هناك تشابه بين ميخائيل غورباتشوف، آخر أمين عام للحزب الشيوعي السوفياتي (1985-1991)، وبين آخر القياصرة الروس، أي نيقولا الثاني، من حيث صفات «النقص في وعي الأحداث»، بحسب تعبير أحد الجنرالات القريبين منه، ومن حيث وصف تروتسكي له بعدم قدرته على تلمس «الجزر التاريخي الذي كانت أمواجه الهادرة تقترب من باب القصر يوماً بعد يوم» (الاستشهادان من كتاب ليون تروتسكي: «تاريخ الثورة الروسية»، الجزء الأول، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1971). يمكن أن نجد شبيهاً ثانياً بغورباتشوف هو الملك لويس السادس عشر الذي قامت الثورة الفرنسية عام 1789 ضده. ويبدو، هنا، أن زوال نظام دولة، أو حلول خريفها، تظهر ملامحه في صفات وسلوكيات وسياسات قائد تلك الدولة الأخير. فعندما يتداعى نظام، أو يقترب من الموت، فإنه يفرز قائداً متداعياً من حيث الإمكانيات الشخصية.

الآن، ومع وفاة غورباتشوف يكون قد مضى ثلاثون عاماً وثمانية أشهر على إعلانه تفكك الاتحاد السوفياتي في يوم 26 كانون الأول 1991، ولكن ما زال هناك شيوعيون يتوزعون في تفسير ذلك الانهيار للماركسية السوفياتية؛ إمّا في كونه «مؤامرة خارجية» أو «ناتجاً من مجموعة أخطاء في التطبيق، منها غياب الديموقراطية». ويمكن لحتى اللحظة الراهنة أن لا يستطيع هؤلاء تفسير ما قاله نورمان ماكراي، نائب رئيس تحرير مجلة «الإيكونوميست» في مقاله عن «إرث ريغان»، في عدد 27 كانون الأول 1980، عن توقع الانهيار السوفياتي، عندما كتب الكلمات التالية من العدد المذكور: «لو أن التطورات استمرت على زخمها الاجتماعي والاقتصادي الراهن، مما يجب أن يرصد من قبل أي جهاز يملك ذكاء كافياً لكي يصاب بالفزع، فإن مجمل النظام السوفياتي المتعفن يمكن أن يواجه ثورة على طراز عام 1789 قبل عام 1989».
على الأرجح أن ماكراي كان يفكر بما قاله كارل ماركس في مقدمة كتابه: «إسهام في نقد الاقتصاد السياسي»: «تتناقض قوى المجتمع الإنتاجية المادية، في مرحلة معينة من نموها، مع علاقات الإنتاج القائمة أو مع علاقات الملكية التي ترعرعت في صميمها حتى ذلك الحين، وهذه العلاقات الأخيرة ليست سوى التعبير الحقوقي عن علاقات الإنتاج، وتتحول هذه العلاقات من أشكال لنمو القوى الإنتاجية إلى عوائق في وجه هذه القوى، وعند ذلك يفتح عهد من الثورة الاجتماعية ويزعزع التغير في القاعدة الاقتصادية البنية الفوقية الضخمة زعزعة متفاوتة السرعة». حيث يمكن هنا تطبيق نظرية ماركس عن تناقض قوى الإنتاج مع علاقات الإنتاج على تجربة الماركسية السوفياتية، من حيث أن نموذج رأسمالية الدولة في الاقتصاد المترافق مع نموذج الحزب الواحد للبنية السياسية الدولتية، الذي أقيم في عهدي لينين وستالين، قد أنشأ بنية اقتصادية-اجتماعية-ثقافية متطورة تم فيها تجاوز البنى الماقبل رأسمالية في روسيا.
ولكن هذه البنية، ومنذ عهد خروتشوف 1953-1964، قد بدأت معالم ظهور افتراقها عن «رأسمالية الدولة» و«الحزب الواحد»، ولكنها لم تكن قد بلغت من القوة بما يمنع عودة الستالينية بطريقة جديدة مع بريجنيف 1964-1982 الذي أسكت الداخل بالقمع المرفوق مع نجاحات في السياسة الخارجية. وعندما مات بريجنيف وجاء أندروبوف 1982 ثم تشيرنينكو عام 1984 ثم خروتشوف في 1985 كأمين عام للحزب فقد كان واضحاً مقدار الهوة السحيقة بين البينية الاقتصادية-الاجتماعية-الثقافية وبين نموذج النظام السوفياتي القائم على ركيزتي «رأسمالية الدولة» في الاقتصاد من حيث أنها المالك الرئيسي للقوى الاقتصادية المنتجة و«الحزب الواحد» في إدارة السلطة السياسية للمجتمع. وهو ما ترافق منذ آذار 1983 مع طرح الأميركان لمشروع «حرب النجوم» الذي كسر تقنياً إمكانية الردع النووي المتبادل بين العملاقين الأميركي والسوفياتي منذ عام 1949 مع وصول موسكو للقنبلة النووية. حيث كان ممكناً عبر نجاحات في السياسة الخارجية، كما في عهد بريجنيف، منع تصادم البنيتين المتفارقتين أو تأجيله.
يمكن استحضار عبارة الجنرال الروسي عن نيقولا الثاني: «النقص في وعي الأحداث»، لتطبيقها على غورباتشوف


