في توقيت بالغ الأهمية، أطلقت مجموعة من الشيوعيين اللبنانيين نداءها «من أجل قيام حركة تحرّر وطني عربية جديدة». ليس جديداً على الماركسيين تبنّي هذا الشعار في أدبياتهم. الحق يقال إنه ينتمي لهم بالذات من دون غيرهم. أقلّه منذ القرن الماضي، حين كان العالم، وفي فترة ليست ببعيدة، يعيش هذا الحلم في التخلّص من الاستعمار الغربي. وقد تكون كلمة «الحلم» هنا في غير محلها. إذ إن التحرّر من الاستعمار كان واقعاً حقيقياً، شكلت الثورات الاشتراكية أساسه الموضوعي. فقد كانت الاشتراكية ظاهرة تاريخية، لا رغبات طوباوية، اجتاحت كل المجتمعات البشرية وتركت آثارها العميقة على كل مظاهر الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وصولاً إلى الفنون وحتى إلى العلوم.ولأن الاشتراكية قدمت نفسها كنظام بديل من الرأسمالية، كان لا بد من ربط التحرّر من الاستعمار بالتحرّر من الرأسمالية، بخاصة بعد تفاقم أزمة الرأسمالية الإمبريالية في فترات تاريخية معينة، وكذلك فشل البرجوازيات المحلية، بسبب ضيق مصالحها الاقتصادية وخوفها من حركة الجماهير، في القطع مع التبعية لهذه الإمبريالية. فكان نتيجة لذلك بروز طبقات وشرائح اجتماعية أخرى بدأت تطمح إلى تولّي قيادة حركات التحرّر الوطني. والأدبيات الماركسية في تلك الفترة كانت حافلة بالمواقف النقدية لدور البرجوازيات العربية في أزمة قيادة حركة التحرّر العربية، كما المواقف التي تطرح أزمة البديل الثوري أيضاً. وبغض النظر عن صحة هذه المواقف أو الحاجة إلى إعادة النظر في بعض استنتاجاتها، كانت هي انعكاساً للمرحلة التاريخية التي أنجبتها، حين كانت الاشتراكية كمنظومة عالمية، كما ذكرنا، تجتاح العالم أجمع.
ولأن الفكر لا يوجد بمعزل عن الظروف التاريخية التي تُحدّه وتحدِّده، ينبغي علينا الإقرار أن الاشتراكية اليوم غير مطروحة كظاهرة تاريخية كما كانت في القرن الماضي. إذاً، هل من خصوصية ما يمتاز بها قيام حركات التحرّر في يومنا هذا؟ وهل لا تزال الاشتراكية شرطاً أساسياً لنجاح التحرّر من التبعية للاستعمار؟ نطرح هذه الأسئلة ونحن على يقين بأن كل هذا التوتر الذي يعيشه العالم اليوم هو نتاج أزمة الرأسمالية كنظام إنتاج دخل في مرحلته الإمبريالية، ومنذ زمن، ولا حل لهذه الأزمة إلا بنظام إنتاج اشتراكي بديل ما زالت البشرية تعيه في ذاكرتها العميقة. ولكن هذا على المستوى الموضوعي، فماذا على المستوى الذاتي والسياسي؟ كيف ستسير الأمور في ظل عدم نضوج هذا العامل؟
في الواقع، إن نجاح أو فشل أية حركة تحرّر متعلّق بالمهمات التاريخية التي تطرحها على نفسها وتسعى إلى تحقيقها. فتاريخ حركات التحرّر يمتد إلى ما قبل عصر الرأسمالية، عندما كانت الشعوب تناضل ضد النير الأجنبي مدافعة عن حقها في الوجود. أمّا في عصر الرأسمالية، فكانت حركات التحرّر في أوروبا سبباً لتشكّل الأمم ولتماسكها، ولنمو الوعي القومي ممّا كان يؤدّي إلى تفاقم التناقض بين المستعبِد الأجنبي والشعوب المضطهَدة. كما إن سعي الشعوب -التي لم تكن لها دولة أو التي حرمت من تكوينها- إلى إنشاء الدولة القومية زاد من حدة الصراع مع الطبقات البرجوازية للأمم المستعمِرة. إن الأساس الاقتصادي لهذه الحركات كان يكمن في تطوّر العلاقات الرأسمالية ونشأة الأسواق. وكان لحركات التحرّر هذه طابعاً ضد-إقطاعياً وتحمل سمة برجوازية ديموقراطية، حيث كانت البرجوازية نفسها على رأس قياداتها.
