«إنّ الأمّة المقاطَعة، هي أمّة في طريقها للاستسلام. طبّق هذا الدواء الاقتصادي السلمي الصامت والمميت ولن تكون هناك حاجة لاستخدام القوة، إنه علاج فظيع»[مينيابوليس، 1919، الرئيس الأميركي وودرو ويلسون]

«أَعلَن مجيء العقوبات الاقتصادية صعود مقاربة ليبرالية متمايزة حول الصراع العالمي (منذ الحرب العالمية الأولى) وهي مقاربة حيّة وفاعلة إلى اليوم، رفعت العقوبات الحدود بين السلم والحرب وأنتجت طرقاً جديدة لإعادة رسم خرائط الاقتصاد العالمي والتلاعب به، وغيّرت مسار القانون الدولي... تُعد العقوبات أيضاً علامة فارقة في الليبرالية التي تعمل على الإكراه من خلال أجهزة تقنية وإدارية من محامين وديبلوماسيين وخبراء عسكريين واقتصاديين»
[نيكولاس مولدر، «تاريخ العقوبات الاقتصادية كسلاح حرب»، مترجم بتصرف]



تاريخياً، تُعدّ العقوبات إجراءً يتلو الهزيمة. إلا أن خلق المجتمع الدولي والقانون الدولي مهّدا لظهور العقوبات الحديثة التي توظّف كبديل للحرب أو كمقدّمة لها. قد تكون عقوبات اليوم هي أقرب إلى ما كان يعرف تاريخياً بحرب الحصار Siege warfare كما يكرّر دائماً الصحافي ريتشارد ميدهيرست. حيث يُسجّل التاريخ الحصار العسكري كمسألة غاية في الدموية والقسوة؛ فكثير من المدن المحاصرة واجهت الأمراض والمجاعة وحتى أكل الجثث. أمّا حصار العقوبات المعاصر، فيقدّم نفسه بشكل أكثر أناقة وأخلاقية من دون آلة حرب مرئية، والحقيقة أنه أكثر همجية وتوحشاً، على الأقل، كانت حصارات الماضي مكلفة عسكرياً ومادياً وبشرياً، هناك ثمن على المحاصِر ليدفعه، الأمر الذي يجعل المواجهة أكثر «عدالةً». في المقابل، عقوبات اليوم لا تحتاج سوى قرار ورقي متعجرف توقّعه دولة مارقة واحدة.
(ديفيد بلانكرت)

مثلّث الاستهداف وجدوى العقوبات
لعقود، شكّك الباحثون الأميركيون في جدوى العقوبات، وهذا انطلاقاً من قياس نتائجها بأهدافها المعلنة، بحسب ورقة للباحث بريت شايفر نشرت لدى معهد «هريتاج». أغلب العقوبات الأميركية ينتهي بها الأمر بعيداً من الأهداف المعلنة من تغيير للأنظمة أو لسلوكها وتتقلّص إلى عقاب جماعي بين التجويع والحرمان من الأدوات والمواد الطبية، عدا عن مقومات البنية التحتية. بالنسبة للحكومة الأميركية، يصبح هذا الإفقار هدفاً بحد ذاته كردع للدول الأخرى. وبالرغم ممّا يثيره هذا العقاب الجماعي من مشاعر كراهية للإمبراطورية وحشد للرأي العام للعناد في وجه عصاها، يجد الأميركي نفسه في مأزق كمؤدِّب ومرجعيّة للصواب والخطأ عليه معاقبة الخارجين عن الإرادة الأميركية بأي ثمن. إذاً، العقوبات، بشكلها المعاصر، هي أداة تأديب في المقام الأوّل. عصا المطاوع التي تُخضع دول العالم للعيش في الجلباب الأميركي. وهذه الغاية يمكن الوصول إليها عبر مروحة من الأهداف الفرعية وباستهداف أحد أطراف مثلّث «النظام الحاكم، النخبة، الشعب». تهدف العقوبات إلى ردع الأنظمة وتخاطبها في المقام الأوّل، إلا أن هذا الأسلوب ينجح في تأديب حلفاء الولايات المتحدة (مثل اليابان وأوروبا ودول الخليج حتى وقت قريب وغيرها ممّن يدور في الفلك الأميركي) كلّما تباعدت المصالح وحاول أحد الأطراف الخروج عن السياسة الخارجية الأميركية. أمّا الدول التي تعادي الولايات المتحدة، فالأمر مختلفٌ والمسألة لا تعود مسألة ردع بل تدفيع ثمن، وأفضل مثال يوضح هذه المفارقة ما حدث بعد انسحاب أميركا من الاتفاق النووي. في البداية راوغ الأوروبيون وحاولوا استدامة المصالح الاقتصادية المباشرة التي فتحت لهم بعد توقيع الاتفاق، وفي أماكن معيّنة حاولوا التمرّد، إلا أن تشديد إجراءات العقوبات التي ضمنت ملاحقة أي شركة تستمر في العمل مع إيران أغلق كل منافذ التمرد الممكنة وطوى الأنظمة الأوروبية عملياً ضمن موقف الانسحاب الأميركي من الاتفاق. إيران، بدورها، اتخذت موقفاً حاداً وإجراءات مشددة.
هنا ينتقل ثقل العقوبات لمعاقبة القواعد الشعبية أملاً في تفكيك البيئة الحاضنة والتحريض على الثورات والانتفاضات بمساعدة إعلام وجمعيات القوة الناعمة. وتنجح هذه العقوبات في حالات محددة حيث لا عداء مبدأي ضد الإمبراطورية، وحيث يبحث الشعب عن نمط حياة مرفه أو غربي ويعتقد أن التماهي مع المجتمع الدولي سيجلب له الرخاء والتنمية. بكلمات أخرى، ينجح هذا الترهيب والضغط على «عبيد المنزل». في المقابل، الفعالية معدومة أمام صمود شعوب كثيرة مؤدلجة في وجه الحصارات الأميركية، منها بيئة المقاومة في لبنان. استهداف الشعب بهذا الشكل يكرّس أميركا كدولة معادية ومجرمة تمارس العقاب الجماعي ضد الشعب حارمةً إيّاه من أساسيات الوجود. تبجّح جون بولتون أخيراً حول إتقانه فنّ الانقلابات مقابل إخفاق رئيسه دونالد ترامب في طبخ الانقلاب الفاشل الذي قاده غوايدو في فنزويلا، الأمر الذي يكشف ارتباك الإدارة الأميركية عندما تتسبّب العقوبات المتصاعدة بالمزيد من التماسك الشعبي. إذ إن فنزويلا بلد لا يملك سلاحاً نووياً رادعاً كما هي الحال في كوريا الشمالية، ولا حرساً ثورياً يغيّر المعادلات الإقليمية كما هي حالة إيران، ما تملكه فنزويلا هو شعب معبأ بتحدّي العدوان الأميركي وجيشٌ شعبي مدرب بسلاح بسيط، وكان هذا كافياً لردع الأميركيين من غزو فنزويلا، فلجأوا إلى الانقلاب. ولأجل الانقلابات، تستهدف الإدارة الأميركية الضلعَ الأخير في هذا المثلّث بشكل خاص (النخبة المحيطة بالنظام) لإحداث شقّ يدفعها للتمرّد، وقانون ماغنيتسكي الصادر عام 2012 صنع لهذا الهدف تحديداً. إذ يروّج له على أنه قانون لا يستهدف الشعب والفقراء ولا يسعى إلى التجويع فهو مصمم لمعاقبة النخبة الفاسدة وبالتالي هو «أخلاقي وإنساني»، والنتيجة المأمولة هنا (الانقلاب) ستأتي اعتماداً على خوف هذه النخبة من خسارة مكتسباتها وأرصدتها في الخارج. وبالرغم من الاستخدام المفرط للقانون في السنوات الأخيرة، فإنه لم ينجح حتى الآن في إحداث انقلاب أو تغيير في نظام حكم أي دولة.
بحسب شايفر، أصبح 42% من سكان الأرض خاضعين للعقوبات في 35 بلداً في ولاية الرئيس كلينتون الأولى، الأمر الذي أدى إلى الإضرار بالاقتصاد الأميركي


