تسعى القيادة الروسية إلى نظامٍ عالميٍّ جديد. هذا ما عبّرَ عنه مسؤولو الكرملين أكثر من مرة منذ سنوات خلت. فأيّ نظامٍ عالمي تريد موسكو؟ هل تريد مشاركة الولايات المتحدة والقوى العظمى الأخرى في قيادة العالم، وتقاسم النفوذ والمنافع على مبدأ حق القوة، أكانت عسكرية أم اقتصادية؟ أم أنها تريد عالماً آخر يحتكم إلى قوة الحق والعدل والأخلاق؟ لا تستغرب عزيزي القارئ أنني أتيت على ذكر الأخلاق في شأنٍ يتعلّق بالعلاقات الدولية والسياسية. صحيح أنّ ساسةَ هذا العالم لا يقيمون لها وزناً، لا بل يحتقرونها، لكن نحن، عامة الناس، أصحاب مصلحة في أن يسود نظامٌ يراعي الحقوق والأخلاق، فلا يستقوي القوي على الضعيف ولا يَثْرَى الثّرِيُّ على حساب الفقير. تخيّلوا معي كيف سيكون عالمنا لو تحلّى الساسة بالأخلاق إلى جانب الكفاءة. تخيّلوا كيف كان السلام والأمن والازدهار والرخاء سيعمّ الكرة الأرضية. قد يكون هذا حلماً. لكن أليس من حقّنا أن نحلم، وأن نسعى إلى تحقيق هذا الحلم حتى وإن كان بعيد المنال؟ هنالك أشياء مثالية لا يمكن تحقيقها تحقيقاً كاملاً، ولكن يكفينا منفعة ومتعة التقدُّم المستمر والواثق نحوها إلى ما لا نهاية.
عالم ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي
انهارَ الاتحاد السوفياتي، فنشأ نظام القطب الواحد في العالم. صحيحٌ أن عالم القطبين السابق لم يكن مثاليّاً، ولم يكن قادراً على حل المشاكل والأزمات العالمية والإقليمية على نحوٍ يؤدّي إلى إرساء السلام والأمن الدائمين، وإلى تنمية اقتصادية توفّر حياةً للبشر خالية من الجوع والفقر، وإلى حماية البيئة على الكرة الأرضية؛ لكن مهما كان عليه ،فإنه أفضل من الحالي. ففيه شهدنا تحرُّرَ العديد من الشعوب من نير الاستعمار ونالت حقّها بتقرير مصيرها. كما ساعد في حصر الأزمات في نطاقها المحلي أو الإقليمي من دون أن يؤدّي ذلك إلى أزمات عالمية كبرى. كما شكّل ذاك العالم لجاماً لتفرّد دولةٍ واحدة في مصير العالم، وفي أحيان كثيرة، رادعاً لشن الحروب وتدمير بلادٍ بأكملها. ما حصل للعراق أكبر شاهد على ذلك.
وجدت روسيا، اليوم، نفسها أمام تحدٍّ عظيم؛ فمن ناحية، تريد استعادة مكانتها في العالم لما في ذلك من منافع على تنميتها وازدهارها. ومن ناحية ثانية، لتستطيع النجاح في ذلك، عليها امتلاك القدرة التنافسية مع العالم الغربي، وهذا يتطلب تنمية قطاعاتها الاقتصادية وتطويرها إلى مستوى مثيلاتها الغربية. وإذا أضفنا إلى هذا الأمر دور الجانب العسكري في السياسة الدولية وأكلافه المادية والبشرية، وكذلك خطر توسّع «الناتو» باتجاه حدودها، نستطيع أن ندرك حجم التحدّي الذي تواجهه روسيا.