إن قانون تفاوت التطور الرأسمالي حدّد تفاوت نشوء الحركات القومية وانتشار حركات التحرّر الوطنية في مناطق متعددة من العالم. ما يعني أن درجة تطوّر القوى المنتجة هي التي تحدد سمة ومهمة حركة التحرّر الوطني في بلد من البلدان. وإذا كانت هذه الحركات في أوروبا في السنوات 1789 - 1871 قد أنهت سيطرة الإقطاعية والملكية، فها نحن نشهد عودة حركات التحرّر مجدداً حين خاضت الشعوب الأوروبية حروبها ضد النازية الهتلرية، أي ضمن منظومة نمط الإنتاج الرأسمالي هذه المرة. فكانت نتيجة انتصارها في بعض البلدان قيام أنظمة اشتراكية بديلة عن الرأسمالية التي كانت أزمتها السبب الرئيسي في إشعال الحرب. ولا ننسى هنا أثر الاشتراكية السوفياتية الكبير على الدول الآسيوية والأفريقية وشعوب أميركا اللاتينية التي ما إن تحرّرت في القرن التاسع عشر من النير الإسباني حتى وقعت في التبعية للإمبريالية. لقد فهمت هذه الشعوب أن القطع مع التبعية الرأسمالية هي السبيل لتطوّرها وتقدّمها.
لكن بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على انكفاء المنظومة الاشتراكية، يشهد العالم اليوم أوضاعاً ينبغي الإشارة لها. فالإمبريالية، كأعلى مرحلة من تطور الرأسمالية، وسعياً إلى اليد العاملة الرخيصة، أي سعياً إلى زيادة الربح، نجدها عبر انتقال الرساميل تنقل التصنيع إلى دول المستعمرات نفسها. أي إنها تطوّر القوى المنتجة المحلية. طبعاً، هذا التطور قد يزيد التبعية لأنه يلحق البلدان بحسب حاجة الدول الإمبريالية، لكنه في الوقت نفسه يربط مصير الإمبريالية بالطبقة العاملة للبلدان التابعة. كما أنه في مكان ما يساعد على القضاء على بقايا الإقطاعية فيها، وذلك بحسب درجة تطور القوى المنتجة. هذا ما نراه يحدث في الصين مثلاً، التي وبسرعة قياسية بدأت مسيرة القضاء على الفقر فيها. وكذلك هي الحال في الدول الآسيوية الأخرى مثل الهند وفيتنام.
في المثال الإيراني، نرى أن الثورة الإسلامية كانت منذ بدايتها ضد–إمبريالية، التي سُمِّيت بـ«الاستكبار العالمي»، وذلك لأسباب عقائدية–أيديولوجية اتخذت في ما بعد نهجاً سياسياً–اقتصادياً طوّر بالقوى المنتجة الإيرانية واستطاعت بناء اقتصاد مقاوم غير تابع أمّن لها استقلالية القرار السياسي الوطني. في سوريا أيضاً، تطوّر القوى المنتجة أرسى دعائم الاقتصاد المقاوم وأمّنَ لها الاكتفاء الذاتي ومكّنها من حرية اتخاذ القرار السياسي الوطني والصمود أمام أعتى حرب عرفتها البشرية ضد بلد واحد. أما في روسيا، ففي غفلة من نشوة انتصار الإمبريالية في حربها الباردة، استطاعت روسيا أن تعيد مجدها كقوة عظمى ذات سيادة وتقطع مع التبعية وتتحدى نظام القطبية الواحدة الإمبريالي. وما كانت العقوبات الغربية عليها إلا فرصة استغلها بوتين لإعادة تحويل علاقات الإنتاج لمصلحة الدولة الروسية عبر تملكها للقطاعات الإنتاجية المتأثرة بالعقوبات وتأميمها. وها هو في الأيام الأولى من العملية العسكرية في أوكرانيا يتوجّه إلى القطاعات المنتجة مطمئناً إياها بأنها ستكون في مأمن طالما هي ستتبع سياسات في صالح الدولة الروسية وليس لصالح الغرب.
