصينية في بلدان الجنوب العالمي آخذ في الازدياد، مع نمو قوي في أميركا اللاتينية وأفريقيا.
نعم، آسيا ليست الصين فقط، وإن كانت معياراً كبيراً يعبر عن ثقل آسيا وتطورها الاقتصادي، إذ وفقاً لبعض الدراسات فإن من المرجح أن يلحق الناتج المحلي الإجمالي للصين بالناتج المحلي للولايات المتحدة أو حتى يتجاوزه، وكذلك قد تتفوق الهند على ألمانيا لتصبح رابع أكبر اقتصاد في العالم. بالمقابل يتوقع أن الدول الأوروبية ستدخل في كساد، بينما تعمل الدول الآسيوية أيضاً على تنشيط اقتصاداتها بشكل أسرع من أجزاء أخرى من العالم، ومن المتوقع أنه بحلول عام 2030، ستساهم آسيا بنحو 60 في المئة من النمو العالمي.
وعليه، فإن معايير هذا الإعلان الآسيوي المتفوق باتت تدخل الحسابات الرياضية، ولن ينتظر كثيراً ليحصل على شهادة سلامة وحسن السلوك لعملية صنع القرار، بل وحتى لتوجيه السياسة الاقتصادية والقدرات في الاتجاه الصحيح، رغم أن التنمر السياسي الغربي حول الديموقراطية الآسيوية في أوجه، ويتم إغفال عن مشاركات مهمة لأرقام فلكية في الهند وإندونيسيا والفيليبين وتايلاند في المواسم الانتخابية، فضلاً عن مقاييس باتت تدخلها بقوة في عالم الاقتصاد المعولم من قبل الشركات الحديثة.
وإن بقيت النظرة الغربية خلاف ذلك؛ حيث أظهرت دراسة حديثة أجراها مركز «بيو» للأبحاث، حول التصور السلبي للصين، وهو السائد في معظم بلدان الغرب من بين الدول الـ19 التي شملها الاستطلاع، حيث صرح 68% أن لديهم وجهة نظر سلبية تجاه الصين، مقارنة بـ 27% فقط ممن لديهم وجهة نظر إيجابية. في ظل الحرب الباردة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية نتيجة الطفرة في الصادرات الصينية، ثم تعزيزها التكنولوجي، وأخيراً دورها المتنامي في الديبلوماسية التجارية، ناهيك عن الموقف الأمني العسكري بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان والحرب في أوكرانيا، يبدو أن كل ذلك يلقي بظلال من الشك على مؤشرات هذا التنافس، الذي أسهم في تسريع الاتجاهات نحو الصدام، وقد لا يؤدي إلى صدام مباشر حتمي، حيث المضار لكليهما في إطار المباراة الصفرية، لكن بالنتيجة تدرك واشنطن وبكين أنه في عالمنا المعولم لا توجد دولة قومية لديها القدرة على مواجهة التحديات التي يفرضها هذا القرن بمفردها. ولذلك يسعى كل طرف لبناء عالم خاص، أو ربما السعي لتأسيس مناطق تقسيم غير رسمي لمناطق النفوذ بما يتماشى مع تجنب المواجهة المباشرة التي قد تكون انتحارية. رغم مضاعفة الصين لإنفاقها العسكري، لا تزال كفة واشنطن متفوقة بشكل واضح، لكنها تمتلك موارد في مجالات أخرى مساوية لقدرة الثانية أو ربما أوسع، فضلاً عن الديبلوماسية الصينية التي لا تريد أن تخسر فرصتها كمصنع للعالم، وعليه فإن قواعد اللعبة الدولية الحالية تفرض عليها اتباع استراتيجية أكثر مرونة بين العروض والحوافز والتهديدات، من خلال مزج ذكي من الحوافز الاقتصادية. لكن حتى الآن لا يبدو أن لديها الرغبة في نزعة القيادة العالمية، بالتالي قد لا نشهد مثل ما يتوقع البعض بناء تحالف آسيوي، حيث يسجل أن هدف أكثر قادة الدول الآسيوية، خاصة جنوب شرقي آسيا، يعكف على السياسة الداخلية أكثر من السياسة الخارجية.
أو كما يذهب الديبلوماسي والمنظر الأميركي ريتشارد هاس يمكن أن يكون هناك قرنان آسيويان مختلفان تماماً، والقرن الذي ينشأ ستكون له عواقب وخيمة على شعوب وحكومات العالم على حد وصفه، حيث آسيا التي تتسم بالتوترات المتزايدة، وارتفاع الميزانيات العسكرية، وتباطؤ النمو الاقتصادي. أو القرن الذي سوف يستمر اقتصاده في التمتع بمستويات قوية من النمو والقدرة على تجنب الصراعات بين بلدانها - بعد مرور موجة تحدي الوباء يبدو الثاني هو الأقرب.
ثمة أسباب موضوعية، ككون القارة الأكبر في تباين الأعراق والأديان والجغرافيا، ما يمنع إنشاء هذا التحالف بالوقت الراهن، إلا أن عدم وجود عملة موحدة أو منظمة سياسية إقليمية تعمل على بناء الاندماج الاقتصادي لا يمنع من التعاون المشترك الاستراتيجي مثل أعمال منظمة شنغهاي للتعاون. ثمة مؤشرات أولية إلى بناء هذا العالم الآسيوي؛ ففي قمة شانغهاي في مدينة سمرقند عاصمة أوزبكستان التاريخية على طريق الحرير القديم، تظهر بعض من معالم هذا العالم الجديد. بعثت رسائل ترفض الأحادية القطبية التي يعيشها العالم عبر سيطرة واشنطن، وكذلك انضمام إيران إلى المنظمة، وتأكيدات القيصر الروسي أن موسكو وبكين تدافعان بشكل مشترك لإقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب. وقد انعكست تلك الروح الآسيوية في بيان سمرقند الختامي. في المقابل، وعلى الرغم من الاهتمام الأميركي بعالم آسيا والباسفيك، وخصوصاً في عصر الرئيس الأميركي جو بايدن عبر لجنة من المستشارين في مجلس الأمن القومي الأميركي، وكذلك من خلال اختيار كورت كامبل مساعد وزير الخارجية الأسبق لشؤون شرق آسيا في عهد أوباما الذي يعرف بقيصر آسيا لخبرته الواسعة، فإنه لا تزال واشنطن بعيدة من الروح الآسيوية وفهم هويتها الخاصة. ذلك خصوصاً بعد إخفاق مشروع هنري كيسنجر الذي أشار له في كتابه «On China» حول تأسيس مجتمع باسيفيكي لا يقوم على الثقافة والقيم والحضارة والهويات المشتركة لمواجهة التهديدات مثل الحالة الأطلسية، بل يقوم على المصالح المشتركة لإعادة التوازن إلى النظام الدولي على حد رؤيته، فمن المستبعد أن تنجح هذه الفكرة الفاقدة لفهم السياق الروحي الحضاري والهوياتي الذي يجمع الدول.
يبدو سياق الحرب الباردة بين الطرفين مستمراً، ولعل بصمة صن تزو التاريخية في حضور هذه الحرب العقلانية كما يقول: «الانتصار في المعارك ليس هو النجاح التام، النجاح التام هو أن تكسر مقاومة العدو من دون قتال».

* ديبلوماسي عراقي، باحث في العلاقات الدولية