حديثنا هنا عن مذكّرات صائب سلام التي صدرت للتوّ في ثلاثة أجزاء بعنوان: «صائب سلام: أحداث وذكريات». وقلتُ من قبل إن الأجزاء الثلاثة هي يوميّات دوّنها صائب ونشرتها العائلة كما هي من دون تصحيح أو تنقيح أو تحرير، مع أنها تنقل صورة معبّرة عن مكنونات صائب سلام وتفكيره في محطات تاريخيّة مهمّة شارك هو في صنع بعضها.وهناك جانب طريف في المذكرات في وصف استعدادات الفريق الإسلامي في الحرب الأهليّة في 1958. يكتشف القارئ مثلاً أن المؤرخ الفلسطيني المعروف، وليد الخالدي، كان يقود الشباب المسلّح في منزل صائب (ص 307، ج 1. ووليد الخالدي تزوّج شقيقة صائب، رشا، فيما كان والده، أحمد سامح، متزوِّجاً شقيقة صائب، عنبرة ـ أخذتني سنوات قبل أن أعرف صلة القرابة هذه بين وليد الخالدي وصائب سلام). ويبدو الفريق الإسلامي والعروبي مفتقراً إلى الاستعداد والتجهيز. ويقول صائب إن المساعدات المصريّة (كم بالغ نظام شمعون - شارل مالك وضخّمَ في أمر المساعدات المصريّة لـ«الثوّار»، وكانوا يشكون ذلك إلى مجلس الأمن بدعم أميركي) لم تكن ماديّة بقدر ما كانت «معنويّة» (ص. 309، ج 1). ويبالغ صائب في الاستعراض، إذ يقول إنه لم يستطع تغيير ملابسه أثناء الثورة وإنه بقي «بقميص سبور وبنطلون» طوال أيام «الثورة». هل من المعقول أن صائب لم يجد من الوقت ما يسمح له بتغيير الملابس طوال الثورة؟ حتى لينين كان يغيّر ملابسه في الثورة الروسيّة. وهناك صورة استعراض شهيرة لصائب أثناء تظاهرات أيّار 1957 حيث يظهر ببوزات مختلفة والضمادة على جبهته بعدما تلقّى ضربة من عقب بندقيّة أحد الجنود. لكن صائب كان قد وجّه صفعة لقائد المجموعة «كسرتْ له إحدى أسنانه ووقعتْ قطعة منها أرضاً» (ص. 284، ج 1). والفارق بين الاستعداد القتالي والإعلامي لـ«الكتائب» (مقارنة بالطرف الآخر) يظهر في عام 1958 ويتكرّر في عام 1975. وكان «الكتائب» أوّل من أطلق إذاعة خاصّة في حرب 1958، فيما كان الصف الإسلامي العروبي مبعثراً وغير منظّم، حتى إن صائب تدخل أكثر من مرّة لوقف المشاجرات وإطلاق النار بين المسلّحين في الصف الواحد (ص. 309، ج 1).

وجاء المبعوث الأميركي، روبرت مورفي، إلى بيروت والتقى بصائب الذي يزعم أنه بعدما مشى إلى المكان المحدّد (من قبل مورفي) سيراً على الأقدام، بادره الأخير بالقول إنه «الوحيد، من بين الذين قابلهم، القادر على اتخاذ القرار» (ص. 320، ج 1). لكن كالعادة، روايات صائب لا تتطابق مع الأدلة التاريخيّة. يقول مورفي في روايته «دبلوماسي بين متحاربين» إنه التقى صائب في البسطة (ص. 508) ولا يقول عن اللقاء أكثر من ذلك. ويعترف صائب بأنه زكّى ترشيح فؤاد شهاب، لكنه سرعان ما ندم على قراره. ويقول: «وكم ندمتُ على موقفي من الإصرار على انتخاب فؤاد شهاب، عندما علمتُ في ما بعد بالمعاناة الشخصيّة، ما كان يتّصف به… من ضعف في الثقافة، وتعصّب، بالإضافة إلى ضيق صدره، واتجاهه الحاقد ضدّ المسلمين، على الرغم من السمعة غير الصحيحة من أنه صديق المسلمين» (ص. 323، ج 1). وبالرغم من أنني أوافق صائب في تقييمه لفؤاد شهاب، إلا أنه يجعلنا نشكّك في حكمته السياسيّة لأنه يعترف أكثر من مرة بأنه يختار شخصاً ما لمنصب وسرعان ما يكتشف بأن قراره كان غير صائب (مثل سليمان فرنجيّة أو رشيد كرامي أو عثمان الدنا أو إبراهيم قليلات). كان الأجدر بصائب أن يعترف بأن الخبرة أو الصوابيّة في اختيار الأشخاص للمناصب كانت تنقصه. وصائب على حق في أن شهاب كان «العامل الأكبر» في تعطيل الديموقراطيّة في لبنان من خلال «المكتب الثاني».
