مع ازدياد الوضع الاقتصادي تأزماً في لبنان، ومع ارتفاع أسعار الأقساط المدرسية، بدأ الكثير من الأهل بالبحث عن خيارات بديلة من التعليم التقليدي المتمحور حول الذهاب إلى المدرسة، وذلك للتخفيف من عبء الأقساط المدرسية وكلفة النقل والتكاليف الإضافية المرتبطة بالتعلم الحضوري. ولعل تجربة التعليم عن بعد التي فرضتها جائحة «كورونا» كانت كفيلة بتقييم العملية التعليمية والمناهج التعليمية اللبنانية التي بدت واهنة أمام متغيّرات القرن الواحد والعشرين. وعلى الرغم من عدم وجود دراسات صادرة عن جهة رسمية لبنانية، فإن هناك إجماعاً عاماً على عدم فعالية التعليم عن بعد والذي تفاوت بين القطاعين العام والخاص وضمن القطاع الواحد أيضاً. وقد أظهرت الكثير من الدراسات الحديثة عوامل كثيرة ساهمت في التقليل من فائدة التعلم عن بعد؛ كعدم قدرة الأهل على إلزام أولادهم بجدول زمني محدد للتعلم، عدم فهم المحتوى التعليمي وعدم قدرة الأهل على شرح المحتوى، قلة المراجع التعليمية، ضعف الإنترنت أو انعدامه، وغيرها. لكن على ما يبدو فإن «كورونا» لم تكن وحدها السبب الرئيسي الذي منع، وسيمنع، اللبنانيين من إرسال أبنائهم إلى المدارس هذا العام، فارتفاع أسعار الأقساط المدرسية والنقل وأسعار الكتب والقرطاسية والحياة المعيشية، سيدفع بالكثيرين إلى التخلي عن تعليم أطفالهم أو البحث عن بدائل أقل كلفة، وعليه بدء بعض التربويين بتداول مصطلح يعرف بـ«التعليم المنزلي».
فما هو التعليم المنزلي؟
إن مصطلح التعليم المنزلي ظهر بشكله الأولي في العام 1960، غير أن التعليم المنزلي كان قبل ذلك بآلاف السنين وكان مرافقاً لفئة الأثرياء الذين كانوا يستقدمون معلمين لتعليم أبنائهم لتميزيهم عن الطبقات الدنيا. بعد الثورة الصناعية، أصبح التعليم متاحاً أمام الجميع، إلا أن بعض الأسباب الإيدولوجية والبيداغوجية والبيئية أعادت في القرن الماضي تسليط الضوء على التعليم المنزلي، على الرغم من أنه لم يأخذ صفة قانونية في أميركا على سبيل المثال إلا في العام 1980، وهذا لا يعني أن كل البلدان الأوروبية والغربية تعتبر أن التعليم المنزلي قانونياً ويمكن تبنيه واعتماده حتى في يومنا الحاضر.
إذاً، التعليم المنزلي يعني أن يتبنى الأهل تعليم أولادهم بمفردهم معتمدين على مناهج يختارونها بأنفسهم تلائم تطلعاتهم نحو مسقبل أبنائهم، إذ يمكنهم اختزال ما يرونه غير مناسب والتركيز على ما يناسبهم أكاديمياً أو مهاراتياً أو دينياً. وهناك بعض الدول، كبريطانيا، فرضت على الأهل الالتزام بمعايير المناهج التعليمية الخاصة بها، غير أن للأهل حرية التعليم بالطرق والأدوات والتوقيت الذي يناسبهم. ويُعتبر الأهل هم المعلمون المسؤولون عن متابعة تقدّم أبنائهم لكن عليهم إعلام الجهات المختصة بخيارهم في التعليم المنزلي، الذي يستدعي زيارة مفتش أو معلم من قبل وزارة التربية للتأكد من أن الأطفال يتلقون تعليمهم بشكل إيجابي وفعّال. لكن هذه الإجراءات لا تزال محل انتقاد لدى كثيرين يعتبرون أن لا معايير واضحة للتقييم وأن المتابعات والدعم التعليمي الذين يتلقونه من الجهات المختصة هو محدود وغير محدد المعالم.
