لا يمكن إرجاع الصراع البشري عبر التاريخ لسبب واحد، فهو بالتأكيد ظاهرة معقّدة يدخل فيها الأمن والاقتصاد والسياسة والاجتماع والفكر وربما السيكولوجيا أيضاً. وعند النظر إلى التاريخ الحديث والمعاصر للعالم نرى أن الغالب عليه هو الصراع بكل أشكاله.لقد فتح الصراع الدائر في أوكرانيا حالياً العيون على أن ما عاشته البشرية في التاريخ المنظور، وما تعيشه الآن، ليس أكثر من حروب ساخنة أحياناً وباردة أحياناً أخرى. على ما يبدو أن العالم لم يشهد، لا الآن ولا في أي وقت مضى، سلاماً حقيقياً، وما هذا السلام الذي يتم الحديث عنه في فترات كثيرة الندرة في التاريخ المعروف إلا الاسم الآخر لما يطلق عليه الحرب الباردة هذه الأيام.
تتميّز الصراعات الكبرى عبر التاريخ، بما فيها تلك الدائرة الآن، بأنها صراعات بين إمبراطوريات ضخمة، بين مشاريع كبرى تمثّل مصالح عليا لأصحابها، وتستند أساساً إلى الجيوستراتيجيا الخاصة بأصحاب تلك المشاريع، مع ضرورة عدم استثناء العوامل الأخرى المؤثرة في الاصطفافات الموجودة.
بالعادة، وكما تمثّل الحرب في أوكرانيا، تتقاتل المشاريع الحية (روسيا والغرب) على أراضي المشاريع الغائبة (الشرق الإسلامي وأفريقيا وآسيا السوفياتية) الغنية بالثروات وبأدوات الانتصار، وهذا ما تظهره الديبلوماسية النشطة للمتحاربين في بلدان هذه المناطق، والمطلوب في نهاية الأمر من شعوب تلك المناطق ودولها ليس أكثر من الاصطفاف بشكل أو بآخر مع هذا الطرف أو ذاك من المتحاربين.
وعندما أتحدّث عن المشاريع الغائبة في أفريقيا وآسيا السوفياتية والشرق الإسلامي (تم تحديده جغرافياً في كتابي «تحرير الشرق... نحو إمبراطورية شرقية ثقافية» بالمنطقة الواقعة بين المغرب الأقصى وأفغانستان) فإني لا أضعها جميعاً في نفس المرتبة، إذ إن كلاً من أفريقيا وآسيا السوفياتية تعي أهمية وحدتها، وهي تبذل جهوداً، وإن كانت ما زالت متواضعة، لتقريب دولها وشعوبها، رغم تدخلات الأقطاب الكبرى (المشاريع الكبرى) المعرقلة والمعيقة لذلك.
أمّا ما يجري بالنسبة لمشروع الشرق الإسلامي الذي يهمنا هنا، فهو مشروع غائب، أو ما زال غائباً، كما هو عليه الوضع في أفريقيا وآسيا السوفياتية، لكنه يتميّز بـ«غياب» شبه تام للحامل الثقافي له، بعد أن وصلت فئة كبيرة من المثقفين، وبخاصة العرب، الذين يفترض أن يدافعوا عن ذلك المشروع، إلى عدم الاقتناع به، حيث انتقلوا من مؤمنين بإمكانية الوحدة وداعين لها إلى الحديث عن صعوبتها، ومن ثم، وهو الأخطر، إلى عدم الإيمان بها والذهاب بها إلى وضع يشبه المزحة لا أكثر، وتسخيف أي حديث عن تقارب شعوب المنطقة باعتباره كلاماً بعيداً من الواقع، وبعيداً من المنطق أيضاً.
إذاً، للغرب مشروعه، وهو في ما يتعلق بالشرق، يتمثّل في تغييب مشروعه أو إبقائه غائباً والهيمنة عليه والاستيلاء على ثرواته، وإضعافه وتمزيقه من أجل ضمان الاستمرار في ذلك. ومن أجل ذلك استخدم الغرب، ويستخدم، كل نفوذه وأدواته وقواه الخشنة والناعمة وفي مقدمتها إسرائيل والمشروع الصهيوني.
لقد كان احتلال معظم فلسطين عام 1948 وإنشاء دولة إسرائيل، الخطوة الأساس في المشروع الغربي لتغييب أي مشروع شرقي إلى الأبد، وذلك بوضع حد للتواصل الجغرافي بين جناحي الإقليم. من البديهي أن عدم التواصل الجغرافي يخلق عقبات أمام كل أنواع التواصل الأخرى، الجيوستراتيجية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والنفسية وغيرها.
أفقدَ ضياعُ فلسطين الشرقَ أية إمكانية لتجسيد مشروعه بشكل طبيعي، وجعل إنشاء إسرائيل مكان فلسطين الإمكانية متوافرة أمام الغرب لإلحاق بلدان الشرق في مشاريع أخرى غير مشروعها هي. بمعنى أن وجود إسرائيل كرأس حربة للمشروع الصهيوني والإمبريالي الغربي وضع الأساس لصهينة المنطقة.