ما الذي يجمع هذه النماذج الأربعة؟
نكاد لا نعثر على أي توضيح حول ما المقصود تماماً بـ«التحرر الاجتماعي»


- كل هذه البلدان تتعرّض لهجمة شرسة من الإمبريالية التي لا يمكنها التعايش مع أنماط إنتاجية رأسمالية أخرى. أي إن العالم اليوم يشهد صراعاً بين الدول الرأسمالية الإمبريالية والدول الرأسمالية غير الإمبريالية. وهذا ليس بجديد إذ إن الإمبريالية تعادي جميع الأنظمة النقيضة لها.
- تلعب هذه الأنظمة السياسية في هذه البلدان دور حركات التحرّر الوطني ضد الإمبريالية.
- إن نظام الإنتاج السائد في هذه البلدان هو نظام رأسمالي (مع تمييز قليل بنظام الصين الذي يأخذ توزيع الثروة فيها سمات اشتراكية).
- إن العامل السياسي في جميع هذه البلدان هو المحدد للعامل الاقتصادي وليس العكس. الأمر الذي يطرح مسألة التبعية ويحصرها في جانبها السياسي وليس الاقتصادي. أي إن التبعية لا تكون إلا سياسية.
هكذا، فإن أية حركة تحرّر في أيامنا هذه لا بد لها أن تأخذ في الاعتبار هذه المعطيات التي لا تجعلها أسيرة أي تفكير نمطي عهدناه في مراحل سابقة. وفي العودة إلى الوثيقة، «النداء»، التي يطرحها «شيوعيون لبنانيون» اليوم -وهم من الواضح أنهم لا يمتّون بصلة إلى الحزب الشيوعي الرسمي الذي أصبح في مكان آخر- نجد أنها لا تطمح إلى نقد الأدبيات الماركسية للحقبة السابقة، لكنها تحمل في طياتها من دون أدنى شك، أو على الأقل نأمل بذلك، استخلاصات فكرية مهمة لكل تاريخ حركة التحرّر العربية، بخاصة في ما يتعلّق بالجانب الماركسي منها. إن أبرز هذه الخلاصات تتعلق بمسألة شكلت لسنوات، وما زالت، عند «الشيوعي الرسمي»، أساس ممارساته السياسية، وهي مسألة تلازم التحرّر الوطني مع التحرر الاجتماعي. والحقيقة تقال إننا نكاد لا نعثر على أي توضيح حول ما المقصود تماماً بـ«التحرر الاجتماعي»؟ هل هو التحرر من الرأسمالية وبناء الاشتراكية، أم هو مجرد تغيير النظام اللبناني في حدود إصلاحات برجوازية؟ لكن من الواضح أن هذا المصطلح كان يستخدم لإبراز تميّز الممارسة السياسية لـ«الحزب الشيوعي الرسمي» عن الممارسة السياسية لـ«المقاومة الإسلامية». بمعنى أن «الشيوعي الرسمي» لا يفصل بين تحرير الأرض وتحرير النظام السياسي من الطبقة السياسية الفاسدة التي أمعنت في استغلال اللبنانيين، وهو بذلك يساوي بين المحتل الإسرائيلي وهذه الطبقة البرجوازية اللبنانية. في حين إن «المقاومة الإسلامية»، كما هو يفترض، تهادن الطبقة الفاسدة وتتحالف معها. ولكن إذا كان الأمر كذلك، لماذا يختار «الشيوعي الرسمي» التغيير الديموقراطي، وليس المقاومة المسلحة، وسيلةً لهذا التغيير؟ ولماذا لا يعمل على تحالف المقاومتين ضد العدو الواحد في وجهه الخارجي والداخلي؟ وهل يعدُنا «الشيوعي الرسمي» بالاشتراكية فور إنجاز التحرر الاجتماعي؟ وهل الأولوية للتحرر الوطني أم للتحرر الاجتماعي أم هما يسيران بالتوازي؟ كلها أسئلة مشروعة ولا نجد عليها أجوبة في أدبيات «الشيوعي الرسمي»، الأمر الذي قد يكون عائداً إلى الضبابية السياسية التي تسود مواقفه في الآونة الأخيرة.
