للقوة ثمن، وقيصر الروماني خبِرَها بدمه. لبنان، نموذج الكذب «السيادي» في الكنف الأميركي، أعطى البشرية شرفاء من أفضال نبيه، سمير، وليد، نجيب، ورياض (على سبيل المثال ولا الحصر) يتذوقون طعم القوة بجشع وثقل دم، لكنهم للأسف لا يذوقون طعم ثمنها. ربما يأتي ربيع مزيف الألوان يفرضه البيت الأبيض بعد استنفاده هؤلاء، كما خصص من أثمان للرؤساء معمر القذافي وصدام حسين وحسني مبارك ولنفوذ الرئيس بشار الأسد. لكن حالياً لا غيوم عند الأفق فوق منصات الغاز طالما شرفاؤنا مجندون في خدمة المصالح الخارجية. طعم القوة بلا ثمن سائر أيضاً على بقية الدول العربية «السيادية» التي تحتلها أميركا وإسرائيل بالجملة والمفرّق. من حسن حظ شعوبنا أنها دائماً تتربّص بالفاتورة الجماعية على حساب السعادة والكرامة الانسانية، لكنه تفصيل ممِل في حسابات الزعماء. نعرف أيضاً أن المصير يدرك الحياة أحياناً، عاجلاً أم آجلاً، عن حق أو باطل، والوقائع التاريخية خير شاهد.فيما السيوف تنهش جسد قيصر وهو يقاوم، كان لأحدها الضربة الأقسى رغماً عن صغر نصلته. «حتى أنت، يا بروتوس؟» قالها قيصر قبل أن ينهار وعيناه قد تشابكت بعيني صديقه، كأنه أراد القول «سيوفهم لا تفاجئني، لكن أنت أيضاً؟ خذلتني...». قالها قيصر سنة 44 من العصر الغابر عندما هاجمته مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ على أرض المجلس. هي جملة يونانية متحورة المعنى كانت قد أصبحت مضرب مثل عند الرومان، معناها الأصلي «أنت أيضاً، يا ولدي، ستذوق طعم القوة».
الغدر السياسي لم يبدأ أو ينتهِ بالقيصر. يهوذا الإسخريوطي غدر يسوع المسيح. أعيان قريش غدروا النبي محمد. الكوفة غدرت الإمام الحسين. تلك ملحميات غلافها ديني ولكن أساسها صراع القوة السياسية. الرئيس معمر القذافي غدر السيد موسى الصدر. الرئيس رياض الصلح وأدوات الرجعية الاستعمارية غدرت العظيم أنطون سعادة.
نصل إلى يومنا هذا مع فرسان لبنان الأربعة: نبيه ووليد فلذات صدر واحد. سمير شر مطلق. نجيب (أو سعد أو فؤاد) غول لا يشبع. جميعهم عبيد القوة ومصاصي المال على إيقاعات الموسيقار رياض. هذا النوع من الفرسان يجسد الرؤوس الصافية التي لا تلبدها أفكار العَقد الاجتماعي أو المصلحة العامة. ولو؟ فاجئونا شي مرة بفكرة نافعة لنا؟ نحن الانسان في لبنان على كل أنواعه الروحانية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية. زورونا شي مرة في بيوتنا، حرام، تحلقوا معنا حول الشمعة للتدفئة والإنارة في آن، ذوقوا كسرة خبز نتقاسمها لكي تفهموا إلى أي زمن حجري تقذفون بنا.
خلاصة انجازاتهم منذ 40 سنة تتجسد بنتيجة واحدة: فجوة في الهواء، عبارة عن ضخامة في اللا شيء تصب كل فراغها في المصلحة العامة (مع نتفة حروب صغيرة وسرقات خجولة، إحم إحم، بالكاد تُذكر في مواسم الانتخابات). لكن انجازهم الأهم هو منع العماد ميشال عون عن تحقيق أي انجاز لتحسين أوضاع البلد معيشياً، قضائياً، أو بنيوياً. هم من النوع الذي لا يفعل، ولا مفعول به، ولا يزيح من درب الفاعلين. توحدوا للغدر بالعماد أيام الحرب، وتوحدوا للغدر به أيام «السلم». وها هم يكررونها على أرض المجلس منذ ست سنوات، فيما عبارة قيصر ذاتها ما برحت ترن خيالاً في أذني: «وأنت، يا سيد، تشاهد بصمت فيما خناجرهم تستبيح ولايتي ووعدي بخدمة الشعب؟ لم أطلب فعلك على الأرض، لكن أي مانع يكم كلمتك وصوتك وأنت فاعل النصر في صهاينة الخارج ومنظف دواعش الداخل؟».
فزّاعة العقوبات على كل من يريد التحرر من قبضة المصالح الغربية لا تطال الفرسان الأربعة بالرغم من فسادهم المفضوح، علماً أن منطق العقوبات الزائف مرفوض أياً يكن الجاني لأنها تدَخّل سافر بسيادة الأمم، إلا في خدمة الحالات الإنسانية الصادقة كمجابهة أبارثايد التمييز العنصري في جنوب أفريقيا والصهيونية على أرض فلسطين. لا يكفي إلقاء اللوم على سياسة أميركا الخارجية تجاه لبنان والمنطقة، وقبلها السيطرة البريطانية والفرنسية على مفاصل القوة. تستقر سيطرة الخارج بقدر ما يسمح بها الداخل. مسؤولية الخراب التراكمي في لبنان منذ الـ1920 تقع على زعماء القبائل اللبنانية أولاً وأخيراً قبل قوى الغرب. حتى الذهنية الشعبية اللبنانية والعربية مسؤولة عن أوضاعها ولو في حالة اللاوعي، كحداد الكثر والتأسف على رحيل الملكة «إليصابات»، كما أشار إليها الرائع أسعد أبو خليل، دون أن يتوقفوا ولو في لحظة تأمل لما ترمز تلك المرأة إلى طغيان الغرب الاستعماري على مجتمعاتنا ومصالحنا ووجداننا، ومن غدرٍ لئيمٍ عند كل مفترق حيوي في تاريخنا وحاضرنا. هكذا عن وعي أو عدمه، نحن غدارون بأنفسنا أكثر مما هم بنا.
من جواهر الإمام علي أن «الغدر شيمة اللئام»، لكن فرسان لبنان الأربعة لا تكترث. قال أيضاً «لولا كراهية الغدر لكنتُ من أدهى الناس»، ولا يختلف اثنان أن رياض والإكليروس الذي يحميه من أدهى اللئام. لكننا لا نفهم موقف السيد حسن الذي نكن له كل احترام، خصوصاً عند مقولة علي «وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته». هل الخوف من غدر نبيه وصحبه يفوق فضل العماد الصامد حتى آخر نفس؟ يا سيد، نفتخر بمآثرك في الصراع مع الخارج؛ ألا يخطر على بالك أن شعبك مخذول في سياسة الداخل على يد شركاء السياسة؟
* ناشر لبناني ومحرر سابق لمجلات أدبية وفنية