يوضح كتاب «تحرير الشرق... نحو إمبراطورية شرقية ثقافية» الموقع المركزي للقضية الفلسطينية في علاقتها باستمرار تغييب المشروع الشرقي أو إعادة إحيائه، ويقارن ذلك بالأهمية المركزية للمشروع الصهيوني وإسرائيل في إنجاح المشروع الإمبريالي الغربي في المنطقة، نظراً لدور الصهيونية المركزي في الإبقاء على الهيمنة الغربية على الشرق.
فلسطين، بموقعها الاستراتيجي الخاص والمميّز، تعتبر قضية القضايا في المنطقة، فمن دون فلسطين محرّرة، أو على الأقل فلسطين كحركة تحرّر ومقاومة، لا يبنى مشروع شرقي. هناك أجزاء محتلة من الوطن العربي، وهي بالتأكيد عزيزة على أهلها وعلى الأمّة بأجمعها، لكن احتلالها لا يملك، ولا يمكن أن يملك، نفس الأهمية الاستراتيجية لمشروع الشرق، كما هي حال فلسطين.
إن أبرز ما ينقص فلسطين هو الوعي الاستراتيجي بها، والتفكير بها استراتيجياً من حيث علاقتها بمشروع الشرق، وهذا يعني أيضاً الفهم الاستراتيجي لإسرائيل والمشروع الصهيوني ودورهما في المشروع الغربي. من البديهي أن فلسطين هي وطن الفلسطينيين الذي تحتله إسرائيل، لكنها في الفكر الاستراتيجي المتعلّق بالمشاريع والمشاريع المضادة في المنطقة، هي الجغرافيا التي تصل بين جناحي الشرق في شمال أفريقيا وغرب آسيا، أمّا إسرائيل فهي الجغرافيا التي تفصل بين هذين الجناحين. فلسطين تصل وإسرائيل تفصل، هكذا هو واقع الحال، وهكذا يجب أن تفهم الأمور، ويبنى بمقتضاها.
إن أبرز ما ينقص فلسطين هو الوعي الاستراتيجي بها، والتفكير بها استراتيجياً من حيث علاقتها بمشروع الشرق، وهذا يعني أيضاً الفهم الاستراتيجي لإسرائيل والمشروع الصهيوني


هذا الفهم الجيوستراتيجي لفلسطين وإسرائيل، ينبغي أن يكون منطلقاً للتعامل مع القضية الفلسطينية، وللمواقف منها، وهو الأساس الذي يبنى عليه الموقف من إسرائيل، ومن العلاقة معها، وكذلك الموقف من الغرب ومن كل الفاعلين في العالم.
من المؤكد أن الغرب والصهيونية يفهمان إسرائيل (وفلسطين) استراتيجياً ويتصرفان على هذا الأساس. يبدو هذا من تصريحات القادة الغربيين والصهاينة، ويبدو كذلك من أفعالهم وسياساتهم. فبن غوريون الذي يقول بأن غاية إسرائيل «هي التحقيق الكامل للصهيونية وليس السلام»، ونتنياهو الذي قال إن السلام الاقتصادي الذي يسعى إليه هو «تجسيد للهيمنة الصهيونية الدائمة على الفلسطينيين والعرب»، يعبّران عن الفكر الاستراتيجي الذي يتبناه الغرب في المنطقة.
أمّا الجانب الفلسطيني والعربي فلا شيء يوحي، لا من الأقوال ولا من الأفعال والسياسات، أن لديه أي وعي استراتيجي بفلسطين وإسرائيل، ولذلك لا تعدو سياساتهم أكثر من قصف «عشوائي» وفي كل الاتجاهات، وهذا ما يفسّر أن فلسطين (والشرق) قتلت بنيران «صديقة» إلى جانب نيران الأعداء بالطبع.
من الحيوي جداً بالنسبة للفلسطينيين وللعرب وللشرقيين إجمالاً فهم إسرائيل كمشروع أو كرأس حربة لمشروع. هذا يعني أيضاً فهم فلسطين كمشروع (كقضية) تهم الفلسطينيين والعرب والشرقيين إضافة إلى أنصار العدل في العالم. إن فهم كل من فلسطين وإسرائيل كرأسين لمشروعين متضادين، إضافة إلى فهم أسس العلاقات التي تربط المشاريع المتضادة، من حيث كونها متضادة ومن حيث كون الصراع بينهما لا يمكن أن يكون إلا تناحرياً، يقودنا إلى تقييم جدي وحقيقي لكل السياسات والمواقف التي انتهجتها دول وشعوب المنطقة حيال فلسطين وقضيتها.