ويقول صائب إنه عارضَ سياسات شمعون «السافرة» (ص. 291، ج 1) لأنها كانت «معادية للخطّ العربي ومنساقة مع مشروع أيزنهاور الاستعماري». لو كنا نعرف أن صائب في سرّه كان معارضاً للاستعمار الغربي إلى هذه الدرجة لطالبناه بالانضمام إلى صف اليسار. (لكن عداء صائب للسياسة الأميركيّة لم يمنعه من قبول مهمة أميركيّة للقاء محمد مصدّق في طهران—بإيعاز من صاحب شركة «بان آم»—وذلك لتسهيله بيع النفط الإيراني لأميركا. وكان صائب يرسل رسائل بالشيفرة إلى أميركا لموافاة الأميركيّين بنتائج الزيارة، لكنهم لم يردّوا عليه -ص. 245، ج 1). ويقول إنه رفض عرضاً من قبضاي بيروتي (يربطه بعبد الله اليافي على طريقته في «التنقير» على اليافي، ولنا عودة أدناه) لقتل شمعون لأن صائب «لا يسمع لأحد بأن يكلّمه بمواضيع الإجرام». وحاول الملك سعود التخفيف من معارضة شمعون من قبل سلام واليافي والعويني (أقرب حليف سنّي للنظام السعودي قبل ظاهرة رفيق الحريري) واستدعاهم إلى عمّان في طائرته الخاصّة ونقل إليهم «تهديدات صريحة» لهم ولعائلاتهم من شمعون (ص. 292، ج 1). ويقول صائب إنه واجه سعود بحزم، لكن اليافي والعويني استاءا من مواجهته للملك مع أن سلام (لا اليافي) كان معروفاً بودّه وقربه من النظام السعودي على مرّ السنوات.
وبالرغم من أن صائب وعائلته نبذا الفرقة الطائفيّة والمذهبيّة، إلا أن صائب في الحملات الانتخابيّة لم يكن يتورّع عن التأجيج الطائفي ضد خصومه. يفعلها في المذكرات أيضاً، وخصوصاً ضد عبد الله اليافي. يحقد صائب كثيراً على اليافي ولا يفوّت مناسبة للتجريح به، ولربطه بالاستعمار الفرنسي حيناً وبـ«المسيحيّين» حيناً آخر. يقول صائب: «كما حصل مع عبد الله اليافي الذي أصبح—مع غيره من المسلمين، من أمثال رامز المخزومي…وبدر دمشقيّة…محسوباً على المسيحيّين، فخسروا جميعاً قواعدهم الشعبيّة عند المسلمين، وبالتالي دورهم في تحقيق الوفاق الوطني» (ص. 293). لكن التعيير بالربط بالمسيحيّين يتنافى مع دعوات صائب العلنيّة (وحتى في بعض أقسام اليوميّات) للوفاق الإسلامي - المسيحي. ثم، إذا كان عبد الله اليافي قد خسر قواعده الشعبيّة، فلماذا نغّص على صائب حملاته الانتخابيّة كل هذه السنوات وفاز عليه بعد الأصوات في انتخابات 1968؟
ولا يكتفي صائب بالتجريح بعبد الله اليافي، فهو لم ينفكّ في اليوميّات عن ذمّ رشيد كرامي ويزعم أن رشيد أرسل له بطرس ديب (شغل مناصب عدّة؛ منها سفير في الفاتيكان ومدير في القصر الجمهوري ورئيس للجامعة اللبنانيّة) كي يبلغ صائب برغبته في إنهاء الحركة السياسيّة وأن رشيد «لم يعد يحتمل الوضع» (ص. 315، ج 1)، وأنه «مصّمم عقب نهاية الأحداث على ترك العمل السياسي ومغادرة لبنان». ويقول صائب إن كرامي لم يكن يتحمّل الصدام في طرابلس، وكعادة صائب في سوق الاتهامات، يتهم كرامي بعلاقة سريّة مع شمعون، إذ يقول «بل كان على اتصال دائم بالمسؤول الشمعوني الأمني هناك» (ص. 315، ج 1). ولا يذكر صائب مصدراً لهذا الاتهام الخطير في زمن «الثورة». ويعود صائب ويكرّر في اليوميّات التذكير بضعف وانهيار كرامي تدليلاً على ضعف شخصيّته مقارنةً بصائب الصلب (ينفي مصدر معروف، وكان قريباً جداً من كرامي، صحّة اتهام صائب). ويقول صائب إن محمود الدنا كان مؤيّداً لفوزي الحص (الذي يتهمه بالعمالة للمخابرات الأميركيّة، كما أسلفتُ، وبالشمعونيّة)، لكنه يضيف إن الدنا كان «ينتسب للحركة الناصريّة» (ص. 315، ج 1.) كيف تستقيم هذه؟