فلماذا التعليم المنزلي إذاً؟ وما هي فوائده؟ وهل يعدّ بديلاً جدّياً للكثير من اللبنانيين في حال أخذت الدولة على عاتقها تبني هذا الأمر؟
أظهر عدد من الدراسات فوائد كثيرة للتعلم المنزلي، وقد تبيّن أن الأطفال الذي تعلموا تعليماً منزلياً كان أداؤهم أفضل في التعليم الجامعي مقارنة بالذين تعلموا تعليماً تقليدياً، سواء كانوا في التعليم العام أو الخاص. كما أن لا مشاكل اجتماعية ظهرت لديهم، لأن الكثير من الأهل كان يخصص فترات متنوعة لانخراط أولادهم بالأنشطة الاجتماعية خارج المنزل. وقد أظهرت دراسات أخرى أن للتعليم المنزلي فوائد إضافية إذ إنه يضمن حماية الأطفال من التنمر ومن التعرض للإيذاء الجسدي، كما يضمن حصول الطفل على تعليم عالي الجودة يناسب إمكاناته وقدراته الشخصية، فضلاً على أنه خيار جيد للذين لا يستطيعون دفع الأكلاف المادية المترتبة عن التعلم الوجاهي. وعلى الرغم من ذلك، فإن عدداً من الدراسات أكدت أيضاً أن الحصول على نتائج إيجابية من التعليم المنزلي مرتبط بمستوى الأهل التعليمي؛ فالأهل الذين يمتلكون مستوىً تعليمياً متقدماً كان أداء أبنائهم أفضل من أقرانهم، أمّا الأهل ذوو التعليم المنخفض فقد انعكس ذلك أيضاً على أداء أطفالهم المتعثر. وفي ما يتعلق بفئة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، فقد فضل بعض الأهل، وفق بعض الدراسات، خيار التعليم المنزلي لأنه يتيح لهم العمل على تطوير مستويات أبنائهم وفق خطط فردية مخصصة لهم. وهذا لم يتوافق مع دراسة أجريت في 2021 على عيّنة مؤلفة من 100 ولي أمر لأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة في لبنان، بيّنت أن نسبة 96.5% من العينة لا ترى جدوى من التعلّم عن بعد لأسباب متعلقة بعدم أهلية الأهل وعدم قدرتهم على القيام بدور المعالجين، ناهيك عن الأسباب المادية كضعف في الإنترنت وعدم وجود حاسوب في المنزل والذي كان عائقاً أساسياً لجهة تطوير أو المحافظة على مستويات أبنائهم.
وعليه، فإن التعلم المنزلي قد لا يكون خياراً مناسباً في لبنان ذي الأزمات المتعددة، وقد يكون عبءاً لا يمكن للكثيرين تحمّله، إذ إن الأمر لا يتطلب فقط المعرفة بالمنهاج وطرائق التعليم، بل يتطلب تحضير أو شراء الوسائل التربوية المعينة ووسائل التكنولوجيا التي باتت حاجة أساسية في التعلم، ناهيك عن الحاجة للإنترنت السريع وتخصيص مساحة للرحلات التعليمية والاستكشافية كبديل من الجلوس والتعلّم في المنزل، والأهم من كل هذا هو تفرغ أحد الأبوين للتعليم المنزلي خاصة في العائلات التي يتعدّى عددها الطفل الواحد. فهل لأحد من الأهل هذه القدرات، خاصة أننا لم نخرج بعد من النتائج السلبية التي خلفها التعلم عن بعد على مستويات الأطفال الأكاديمية والنفسية. وإذا سلّمنا جدلاً أن هناك من هو قادر من الأهل على تولي مسؤولية تعليم أبنائه في المنزل بحجة تدني المستوى التعليمي في المدارس، فهل سيعرض ملف من هذا النوع على الحكومة للتصويت عليه في ظل كل التعثرات الآنية وصعوبة تكليف فريق متخصص يرعى هذا النوع من التعليم في الوقت الذي لم تحسن فيه بعد أجور المعلمين ولم يستلم الكثير من المعلمين بعد أي من الحوافز المادية التي وعدوا بها.

* خبيرة تربوية وأستاذة جامعية