لعله يمكن في البداية أن نصنّف الاتجاهات السياسية في مصر الآن - في مستوى النخبة - على النحو الآتي:1- الاتجاه المعادي لثورة يناير (وخصوصاً فلول النظام المباركي) وبعض رجال الأعمال وبقايا الحزب الوطني السابق.
2- اتجاه «الإسلام السياسي»، ينقسم إلى غالبية معادية للرئيس عبد الفتاح السيسي، لا سيما جماعة الإخوان المسلمين، وإلى أقلية «مستقلة» أو «شبه مستقلة»، وخصوصاً «حزب النور» و»الجماعة الإسلامية».

3- الاتجاه الممثل لدعوى (شرعية ثورة يناير) والمكون من بعض شرائح شباب الثورة، مثل حركة 6 إبريل، ومن «التيار الشعبي» المكون من أنصار المرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي، وكذا المجموعات الملتفة حول عدد من الأشخاص، بالإضافة إلى بعض الجماعات والأحزاب السياسية الصغيرة مثل «حزب الكرامة» و»حزب الدستور» و»التحالف الشعبي الاشتراكي».
4- الاتجاه الداعم للرئيس السيسي، وفيما يبدو فإنه ربما لا تختلف التركيبة الاجتماعية لعدد من الكيانات الممثلة لهذا الاتجاه، بصورة نوعية وجوهرية، حتى الآن، عن الاتجاه الأول بشكل عام. ومن أهم مكونات هذا الاتجاه الآن، كل من «حزب الوفد» و»حزب المؤتمر» الذي يتزعمه (عمرو موسى)، ومجموعات ذات طبيعة غامضة تقودها شخصيات غير محددة الهوية فكرياً مثل مدير المخابرات الأسبق مراد موافي. وقد نضيف هنا أيضاً «حزب المصريين الأحرار» الذي يرتبط، ولو على صعيد الزعامة الرمزية ، برجل الأعمال نجيب ساويرس.
5- خليط من قوى وجماعات وشخصيات، بعضها لم يتحدد موقفها بوضوح حتى الآن، مثل «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» الذي يقوده محمد أبو الغار، أو تحدّد موقفها بالمساندة للرئيس السيسي عموماً وإن كانت ضعيفة سياسياً وحركياً، وخصوصاً «حزب التجمع» و»الحزب الناصري» المنشق على نفسه. وقد نضيف قسماً من حركة «تمرد» والذي يقوده محمود بدر وينوي تأسيس حزب باسم «الحركة الشعبية العربية».
ولسوف تحسم الخريطة المحتملة للتحالفات الانتخابية المقبلة لمجلس النواب هوية هذه الكيانات السياسية إلى حد بعيد.
ويلاحظ على التصنيف السابق ما يلي:
1- فيما عدا الاتجاه الثاني بغالبيته الممثلة للإخوان المسلمين وحلفائهم، فإن الاتجاهات الأخرى تمثل «مفكوك» تحالف الثلاثين من يونيو 2013 الذي حفز ودعم الفريق عبد الفتاحي السيسي في 30 يونيو، وكانت نواته المركزية الصلبة ممثلة في شباب حركة «تمرد» وجمهور «جبهة الإنقاذ الوطني»، بالإضافة إلى الكتلة العريضة لشباب ثورة يناير. وسرعان ما أبدت هذه الكتلة الأخيرة انسلاخها عن «التحالف» بعد 3/ 7/ 2013 مباشرة، أي عقب عزل الرئيس الأسبق مرسي، بدعوى أن «الوضع الجديد» سوف يؤسس لدولة بوليسية أو أمنية أو عسكرية جديدة.
2- إن القاعدة العريضة لجماهير الثلاثين من يونيو تكونت من الحشود الشعبية التي مثلت خليطاً متراكماً من اتجاهات عامة وربما غامضة، ويبرز من بينها ما يسمى إعلامياً «حزب الكنبة» ويضم أولئك الساعين إلى نوع من «التغيير المنظم» ذي الاتجاه المحافظ سياسياً، ويصعب أن يطلق عليهم «الاتجاه الرجعي» الذي يسم القوى ذات الطابع «الفلولي» الصريح من أنصار النظام المباركي وبقاياه على صعيد العمل السياسي وضمن طبقة «رجال المال والأعمال».