صائب على حق في أن شهاب كان «العامل الأكبر» في تعطيل الديموقراطيّة في لبنان من خلال «المكتب الثاني»


ويستعر الخلاف بين صائب واليافي في انتخابات 1960. يقول صائب إن عبد الحميد السرّاج ضغط من أجل أن ينضمّ سلام واليافي إلى قائمة واحدة في دائرة بيروت الثالثة. ويقول صائب إن «المشير» (أي عبد الحكيم عامر) فرض ترشيح رشيد الصلح على القائمة. رفض صائب ذلك وثار على سفير مصر في لبنان، عبد الحميد غالب. ويقول صائب إنه خيّر اليافي بين الاستمرار في المعركة الانتخابيّة معه أو ضدّه، إلا أن اليافي اختار العمل معه. لكن صائب لا يقول الحقيقة كاملة. يخفي أن اليافي كان رئيس القائمة. وعائلة عبد الله اليافي لا تزال تذكر تلك الانتخابات، وهي التي أحدثت الشقاق الأبدي بين اليافي وسلام. لقد اطلعتُ على رواية عبد الله اليافي من خلال نسخة من جريدته «السياسة» وقد صدرت بافتتاحيّة (لأسعد المقدّم الذي كان رئيس تحريرها) بعنوان «اسمع يا غياث وعِ كيف يكون الوفاء وكيف يكون الغدر والخيانة». صُدمَ فريق اليافي في سقوط المرشح الذي كان يرئس القائمة. اعتبرت عائلة اليافي ومؤيّدوه أن صائب خان اليافي. وتقول افتتاحيّة «السياسة» إن اليافي تلقّى «طعنات» من سلام من قبل، لكنه سكتَ عليها. وعبد الله اليافي على حقّ في أنه وزّر سلام في حكومة ألّفها في عهد شمعون، بالرغم من معارضة الأخير (هل يمكن تصوّر أن يعمد صائب إلى توزير عبد الله اليافي في حكومة برئاسته؟) وكان التوافق بين اليافي وسلام على كلمة شرف للإيعاز إلى المؤيّدين بتأييد القائمة كما هي—أي من دون تشطيب. هنا، تتوافق رواية اليافي، بطريقة غير مباشرة، مع رواية سلام. سلام ينسب إلى اليافي قوله إن عبد الله المشنوق هو «مسلم زيادة». لكن اليافي في جريدته تمنّع عن استعمال المصطلح (في الردّ على اتهام سلام) فقال تعفّفاً «… زيادة». ويقول صائب إن وصف المشنوق هذا شاعَ بين الناس. وصائب صريح في كلامه أنه كان يعتبر (ويشيع) عن اليافي أنه أداة بيد المسيحيّين، أي أن سلام وحده يمثّل الطائفة حقّ تمثيل. ويقول صائب (من دون دليل) إن زوجة اليافي وشقيقه زارا مسيحيّي حي المزرعة وتنصّلا من «الثورة». لكن اتهام اليافي وأنصاره لسلام يزداد صدقيّةً في يوميّات صائب، إذ إن الأخير يقول إنه حذّر اليافي من أنه سيجد صعوبة في السيطرة على أنصاره «وردود فعلهم ضدّك» إذا ما استمرّت التصرّفات التي يستنكرها صائب. كما أن صائب يعترف بأن عبد الله اليافي تلقّى نسخة من لائحة مطبوعة وفيها اسم اليافي مشطوب. كما يعترف صائب بأن اليافي اتصل به على الفور مستفسراً بعد العثور على اللائحة المطبوعة، لكن صائب يقول إن ذلك محض اختلاق، وإن اليافي هو الذي «أوعز إلى جماعته وناخبيه» بشطب اسم صائب. لكن صائب فاز وسقط اليافي. ويقول لي مصدر في عائلة اليافي إن زوجة اليافي عندما قصدت بيت صائب رأت بنفسها لوائح وقد شُطبَ منها اسم عبد الله اليافي، وكان أوّل اسم في اللائحة. وصائب يعود في مكان آخر من اليوميات ليعترف بالتشطيب ويقول إن أنصاره شطبوا اسم اليافي لأن أنصار اليافي شطبوا اسمه ولأن «شعوراً» راودَ مؤيّدين بأنه يفضِّل عبد الله المشنوق على اليافي. لكن من أين لأنصاره هذه الشعور إذا لم يكن هو قد نقل شعوره إليهم؟ وحيلة صائب في نسب وصف المشنوق بـ«مسلم زيادة» لليافي أصاب عصفوريْن: هو أضرّ باليافي في الوسط الإسلامي وزاد من رصيد المشنوق في نفس الوسط. ولا يعطي صائب تفسيراً لموقف اليافي (أي حنقه) بعد تشطيب اسمه غير نسب ذلك إلى «جملة مشاكل تعود إلى مواقف اليافي المعروفة في الظروف الحرجة» (ص. 348، ج 1). أي أن صائب يلجأ كعادته إلى أسلوب الغمز واللمز والتلميح في الذم والتشهير بالخصوم. لا بل يقول صائب إن اليافي اعتصم في مكتبه وبكى. لكن كيف له أن يعرف ذلك وهو لم يره؟ وهذه الانتخابات كانت مهمّة جداً لسلام لأنه كان يعلم أن الفائز بها كان سيُكلَّف بتأليف الوزارة: ومّما يؤكّد ذلك (استماتة صائب في الفوز وفي إسقاط اليافي) أن صائب اتصل آنذاك بابن شقيقه هاني في الكويت وألحّ في طلب تحويل المال له لدعم حملته الانتخابيّة وصرّح له بأن نجاحه سيضمن وصوله إلى رئاسة الوزارة (وبالفعل، استجاب هاني سلام لطلب صائب وحوّل له مبلغ 20 ألف جنيه استرليني. مصدري هنا هو هاني سلام نفسه).
ولم تنحصر خلافات صائب باليافي فقط، فهي شملت أيضاً عثمان الدنا وسليمان العلي. وكالعادة، يريد صائب منا أن نصدّق أنه ساعد كل خصومه، لكن هؤلاء كانوا جاحدين وناكري جميل. يقول إن عثمان الدنا كان يلازمه كظلّه ويرافقه (ويبدي استعداداً للجلوس قرب السائق لو اصطحبه سلام في زيارة إلى سوريا، ص. 354، ج 1) وأن صائب «جعله» وزيراً، لكن الدنا خذله ويقول صائب في هذا: «ويا لندمي على ما فعلت». ما هذا؟ صائب يساعد الجميع والكل يخذل صائب ولا يقدّر له جميله. مسكين صائب سلام، كم كان مظلوماً، وكم كان كل خصومه—السنّة خصوصاً—ظالمين له.
ويلعب سلام دوراً في السياسة العربيّة وهو يُصلح بين الزعماء العرب، وأقنع الملك حسين بعدم إلقاء خطاب ضد عبد الناصر (ص. 361، ج 1، مع أنه في أماكن أخرى في الكتاب يقول إن عبد الناصر كان يكنُّ ودّاً نحو الملك حسين ويفاضله بين الحكام العرب). لكن صائب يشطّ كثيراً ويفرط في مدح الذات والمفاخرة عندما يزعم أنه من مؤسّسي فلسفة الحياد الإيجابي (ص. 366، ج 1). ليس هناك من أي دليل على ذلك، إلا إذا كان ذلك بناءً على حضوره المؤتمر ممثلاً لبنان. وتظهر في الكتاب ألاعيب ومراوغات السياسة الخارجيّة للبنان في حقبة ما قبل الحرب الأهليّة. فقد كان هناك قرار لمصلحة فلسطين في الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة في عام 1960 وكان لبنان وإسرائيل وحيديْن (حسب صحف لبنان يومها) في رفض القرار. لكن صائب سلام يعطي سبباً غير مقنع البتّة في تفسير امتناع لبنان عن التصويت، إذ يلوم في ذلك السفير رامز الشمّاع الذي لم يحضر الجلسة لأنه قرَّرَ أنه لن يصدر عنها قرارات مهمّة. لكن لماذا تغيّب صائب عن جلسة مهمّة فيها تصويت عن فلسطين؟ جوابه أنه تغيّب لأنه كان يلبّي (مع جميع أعضاء الوفد) دعوة عشاء عند القائم بالأعمال اللبناني، خليل مكّاوي (ص. 369، ج 1). يقول صائب إنه أصرّ على الشمّاع بالحضور. لكن لماذا لم يكلّف أكثر من شخص للحضور ضماناً لتصويت لبنان؟ هنا، يُشتبه في أن لبنان كان، كعادته، يساير الإدارة الأميركيّة في مهادنة إسرائيل، كما كان مسار السياسة الخارجيّة للبنان قبل الحرب الأهليّة. وشنّت الصحف المصريّة حملة ضد لبنان بسبب ذلك وحمّلت صائب (وعن حقّ) المسؤوليّة عن خذلان لبنان للقضيّة الفلسطينة في المحفل الدولي. أمّا في موضوع التصويت مع «الصين الشعبيّة» فيعترف صائب بأنه امتنع عن التصويت (لمصلحة الصين الشعبيّة) من أجل «التضامن الوطني على حساب قناعتي الشخصيّة» (ص. 370، ج1). هنا مرّة أخرى يظهر لبنان أسيراً لسياسة أميركا، بالرغم من حجج واهية لصائب.
ويتحدّث عن خلافه مع بورقيبة لأنه شنّ حملات ضد الناصريّة (ص. 383، ج1) وبسبب دعوته للصلح مع إسرائيل وقبول قرار التقسيم. لكن صائب (في السرّ لا في العلن) يبدي تأييداً لمواقف بورقيبة التي عارضها في العلن ويقول: «ويا ليتنا—مع جميع العرب—قبلنا ما قاله بورقيبة ووافقنا على ما طالب به من سياسة واقعيّة لكنّا وفّرنا على أنفسنا ما أوصلنا إليه الصراع العربي - الإسرائيلي اليوم من عنتريات وقسوة، بينما العرب أصبحوا يتمنّون الصلح مع إسرائيل ومن موقع الضعف المتناهي». لم يوصلنا الصراع مع إسرائيل إلى البؤس، بل إسرائيل من خلال عدوانها واحتلالاتها هي التي أوصلتنا إلى البؤس، بالإضافة إلى أصحاب المواقف الخانعة في مواجهة إسرائيل، وصائب منهم (سنذكر كيف ردّ صائب على مبادرة السادات، بالرغم من تضليل صائب في المذكرات حول ذلك).
ويروي صائب جانباً غير معلوم عن حقيقة الجلسات الحكوميّة في عهد شهاب. ووصف صائب لشهاب ولمنحاه الطائفي يتناقض مع صورة منزّهة عنه رسمتها الأجهزة الشهابيّة مذّاك. لم يكن شهاب القديس المترفّع كما يصفه مريدوه وبعض الشباب على مواقع التواصل. لم يكن شهاب يتورّع عن زرع الشقاق بين السنّة والشيعة (ص. 373، ج1). والشيعة الذين كانوا في فريق الشهابيّة، مثل محمد صفي الدين، لم يكونوا صنّاع قرار بل كانوا مثل الرجل الأسود في حكومات الحزب الجمهوري. ويقول صائب «كنا نتجادل كأولاد صغار وبصراخ عال». ولامَ شهاب السنّة على غياب التمثيل الشيعي كأنه كان للسنّة أيّ سلطة قرار في جمهوريّة ما قبل الطائف.
ومن القضايا المهمّة التي يتحدّث عنها صائب هي قضيّة جامعة بيروت العربيّة. وقف فؤاد شهاب وكل فريق زعماء الموارنة الانعزاليّين ضد الاعتراف بكليّة حقوق للجامعة العربيّة لأنهم—هكذا ببساطة وصفاقة طائفيّة—عارضوا نشر التعليم بين المسلمين. إن زرع مدارس الإرسالية أفاد المسيحيّين أكثر من المسلمين وأعطاهم حظوة كفاءة (لم تكن وحدها مُقرِّرة) ولم يرد زعماء الموارنة أن يؤدّي انتشار التعلّم عند المسلمين إلى تعيين المزيد من المسلمين في دوائر الدولة. يومها، زعم شهاب وفريقه الطائفي أن كليّة الحقوق في الجامعة العربيّة ستخرّج «طلاباً دون المستوى المطلوب» (ص. 377، ج1). ونفس هؤلاء عارضوا معادلة شهادة التوجيهيّة، لا بل عارضوا إنشاء جامعة لبنانيّة—وهي تأخرت كثيراً في الإنشاء مقارنة بالجامعة في الدول العربيّة. العامل الطائفي كان المقرِّر في ذلك، والإسلاموفوبيا كانت في العقيدة المؤسّسة لجمهوريّة لبنان الكبير.
(يتبع)

* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@