عيوبٌ كثيرة تشوب الحركة الوطنية الفلسطينية وتجعل الأزمة التي تعانيها نتيجة منطقية. فالأزمات، في الحركات السياسية، لا تنشأ من فراغ، بل غالباً لأسباب من صنع المعنيين بهذه الحركات، وبالذات الهيئات القيادية. صحيحٌ أنّ ظروفاً موضوعية مفاجئة قد يكون لها تأثيرٌ كبير على مسيرتها، من ناحية تحقيق الأهداف، لكنّها لا يمكن أن تكون سبباً رئيسيّاً لأزمة داخلية. فهذا النوع من الأزمات يعود بالأساس إلى خللٍ ذاتي، قد يكون بنيويّاً أو برنامجيّاً أو تنفيذيّاً، إضافة إلى عوامل أخرى؛ من ضمنها ما يتعلّق بالمصالح الطبقية، الفئوية والشخصية، وبالارتباطات بجهات خارجية على حساب المصالح الوطنية. وبحسب اعتقادي، فإنّ من أسباب هذه الأزمة، أن القوى الفلسطينية أساءت التعامل مع «المرحلية»، وارتكبت أخطاء فادحة في تطويرِ برامج مرحلية تشقُّ الطريق نحو الهدف الاستراتيجي. أكثر البرامج المرحلية شهرة في الساحة الفلسطينية، وربما يكون الوحيد، هو البرنامج الذي أقرّته «منظمة التحرير» عام 1974. إذ اعتبرت القيادة الفلسطينية أن حرب 1973 فتحت المجال لإقامة دولة في الأراضي المحتلة عام 1967، لأن الانسحاب الإسرائيلي منها بات غير بعيد المنال. كان التفاؤل بهذا كبيراً إلى درجة أن الأمين العام لأحد التنظيمات اليسارية أكّدَ أنّ هذه الدولة قادمة خلال خمس سنوات فقط. أمّا اليوم، وبعد مرور أكثر من نصف قرن على تبنّي هذا البرنامج، وتحويله إلى هدفٍ استراتيجي لدى القيادة الحاكمة، فإن معظم التنظيمات الفلسطينية لا تزال تنادي به وتبني سياستها على أساسه. ففي عام 2017، تبنّت «حماس» رسميّاً إقامة الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع وإقامة هدنة طويلة الأمد مع الكيان الصهيوني. وأخيراً، حافظت «الجبهة الشعبية» على إدراجه في وثائق مؤتمرها الثامن الذي عُقِدَ هذه السنة. كما أن هذه «الدولة»، تشكّل الهدف الذي تُجْمِع عليه التنظيمات على اختلافها عند إجراء الحوارات الوطنية وإنجاز أي اتفاق لحل أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية.

في مفهوم البرنامج المرحلي
البرنامج المرحلي هو ذاك البرنامج الذي يستجيب لمتطلبات مرحلة معيّنة، منظورة المدى، لتحقيق هدفٍ أو مجموعة أهدافٍ على طريق تحقيق هدفٍ استراتيجي. والمرحلية لازمة من لوازم النجاح في تحقيق الأهداف الاستراتيجية. هنا لا بد من التمييز بين الهدف والبرنامج؛ فالهدف هو ما يُراد تحقيقه، أمّا البرنامج فإنه يتضمّن، إلى جانب الهدف، خطة عملٍ لتحقيق ذلك وأشياء أخرى. فلو نظرنا إلى برنامج 1974 المرحلي، لما وجدنا فيه سوى هدف إقامة السلطة الوطنية (الدولة المستقلة، لاحقاً) مضافاً إليه بعض المواقف والضوابط المرتبطة بالتوصّل إليه. لذلك، لا يصُحُّ تسميته برنامجاً.
استناداً إلى ما تقدّم، يمكننا القول إن لكلِّ مرحلةٍ برنامجها الخاص المناسب. وعندما تحصل تغييرات كبيرة أو جوهرية في الظروف تتغيّر طبيعة المرحلة. تِبعاً لذلك، يجب أن يتغيّر الهدف المرحلي وبرنامج تحقيقه. وهنا يبرز السؤال المحرج؛ هل مرحلة السبعينيات هي نفسها مرحلة العشرينيات من هذا القرن؟ وهل مرحلة ما بعد حرب أكتوبر 1973 هي نفسها ما بعد اجتياح إسرائيل للبنان 1982 أو ما بعد أوسلو؟ وهل بداية مرحلة أوسلو تشبه ما نعيشه اليوم؟ بالطبع لا، وهذا واضحٌ كالشمس ولا يحتاج إلى نقاش. إذاً، لماذا لا نزال نتبنّى البرنامج ذاته؟ إنّ سمة كلّ ما هو مرحلي هي التَّغَيُّر والتَّبَدُّل، بحسب المستجدّات، ليكون في خدمة ما هو استراتيجي بأفضل الممكن. المرحلي غير مقدّس، ويصبح تعديله ضروريّاً لتحقيق ما هو استراتيجي. ما حصل لدى منظّماتنا الفلسطينية أنها ضربت عرض الحائط بكل هذا، فقامت بتحويل المتغيّر إلى ثابت، وغير المقدس إلى المقدّس، والعكس صحيح. لذلك حصلت إخفاقات كبيرة؛ فلا هي حقَّقت الهدف المرحلي ولا اقتربت من الهدف النهائي.