ولكن مع الاختلال في التوازن الدولي لصالح واشنطن منذ عام 1983 اختار الكرملين، الذي كان واعياً لمقدار الهوة بين القيادة والمجتمع السوفياتيين، فتح كوة أو فتحة في السد عبر بيريسترويكا (إعادة البناء) وغلاسنوست (المكاشفة) ميخائيل غورباتشوف منذ نيسان 1985. ولكن البيريسترويكا لم تستطع أن تعبر عن قوى اجتماعية، وإنما استغلت قوى اجتماعية ظرف البيريسترويكا بما أتاحه من حريات من أجل التعبير عن ذاتها عبر الليبرالية (يلتسين) أو عبر اتجاهات قومية ظهرت في روسيا وأوكرانيا وببقية الجمهوريات السوفياتية. وبينما ظل المحافظون الشيوعيون يتمتعون بقوة في الجهاز السلطوي وعند قوى كثيرة في الجهاز الإداري وفي الريف، أصبح غورباتشوف، عبر مسار البيريسترويكا، هو أضعف الكل. وهذا ما ظهر في فترة محاولة انقلاب الشيوعيين المحافظين (آب 1991) حيث تجابه الليبراليون والقوميون مع القوى الانقلابية وهزموها، وبعد أن هزموها أجبروا غورباتشوف على الرحيل وتفكيك الاتحاد السوفياتي، وهو أصبح، في أربعة أشهر تفصل فشل الانقلاب عن تفكك الاتحاد السوفياتي، في حالة من انعدام الوزن.
هنا، يمكن استحضار عبارة الجنرال الروسي عن نيقولا الثاني: «النقص في وعي الأحداث»، لتطبيقها على غورباتشوف، من حيث أنه حاول إثر انفجار سد النهر السوفياتي بعد أن فتح فتحته، وهو ما ظهر بفترة 1985-1987، أن يحل المشكلة الداخلية السوفياتية من خلال تنازلات لواشنطن، كما فعل في مؤتمر قمة واشنطن مع الرئيس الأميركي ريغان في كانون الأول 1987، عندما تخلى عن سياسة سوفياتية معلنة منذ عام 1983 تقوم على ربط تفكيك الصواريخ السوفياتية المتوسطة والقصيرة المدى (س س) المصوبة للعواصم الأوروبية بتخلي واشنطن عن برنامج حرب النجوم. ولكن واشنطن لم تعطه شيئاً بالمقابل، بل زادت الضغط عليه لإفقاده كل شيء، ومن أجل جعل الاتحاد السوفياتي يفقد وضعية القطب الثاني للعالم. وهو ما ظهر في سقوط حر سوفياتي لاحق من خلال تفرج موسكو على عملية تفكك الأنظمة الشيوعية في دول حلف وارسو بخريف 1989، وفي قبول موسكو بالوحدة الألمانية عام 1990 من دون أي مقابل، مع الاكتفاء بوعد كلامي بعدم تمدّد «الناتو» شرقاً، وهو ما أخلت به ولم تلتزم به واشنطن.
كما دفع التأزم الداخلي السوفياتي غورباتشوف للتنازل خارجياً لواشنطن عام 1987 بعد سنتين من البيرسترويكا، فإن هزيمة موسكو أمام واشنطن التي ظهرت معالمها بعام 1989 في مجمل المسرح الدولي، وأهمها تفكك الكتلة السوفياتية، قد قادت إلى ازدياد الأزمة الداخلية السوفياتية وإلى إنشاء حالة تصادم (بعد أن كان هناك تفارق قبل البيريسترويكا ثم تباعد بفترة 1985-1989) بين البنية الدولتية السوفياتية بجناحيها الاقتصادي (رأسمالية الدولة) والسياسي (الحزب الواحد) وبين البنية الاقتصادية-الاجتماعية-الثقافية السوفياتية التي اتجهت غالبيتها لتكنيس «رأسمالية الدولة» و«الحزب الواحد» لصالح «اقتصاد السوق» و«الديموقراطية السياسية»، وهو ما حصل في الربع الأخير من عام1991.
كان، هنا، يلتسين هو الوريث الشرعي للينين، من حيث أن المسار الحتمي لرأسمالية الدولة هو اقتصاد السوق، وهو ما لم يدركه الزعيم البلشفي الذي لم يع ما قاله كارل ماركس في «البيان الشيوعي» كسياسة للشيوعيين في بلد ما قبل رأسمالي هو ألمانيا توازيه روسيا في التخلف عندما كتب التالي: «وفي ألمانيا يناضل الحزب الشيوعي بالاتفاق مع البرجوازية ما دامت تناضل هذه البرجوازية نضالاً ثورياً ضد النظام الملكي المطلق وضد الملكية الإقطاعية العقارية وضد البرجوازية الصغيرة الرجعية»، فيما للشيوعيين برنامج اشتراكي في بريطانيا المتقدمة، وهو أمر أدركه دينغ سياو بينغ في الصين منذ عام 1978 مما دفعه لقيادة التحول الرأسمالي الصيني الحالي ولكن بقيادة الحزب الشيوعي (من دون حريات سياسية بل فقط اقتصادية) عبر إدراكه بأنه لا يمكن الدخول في المرحلة الاشتراكية من دون استنفاد كافة مرحلة الرأسمالية ومتطلباتها. والأرجح أن هذا كان وعياً متقدماً منه هو الذي أنقذ الحزب الشيوعي الصيني من المصير الذي صار إليه الحزب الشيوعي السوفياتي مع غورباتشوف وبيريسترويكاه.

* كاتب سوري