شكّلت كامب ديفيد، وقبل ذلك الموقف من قرار تقسيم فلسطين، وبعد ذلك انطلاق عملية «التسوية» في مدريد وبعدها أوسلو، في بعض جوانبها، علامات على عدم فهم تام للمشروع الصهيوني في المنطقة ودولته إسرائيل، بالتالي عدم فهم لجوهر القضية الفلسطينية. فهذه الأحداث جميعاً اعتبرت أن هناك خلافاً بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أو العرب والإسرائيليين، وأن حل هذا الخلاف يكون بقسمة «العرب عربين» وانتهى الأمر.
هذا الموقف اعتبر إسرائيل دولة طبيعية مثل أية دولة، غير شرعية نعم، ولكنها ليست مشروعاً أو ممثلاً لمشروع، وليست رأس حربة لذلك المشروع، وليست تكريساً لهيمنة على المنطقة برمتها. واعتبر فلسطين كياناً تم تغييبه ولا بد من طريقة لإعادة إحيائه، وليست قضية تحرّر وطني لها وللمنطقة، وطليعة لمشروع للمنطقة في مواجهة مشروع متغوّل عليها.
غياب الفكر الاستراتيجي لدى الفلسطينيين والعرب غيّب مشروعهم الذاتي، وجعل كل خطواتهم عشوائية، و«أهداهم» لإعدائهم، وأوصلهم لأوسلو، ومن ثم التطبيع «الغرامي» بين بعض الدول العربية وإسرائيل، و«التفنن» في ذلك التطبيع بالوصول إلى «أدلجته» ممثلاً بالإبراهيمية والدعوة إلى إنشاء حلف أمني «ناتو» يضم دولاً عربية أساسية «بقيادة» إسرائيل.
في أوسلو ربط الفلسطينيون قولاً وفعلاً مصيرهم بكل تفاصيله، وكذلك سيادتهم وقرارهم «المستقل» الذي ناضلوا طويلاً من أجل ترسيخه، بإسرائيل. وشكّلت خطوتهم تلك تمهيداً سياسياً ونفسياً لدول عربية وغير عربية للتطبيع العلني مع إسرائيل، ولتخلي تلك الدول عن القضية الفلسطينية بكل وضوح، ومن ثم تطوير ذلك «التخلي» إلى «التموضع» في المعسكر المضاد.
في البداية اعتبر «الفلسطينيون» أوسلو مغامرة ورهاناً وقفزة في المجهول، في حين كانت بالنسبة للإسرائيليين مسألة في غاية الوضوح، تهدف إلى خلق حالة من التبعيّة للفلسطينيين ومنطلقاً نحو العرب والمسلمين. لكن الفلسطينيين استمروا في تلك «القفزة» حتى عندما وصلت ذروة «المعلوم»، فارتباطهم بإسرائيل يتعمّق يوماً بعد يوم، واتخذ التنسيق بينهم وبين الإسرائيليين شكلاً درامياً تجلّى بكل وضوح عندما اجتمعت قيادة الطرفين لتنسيق مواقفهما قبيل زيارة الرئيس بايدن للمنطقة. بالعادة تنتظر الأطراف «الوسيط» ليساعدها في تقريب مواقفها، أمّا أن تنسّق الأطراف مواقفها في «مواجهة» الوسيط فهذا يستحق براءة اختراع جديدة في موضوع الديبلوماسية.
في غياب الفكر الاستراتيجي تضيع الأهداف، وتستبدل بأشياء أخرى، رمزيّة بالعادة. في الحالة الفلسطينية بعد أوسلو رفعت الوسائل لدرجة الأهداف، وجرى تقديسها بشكل أو بآخر، وغابت السياسة الحقيقية وتشوه النظام السياسي... كل ذلك بانتظار الدولة «المستحيلة» التي يعرف الفلسطينيون جيّداً أن من قدّمهم للعالم ليست هذه الدولة بل القضية بكل معانيها.
أدّى «الارتقاء» بأوسلو إلى الإبراهيمية التي شكلت نقلة «نوعية» في فهم إسرائيل من قبل «شركائها» الجدد من العرب. فقد زال الجانب النفسي الذي كان يقتضي أن لا يكون التعامل مع إسرائيل علنياً، وجرى الاصطفاف العلني إلى جانب إسرائيل وبقيادتها في المنطقة ضد «أعدائها» المشتركين. وابتدأ عصر جديد من «صهينة» المنطقة، وما الحديث عن إدخال إسرائيل في الإقليم إلا عكس للحقيقة تماماً، فالذي يجري ما هو إلا إدخال للإقليم في إسرائيل ومشروعها الصهيوني.
إن الحديث عن الديانة الإبراهيمية التي تجمع اليهود والمسيحيين والمسلمين، ما هي إلا محاولة لإضفاء القداسة على التطبيع مع إسرائيل، والانضواء تحت لوائها، واستقواء بها على الآخرين. أمّا أميركا، التي ركزت اهتمامها الاستراتيجي على صراعها مع الصين وروسيا، فقد سلمت قيادة المنطقة إلى إسرائيل التي تعمل بمثابة عصا موسى «إبراهيمية» لتأكل كل «أفاعي» الآخرين ومقدراتهم.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني