عندما كتبنا في مطلع عام 2011 مقالنا «لا شرعية لثورةٍ فلسطين ليست شعارها»، وصل إلينا أن بعض القراء رأوا في ذلك مبالغة، وأن ما يجري في بعض بلاد العرب سيفتح كافة الطرق والبوابات أمام استعادة القضية الفلسطينية مكانتها [كذا!].
الأحداث التالية التي عصفت ببلاد العرب أوضحت، على أي حال، صحة منطلقنا وهو منظور فكري قائم على تحليل عميق لجوهر القضية الوطنية الفلسطينية يوضح حقيقة الصراع بيننا، نحن، قوى التحرر والتقدم من جهة، والعدو الصهيوني ومن يقف خلفه، منذ أن طرح المشروع الاستعماري، في أعقاب الثورة الفرنسية، المستند إلى رؤى غيبية قيامية، والقاضي بتحويل فلسطين إلى مستعمرة توراتية «يهودية»، ليكون الأمر بمثابة «استدعاء» ليوم القيامة، وفق منظور تأويلي يميل إلى الجنون منه إلى أي آخر.
قبل قرن من الزمان قرر الغرب الاستعماري المضي قدماً في سياسته التقسيمية المعادية للحداثة، والقائمة على تأسيس دول طائفية في مواجهة المنظور العثماني الجامع الذي طرحته الثورة، الموؤودة، في تركيا، وفي المقدمة منها كيان العدو الصهيوني، دولة دينية يهودية إشكنازية، تستند إلى مجموعة من الأساطير والخرافات الماورائية، وأساس يكمن في التطهير العرقي، وإقامة دولة إثنوقراطية.
هذا هو جوهر كيان العدو وأساسه، وهو الذي يجعلنا نقف ضده وندعو إلى دولة ديمقراطية عَلمانية، وإن ليس بالمفهوم الرأسمالي التضليلي السائد.
لذا فإن من يصادق كيانا عنصريا كهذا وقائما على التفرقة العنصرية وإثارة النعرات الدينية والطائفية والمذهبية والثقافية، فإنه لا يختلف عنه في الشكل ولا في الجوهر.
المنطلقات الآنفة الذكر هي التي دفعت القوى الرجعية العربية للقبول (طوعاً، لا إكراها ولا "بطيخ") بالمشروع الاستعماري التقسيمي وكانت بدايته حرب تقاسم فلسطين بين أنظمة سايكس-بيكو، مروراً باتفاقيات كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو، وبينهم وما يليهم من تطبيع علني كما فعل التكفيريون ودولة الإمارات المتنازعة، المشاركتان، إلى بقية مشيخات التخلف، في العدوان على ليبيا والعراق وحرب إبادة اليمن بلاداً وشعباً وحضارة، إضافة إلى إسهامها المادي والغوغائي التضليلي في السعار الطائفي والمذهبي والإثني في بلاد الشام، عملاً بمقولة: قصب هياكلكم وعروشكم قصب، في مِئذنة حاوٍ ومغتصب، يدعو لأندلس إن حوصرت حلب...
هذا ينقلنا إلى الدعوات الأخيرة لحكام السودان الداعين للتطبيع مع العدو الصهيوني. النظام المتخلف في السودان الذي أعمل حرابه في شعبه، وحوّل المجتمع السوداني، الذي كان من أكثر شعوب العرب انفتاحاً وتعليماً وثقافة، إلى لاجئين في مختلف بقاع الأرض أو نزلاء السجون والمعتقلات والمقابر الجماعية، يرى أن الوقت أضحى مناسباً للتطبيع مع كيان العدو العنصري.
هذه الدعوات لم تأت صدفة، بل علينا أخذها ضمن السياق التاريخي لتطور ذلك النظام العسكري المتخلف بدءا من حكم الجنرال عبود الإنفصالي، إلى عهد الطاغية الآخر جعفر النميري، الذي عمل على المشاركة في تهجير الفلاشا، من الحبشة إلى فلسطين المحتلة، عبر السودان، وبتواطؤ صريح من قيادات ميليشيوية فلسطينية.
حكام السودان العسكريون، من الإسلام السياسي، عادَوا مصر بذريعة صراع حدودي سقيم، وعملوا على الفتك العنصري والديني ببعض مكونات المجتمع السوادني «الإثنية»، من جنوبي السودان إلى دارفور وغيرها ما أدى إلى البدء بتفكيكها، مقابل رضى الاستعمار الأميركي ببقائهم في الحكم والسكوت عن جرائمهم بحق الإنسانية، لكن فقط كي يكملوا مهمتهم في القضاء على دولة السودان العربية وتقسيمها إلى دويلات بقياس حكامها الحاليين.
إضافة إلى مهمتهم التقسيمية والتفكيكية للبلاد، حكام السودان الطغاة من عسكر الإسلام السياسي، يشاركون في حرب إبادة على الشعب اليمني وتدميره، إلى جانب مرتزقة بلاكووتر «النصارى عبدة الصليب»، ولا نشك في استعدادهم للمشاركة في حروب أخرى ومؤامرات استعمارية جديدة فقط من أجل الحفاظ على عروشهم القصبية المهترئة.
السودان بإمكانه أن يكون حقل العرب بل وأفريقيا أيضاً، وأن يغذي كل شعوبها، لكن هذه الميليشيا العسكرية، النهمة للسلطة وللاحتفاظ بها، حتى ولو على...، أبت أن تجعل من البلاد جنة وسلة غذاء، وفضلت أن تحوّلها إلى مزبلة... وفي العامية، إلى خُمّ.