3- إن الرئيس السيسي، في ضوء تشريح الكيانات السياسية السابقة، يفتقد إلى ظهير سياسي مساند، في غيبة تامة لما يمكن أن يطلق عليه «الحزب الحاكم». ولا يبدو أن هناك أثراً لما أطلق عليه البعض في وقت سابق «حكم العسكر»، فلا عسكر بالمعنى الدقيق في التركيبة الجديدة غير المستقرة لقمة السلطة ممثلة في مؤسسة رئاسة الجمهورية وفي الحكومة الراهنة على المستوى المركزي لمجلس الوزراء على الأقل. وفي غيبة لكيان سياسي حاكم، ولظهير سياسي أو شعبي متبلور، تبدو الفرصة متاحة أمام رئيس الجمهورية ليلعب دور «الحَكَم» – مثل حَكَم كرة القدم – يضبط إيقاع اللعبة السياسية، وربما يوجهها لحظة الضرورة، دون أن تنبع منه قواعد اللعبة ذاتها، ودون أن يتحدد مصيرها ومحصلتها، من لدنه هو ولا تتقرر بإرادته الخاصة. ولسوف تسفر التحالفات الانتخابية القادمة عن مزيد من الوضوح لهذه اللوحة الفسيفسائية المعقدة للحالة السياسية المصرية في الوقت الراهن.
ولكن السؤال الأهم الآن هو: كيف لحاكم مصر القوي، وهو يبني نظامه «الشعبوي» اقتصادياً واجتماعياً داخل البلاد في الفترة المقبلة، ان يواجه معضلات السياسة المحلية والعربية والإقليمية والعالمية؟ وعلى وجه خاص: كيف له أن يعمل على استعادة الدور المؤثر لمصر على الصعيد الإقليمي في مواجهة الأنواء المرتقبة أو ما يمكن أن نطلق عليه (العُقَد المستعصية أمام دور مصر الإقليمي)؟ هذا ما نحاول مقاربته في الفقرة الآتية.

العقد المستعصية أمام دور مصر الإقليمي

يمكن استعراض أهم هذه العُقَد كما يلي:
1- معضلة التعامل مع تيار الإسلام السياسي «المعتدل» والجماعات الإسلامية المتشددة والمسلحة:
كانت أميركا قد رتبت أمورها – فيما يمكن تسميته (مذهب أوباما غير المعلن) - على التعامل مع التيار «المعتدل» للإسلام السياسي السنّي، وعلى رأسه جماعة الإخوان المسلمين في مصر، إضافة إلى حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان، لمواجهة ظاهرة «التطرف الإسلامي المسلح» في الشقّ الموجه إلى أميركا ولو بشكل غير مباشر أو غير عمدي بالضرورة. فإذا بتحرك الجيش المصري وقائده العام، مدعوماً من قطاعات شعبية عريضة في 30/ 6 – 3/ 7/2013 يبطل «مذهب أوباما» في ضربة واحدة قاصمة، فيما يبدو.
ولكن ذلك قد طرح مشكلة تتسم بتعقيد بالغ أمام القائد العام للقوات المسلحة، الذي انتخب رئيساً للجمهورية، حول طريقة التعامل مع الكتلة العريضة لتيار الإسلام السياسي، وجماعة الإخوان المسلمين، وخصوصاً في ضوء استمرار نهج العنف السياسي المسلح وغير المسلح من جانب ذلك التيار وتلك الجماعة، من دون استعداد من الطرفين لقبول «حل وسط تاريخي». ولعل ذلك مما يزكّي السيناريو (الإقصائي) الجزائري للهيمنة في مصر، للأسف، ولمدة مقاربة لما جرى في الجزائر قبل أن يتم اللجوء إلى خيار «الوئام المدني»، أي على مدى خمس سنوات على الأقل. ولكن معضلة التعامل مع التيارات غير الضالعة في العنف، تظل أبرز الملفات المعقدة أمام الجالس على كرسي الرئاسة، بما لذلك من انعكاسات قوية في المحيط الإقليمي والعالمي.
