كانت رحلة نزار قباني الشعرية مُباركة تماماً في أوساط المثقفين والمراهقين على السواء، حتى أكثرهم ترهلاً وبعداً عن رشاقة الشعر، باعتباره يقود معركة جمالية بامتياز تهدف إلى تحرير الذائقة الشعبية الشرقية من طغيان دمامل الكبت المتراكمة على طول الخط في سياق انكسارها الكارثي إزاء عقلنة الجنس بشتى أشكاله وتمظهراته.
مسارُه الشعري كان أكثر جدية وإلحاحاً مما اعتقد هو نفسه، ودواوينه كانت أكثر أهمية من أن تقتصر على صلاحيتها كرسائل بين العاشقين، فالشبق ببصماته المراوِغة كافة مواطن أصيل في سيبة ثلاثية اجترح ركيزتها الأهم العالم سيغموند فرويد في مطلع القرن العشرين، ومارس واقعها كل البشر على مرّ القرون، حتى أولئك الذين يغالون في رفضها بحجة نقاوتهم الفوق ـ بيولوجية. ولأنه لا بديل من التوقف عن إقصاء ما نحن عليه من كبت ومكابرة، لأجل ذلك لم يكن الأمر ترفاً أو استراحة شاعر في رحاب المُراهقة وبذاءة التعبير عنها أحياناً. ما قام به نزار قباني وغيره الكثيرون، يقع في قلب الرحلة العلاجية الشاملة لثقافة مجتمعية بالية لم تتوقف عن التعبّد للعيب بل وإراقة الدماء على جوانبه أيضاً. السؤال، هل نجح الرجل؟
أن تقترف التحرر في تابو الجنس والنساء في مضاربنا فتلك مهمة مرصودة لفشل بالضربة القاضية (كسكين مطبخ مثلاً) أو لانتصار بالنقاط. لن يكون حكيماً بالتأكيد الانزلاق إلى تأليه تلك النزعة وإرسالها إلى صدارة المشهد النفساني، ولن يكون المزيدُ من الخنق والحصار مصيراً ملائماً أيضاً.
إدارتها في السياق الشخصي والمجتمعي كفيل بالحدّ تدريجياً من مضمونها العنفي والدموي، الذي تُشكّل مُجريات الحدث السوري الدموي أحد تجلياته المأساوية، حيث روعت العالم مشاهد الانهيار الفظيع لكافة أنواع الضوابط والقيم الحضارية التي احتاج البشر آلاف السنين لمراكمتها. وانزلق الكثيرون إلى الدرجة الصفر من الحضارة لا يفرقهم شيء عن إنسان الكهف إلا قدرتهم على توثيق جرائمهم وتحميلها على موقع يوتيوب.
في تفاصيل العنف غير المبرر، بالمعنى العسكري للكلمة، في جرائم الاغتصاب وفقه النكاح ومتفرعاته الذي استحدث على عجل «لمواكبة العصر»، في كل ذلك محطات للتذكير بأن معركة إخراج شبح الشبق من دائرة القداسة _ القداسة بالمقلوب تحديداً _ قد فشلت وما حدث هو العكس تماماً بحيث حالف الليبيدو عقلَ الفتوى بكل صفاقة. هذا الحلف كان طريقة الأخير المريضة في العبور إلى معادلات الحاضر واستقطاباته الحادة.

تبدو مساءلة
نزار قباني ومحبرته الحمراء مبرّرة تماماً

إذاً، يبدو أن استحقاق وضع الغريزة الجنسية، ببساطة، في مصاف شقيقاتها من الغرائز البشرية قد فشل في حاسوب وعينا الجمعي، ما أفرز واقعاً اقتسمته حالتان هما التغوّل في تعبيرات الشبق الجنسي وإن بلبوس مشرعن من جهة، والإمعان في خنق تعبيرات هذا الشبق والتضييق عليه بأكثر من طريقة من جهة أخرى.
تبدو مساءلة نزار قباني ومحبرته الحمراء مبرّرة تماماً. هل تصدّى الرجل فعلاً بمبضع جراحي إبداعي لعلاج آفة نفسية واجتماعية كمقدمة لتنفيس الاحتقان في ديناميات تفاعل النزعات والغرائز الأكثر بدائية وتوحشاً في شبكات الوعي البشري، أم أنه فقط كان يرشّ البهار والزيت على هذه الآفة ليؤججها وليعدنا بأكثر من احتمال للانفجار، كذلك الانفجار الذي حدث ويحدث الآن في سوريا! لن نخوض في الخيار الثاني الذي يُسقطنا في متلازمة جلد الذات المجانيّة، والمخرج العاقل والوحيد يكمن حصراً في استئناف المعركة ضد شيطنة وتقديس الغريزة الجنسية على كافة المستويات والمسارات الجمالية والفكرية وحتى الدينية (على قاعدة التأويل «المناسب» والحداثي). سيكون ذلك ضرورياً من أجل خصي مفاعيل الشبق الدموية وإطلاق سراحه على مستوى الممارسة الفردية الطبيعية والأليفة.
وبعيداً عن رومانسية أرباب النظريات السيكولوجية التي تستسهل الإسقاطات العشوائية على حساب العامل السياسي والاجتماعي والاقتصادي المكون للأزمة، فإنه ليس ابتساراً للواقع القولُ إن المكسب لن يقتصر على الحدّ من حالات الاغتصاب والعنف الجنسي فقط، بل سيترتب على ذلك أيضاً انحسار لا يستهان به في منسوب العنف المجتمعي بالكامل، وذلك إذا أردنا أن نصرّ على التصديق بالحد الأدنى على نظريات فرويد ومدرسته في التحليل النفسي.
* كاتب لبناني