أيّ نظامٍ عالميٍّ جديد تريده روسيا؟
أسارع إلى القول، إذا كانت روسيا تريد تَقاسُمَ المنافع مع الولايات المتحدة وتأخذ حصتها التي تعتقد أنها تستحقُّها، فإّنها ترتكب خطأً جسيماً بحقّ نفسها وبحقّ من علّق عليها آمالاً بتغييرٍ نحو عالمٍ أفضل. فهذه المنافع مجبولة بدماء فقراء العالم وعرقهم وثرواتهم، ولا يجدر بروسيا أن تشارك باقتسامها، وخاصة أنها تملك كلَّ المقوّمات لتكون دولة متطوِّرة وعُظمى توفّر لشعبها الرفاه المنشود من دون أن تستغلَّ شعوباً أخرى.
يبدو أن الصراع على ماهيّة النظام العالمي لن ينْتَهي قريباً، وأن مخاض ولادة النظام الجديد سيكون عسيراً، وسوف يمتدُّ لمرحلة تاريخية وليس لشهورٍ أو بضع سنوات. وللنجاح في هذه المهمّة الصعبة، تحتاج روسيا إلى حلفاء يشتركون معها بالرؤية لهذه الماهية، ولديهم الاستعداد لبذل كل ما في وسعهم من أجل تحقيق هذا الإنجاز التاريخي مهما طالت المرحلة أو صَعُبَت. أمّا العلاقات المبنية على المصالح الآنية، بالرغم من أهميتها، فتبقى ثانوية عندما يتعلّق الأمر بالقضايا الاستراتيجية والكبرى. كما أن هذا النظام لا يخصُّ روسيا وحدها، فهناك دولٌ وشعوبٌ كثيرة تتوقُ إلى التحرُّرِ من القيد الأميركي، وتناضل من أجل حقّها في تقرير مصيرها، وحماية ثرواتها من الاستغلال الإمبريالي البشع (تنامي اليسار في أميركا اللاتينية مثلاً). لذلك، من الحكمة دعم موقف هذه الشعوب بتعزيز قدراتها لتأخذ دورَها في هذه المعركة ولتجني ثمار التغيير المنشود. وللنجاح في ذلك، تحتاج هذه الشعوب إلى حلفاء موثوقين، من وزن روسيا، يؤمنون بحقّها، وبالقيم الإنسانية العادلة. وأخطر ما يمكن أن تواجهه هذه الدول هو أن تكون مضطرّة إلى الاختيار بين متنافسين على تقاسم النفوذ و«الكعكة». وفي الوقت الذي تسعى فيه روسيا إلى تطوير تعاونها مع جميع الدول، على أساس المصالح المشتركة، لا بد من الأخذ بالحسبان أن لا يتم هذا على حساب مصالح الدول الحليفة.

روسيا والصراع العربي الصهيوني
التجربة السوفياتية والروسية في الصراع العربي الصهيوني، غنيّة جداً، والدروس المستقاة منها باتت واضحة، وبإمكان روسيا أن تتخذ موقفاً يخدم مصالحها الحقيقية، وفي الوقت نفسه أن تحافظ على مبادئ الحقوق المشروعة والعدل. فمنذ نشأتها، أدّت الحركة الصهيونية دوراً ضارّاً بالمصالح الروسية في فترة الاتحاد السوفياتي، وقبلها، وبعدها، والمعنيّون بالأمر يعرفون هذا حق المعرفة. ولو أخذنا الأزمة بين روسيا وحلف «الناتو»، بشأن أوكرانيا، لأدركنا أين هو الموقع الحقيقي لإسرائيل بما يخصّ «المصالح العليا» لروسيا. فالكيان الصهيوني شريكٌ فعّال في المشروع الإمبريالي، وخطرُه في تزايدٍ مستمر في المنطقة والعالم بما في ذلك روسيا.
علاقة روسيا بفلسطين قديمة، وتمتد إلى ما قبل نشوء إسرائيل وكذلك الحركة الصهيونية. وبحكم الموقع الجغرافي الاستراتيجي للمنطقة العربية، وثرواتها النفطية والغازية، وقربها من روسيا، فإنها تشكّل عمقاً استراتيجياً لموسكو. في السابق، وافق الاتحاد السوفياتي على قرار تقسيم فلسطين، واعترف بالكيان الصهيوني دولةً طبيعيّة على أمل أن يجد له موطئ قدمٍ في المنطقة، ليكتشف بعد سنين قليلة أنه ساهم في صناعة خنجَرٍ في خاصرته. واليوم، لن تجني موسكو من «حُسْنِ» علاقتها بإسرائيل سوى الخيبة وخسارة حلفاء محتملين في الجانب العربي. فمن غير المقبول أن يبقى الموقف الروسي من الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا كما هو الآن. وإذا كان لروسيا الحق في الحصول على ضمانات أمنية من خصمها، «الناتو»، فإن من واجبها فهم الضرورات الأمنية لحليفتها سوريا وبذل أقصى جهدها لتوفير الضمانات الدفاعية لدولة ارتبط مصيرُها بها. فلا يُعقل أن يُحارب إرهابُ المجموعات المسلّحة، ويُترَك الإرهاب الصهيوني المُنَظَّم منفلتاً من عقاله. لقد كشف الصراع على أوكرانيا عيوب العلاقة الإسرائيلية الروسية وأضرارها، فهل يقدِمُ الكرملين على إصلاحها؟
أخيراً وليس آخراً، لقد خَبِرَ الشعب الفلسطيني عدم عدالة النظام الدولي، عندما تبنّت عصبة الأمم المتحدة الهدف الصهيوني بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وبتضمينه في صك الانتداب البريطاني، وعندما نفّذته الأمم المتحدة باتخاذها قرار التقسيم، ويختبره كل يومٍ من خلال استمرار معاناته. القضية الفلسطينية مثل واضح لمن يريد أن يعتبر. فلا سلام ولا أمن ولا رخاء مع الظلم وفقدان العدل. فإلى نظامٍ عالميٍ جديد عادل يكون فيه لروسيا دورٌ بارز.

* كاتب وباحث فلسطيني