2- مواجهة «كتلة العُقَد» الشرق – أوسطية المتشكّلة على جناحين متقابلين: تركيا وإيران من جهة، والكيان الصهيوني في الجهة المعاكسة. فما خط التعامل الأساسي المناسب إزاء كل منهما؟ إنه خط التعامل مع «المثلث الحرج» لمواجهة «المعادلات الصعبة»، ويتلخص كل منها في سؤال رئيسي على النحو الآتي:
أ – في ما يتعلق بتركيا: كيف يمكن مواجهة «حمولة التوتر» تجاه مصر، والآتية من حكومة «حزب العدالة والتنمية» بقيادة أردوغان وامتصاص هذه الحمولة بالأدوات السيكولوجية والاقتصادية، لتوفير الحد الأدنى للعلاقة مع دولة إسلامية كبرى مرتبطة عضوياً بكل من حلف الأطلسي والسياسة الأميركية في الشرق الأوسط وأوراسيا، وذات علاقة مشدودة الوتر «بالحبل السُرّي» إزاء إسرائيل، كما أنها ساعية إلى نوع من التوازن القلق مع إيران؟
ب- في ما يتعلق بإيران: كيف يمكن التشجيع على إقامة منظومة إقليمية للأمن الاستراتيجي على ضفتي الخليج (عربياً – فارسياً) بشراكة مصرية داعمة للأمن الخليجي من دون افتئات على المطالب الحيوية للأمن القومي الإيراني؟ وأن يتم ذلك في إطار عربي عام، لا يبادر باستعداء الغرب والولايات المتحدة، ولا ينحني أمامهما في الوقت نفسه، والتعامل في ذلك بمرونة وحذق بالغينْ؟
ج- على الجانب المعاكس، في ما يتعلق بالكيان الصهيوني، تبرز الخيارات الضرورية التالية، في المرحلة الانتقالية المقبلة:
أ‌- استعادة التوازن الاستراتيجي والتسليحي التقريبي والنسبي بين إسرائيل ومصر، بما يسمح في الأمد المتوسط بتعديل أحكام «معاهدة السلام»، لا سيما في ما يتعلق بالترتيبات الأمنية والعسكرية لشبه جزيرة سيناء.
ب- المساهمة المصرية الجادة في تحالف عربي عام داعم لتحقيق تسوية عادلة القضية الفلسطينية، تضمن حق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني بما يضمن حقوقه الأساسية وخصوصاً حق العودة، والتمتع بحق السيادة على الأرض والموارد من خلال دولة مستقلة ذات كيان ترابي متصل وقوات مسلحة قادرة على حماية وجودها وأمنها، واقتصاد قادر على الصمود ضمن صيغة للتكامل فى منطقة «الطوق»: مصر وفلسطين والأردن وسوريا ولبنان.
3- معضلة «الصراع على دولة قطر» بوصفها «دولة صغرى غنية» Rich mini-state وبوصفها أكبر دولة عربية منتجة للغاز الطبيعي المسال. إن قطر، بمعنى ما، هي «الجائزة الكبرى» في المنطقة العربية والشرق أوسطية، إذا صح التعبير، يتصارع عليها الجميع: إقليمياً (تركيا، إيران، إسرائيل) وعربياً (السعودية، مصر) وعالمياً (أميركا... الاتحاد الأوروبي والدول الآسيوية). ثم هي تحاول بناء «مراكز للنفوذ» لدى الجميع، خصوصاً لدى الولايات المتحدة، بالتداخل في ترتيبات الوضع الأفغاني والعراقي مثلاً، ولدى عدد من الدول العربية الخليجية واليمن، بدعم أفراد أو جماعات من تيار الإسلام السياسي بمعناه العريض، وربما بعض جماعات المعارضة؛ ثم لدى دول عربية أخرى: بدعم بعض الجماعات السياسية كجماعة الإخوان المسلمين وأنصارها في مصر - وإلى حد ما فى تونس والسودان - وبعض المجموعات المسلحة في كل من سوريا وليبيا.
وسوف يمثل التعامل مع هذه «العقدة المستعصية»، أحد الاختبارات الصعبة، في الفترة المقبلة، أمام الرئيس الجديد، إضافة إلى ما استعرضناه من عُقد أخرى مهمة، في إطار الوضع السياسي ذي الطابع الفسيفسائي المتحول.
* أستاذ في معهد التخطيط القومي ــ القاهرة