أما عند «شيوعيين لبنانيين» في ندائهم، فنجد مقاربة جريئة وغير متوقعة. فهم بالرغم من أنهم يعون أن «الأزمة الاقتصادية والمعيشية ناجمة عن سياسات خاطئة أو إدارات محدودة الكفاءة وعديمة النزاهة، ينبغي بالتأكيد محاسبة المسؤولين عنها»، فإنهم يرون أن ذلك هو «شكل من أشكال الضغط يمارسه الخارج بالتعاون مع امتداداته الداخلية بغية تحقيق أهداف سياسية». الأمر الذي يجعل الإنماء والتقدم «عصيين على التنفيذ لو ظلا متمحورَيْن حول مسألة التغيير الداخلي فقط. فشعوبنا أضحت مجرد كتل بشرية موظفة في خدمة المصالح الإمبريالية ومخططاتها وتحولت دولنا إلى هياكل قابعة معرّاة من الكرامة الوطنية يستحيل عليها التغيير الديموقراطي السلمي». وفي مكان آخر، نقرأ أن «التغيير الديموقراطي في مجتمعاتنا تحُول دونه بنى اجتماعية تقليدية مهيمنة تدفع باتجاه الحروب والتفتيت وطغيان العصبيات على ما عداها... لا يمكن ولا يجوز، في البلدان التابعة التي هي في طور التحرر، تقديم الصراعات الطبقية على الصراع الوطني التحرري، ذلك أن جميع الصراعات في هذه البلدان إنما تُخاض في ميدان الصراع الوطني».
إذاً، نحن أمام معادلة جديدة يطرحها «شيوعيون لبنانيون» لا نعرف حقاً كيف ستكون ممارستها العملية. لكن حرصهم على التوجه إلى «المناضلين العرب من كل الأطياف، مقاومين وطنيين ويساريين وقوميين وناصريين إسلاميين ثوريين»، يدل على أنهم يرون أن المرحلة التي نحن فيها تتطلب جهد جميع القوى، ومن مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية المتضررة من سياسات الإمبريالية، وأن حركة التحرر المطلوب بناؤها عليها أن تأخذ طابعاً شعبياً واسعاً، الأمر الذي يتطلب تعاضداً اجتماعياً ووحدة هدف لتوحيد كل هذه الأطياف السياسية. وهذا ما يوجب البدء بالعمل عليه من دون تلكؤ.
انطلاقاً مما ذكرنا، حول الظروف التاريخية التي تحيط بهذا «النداء» نستخلص أن التحرر الوطني وإن لم يكن في ظروف الانتقال نحو الاشتراكية، لا ينفي أننا لا نعيش هذه الصيرورة، لا بل نحن في خضم حركة التاريخ وفي مرحلة من مراحل مسيرته. إن سمة الصراعات السياسية في العالم اليوم تجعلنا أكثر قناعة بأن النظام الرأسمالي العالمي لم يعد باستطاعته أن يجد حلولاً لمشكلات المجتمع البشري. وإن الظروف أصبحت ملائمة أكثر لعودة اليسار، ليس أي يسار، بل المرتبط فعلياً بكسر التبعية للإمبريالية والخالي من المصلحة البرجوازية الصغيرة الضيقة التي طالما وقفت ضد المصلحة الوطنية العامة. بالتالي، يصبح التحرر الوطني و«الاجتماعي» صيرورة وليس مرحلة تاريخية محددة بتوقيت زمني معين.
وأخيراً، وحيث لا تحرر من دون هذا التفاؤل الذي يلفح «النداء»، يأتي الأمل «بآفاق جديدة يمكن أن تؤدي إلى تحرر كامل المنطقة من الهيمنة وتحقيق الاستقلال الوطني الحقيقي ووضع حد للاحتلال الاستعماري لفلسطين».

* كاتب لبناني