نحو أهداف وبرامج مرحلية واقعية
بناءً على ما سبق، أرى أنه صار لزاماً على التنظيمات الفلسطينية أن تصوغ أهدافاً وبرامج مرحلية مناسبة، حتى تضمن أنّها تسير بثبات نحو الهدف الاستراتيجي، المتمثّل بتحرير فلسطين وتمكين شعبها من ممارسة حقه في تقرير مصيره. إنّ معنى الواقعية، هنا، هو أن نضع، في كل مرحلة من المراحل، أهدافاً ممكنة الإنجاز وتمهّدُ لتحقيق الهدف النهائي. فالواقعية ليست نقيضاً للثورية، بل هي ضرورة من ضرورات العملية الثورية. إنها الواقعية الثورية.
تفقدُ البرامج المرحلية أهميتها إذا كانت غير قابلة للتطبيق في ظروفها الخاصة، وتتحوّل إلى عبءٍ معيق للسير إلى الأمام. فهل كانت فكرة إقامة الدولة في الضفة والقطاع قابلة للتحقيق؟ لنجرِ فحصاً سريعاً لكيفيّة إنجاز هذه الفكرة:
- إذا كان المقصود بهذا المشروع أن يتحقق عن طريق التحرير المباشر بالقوة العسكرية، فيجب أن يكون لدينا خطة لامتلاك القوة العسكرية المؤهلة للتفوّق على العدو، والانتصار عليه، وفرض انسحابه مكرهاً. في هذه الحالة، قد ينسحب العدو من دون قيد أو شرط وبدون اتفاق معيّن. وقد ينسحب بناءً على اتفاقٍ يعكس ميزان القوى المحلية والإقليمية والدولية. فهل كانت شروط نجاح هذا الخيار متوفّرة؟ بالتأكيد لا.
- أمّا إذا كان تحقيقه سيتم عن طريق المفاوضات برعاية دولية، فلا بد من التذكير بأن نجاح أسلوب المفاوضات يرتبط بوجود رغبة أطراف النزاع في التوصّل إلى حلٍّ يرضي الجميع. أو أن يكون المجتمع الدولي قد صمّم على حلٍّ ما، ولديه الاستعداد لفرضه على الأطراف المعنية. ولتقوية موقفها التفاوضي، غالباً ما تلجأ أطراف النزاع إلى ممارسة العنف، في حدودٍ معيّنة لا تؤدّي إلى تعطيل المفاوضات، وكذلك استخدام أنواع الضغوط السلمية كافة (الشعبية والقانونية وغير ذلك) ونفوذ الحلفاء الدوليّين. فهل كان هناك، أو هل يوجد الآن، خطة فلسطينية لهذا الخيار التفاوضي، وما هي؟
إضافة إلى ما سبق، لا بد من النظر إلى طبيعة المشروع الصهيوني التي لا تتقبّل الحلول الوسط. فهذا المشروع قائمٌ على إلغاء أيّ كيانية للشعب الفلسطيني، ولا يمكن أن يتصالح مع حقّ السكان الأصليين في تقرير مصيرهم. وتترسّخ هذه الطبيعة الإلغائية مع الزمن ومع التزايد السكاني للفلسطينيين في أراضي 1948. وكانت تجربة أوسلو المريرة دليلاً صارخاً على ذلك؛ فبالرغم من كل ما وفّرته الاتفاقية للكيان من تفوّقٍ حاسم على الطرف الفلسطيني ومن ضمانات أمنية، وبالرغم من الظروف الدولية والعربية الفُضلى التي تصبّ في مصلحته، أصرّت إسرائيل على متابعة سياسة الهيمنة المطلقة والإلغاء. وبناءً على هذا، نستنتج أن هذا الهدف غير قابل للتحقيق في ظل طبيعة الكيان هذه.
خلاصة القول، إن من أسباب فشل الحركة الوطنية الفلسطينية في تحقيق إنجازات راسخة تمهّدُ للتحرير، وكذلك استمرار وتفاقم أزمتها، هو عقم سياستها المرحلية.

* كاتب وباحث فلسطيني