كل ما سبق هو حول استخدام العقوبات الأميركية كبديل من الحرب والمواجهة العسكرية، لكن في أحيان معيّنة، مثل حالة العراق، فقد كانت تهيئة للحرب، فأميركا التي لم تحارب نداً عسكرياً قط، تلدغ خصمها بالعقوبات وتنتظر إلى أن ينتشر مفعول السم وتصبح الفريسة سهلة المضغ. تستعرض أستاذة الأخلاق الاجتماعية جوي غوردون في كتابها «الحرب الخفيّة» حول العقوبات الأميركية على العراق في التسعينيات، كيف استبقت أميركا العقوبات بقصف جوي مكثف أدّى إلى تدمير شبكات الكهرباء والبنى التحتية وكيف احتفى مسؤولون أميركيون بأن إجراء كهذا سيرفع من فعالية العقوبات. وتشرح كيف منعت أميركا لقاحات الأطفال وغيرها من المواد الأساسية تحت ذريعة الاستخدام المزدوج، وكيف قامت بالتلاعب ببعثات التفتيش عن الأسلحة وتقويض عملهم لإخفاء كذبتها حول أسلحة الدمار الشامل (1). وتستعرض أيضاً دور الأمم المتحدة كشماعة حملت عليها أميركا الثقل الأخلاقي لهذه الجريمة، ولولا تصريح مادلين أولبرايت، الشهير لوقاحته، لما تذكّر أحد أن نصف مليون طفل عراقي قتلوا بسبب هذه العقوبات وأنه ثمن مقبول بنظر الأميركيين.
ببطء وبأثمان متفاوتة، استطاع صبر وعناد شعوب مختلفة للعقوبات أن يبدأ بقلب المعادلة، حيث عمل عاملا الزمن واتساع الرقعة الجغرافية/ الديموغرافية للعقوبات لصالح غالبية الشعوب الصامدة. فعامل الزمن، الذي غالباً ما يراهن عليه الأميركيون لإحداث إجهاد يخضع الخصم كما حدث في كل من ليبيا والسودان، ساعد دولاً أخرى في ابتكار حلول في وجه العقوبات، ويساعد أيضاً في تبادل الخبرات بين الدول الخاضعة للعقوبات، والنموذج مسألة خطيرة لأنه معدٍ كما يعلم الأميركيون. أمّا العامل الجغرافي/ الديموغرافي، فهو آخذ في التوسّع مع إفراط الولايات المتحدة باستخدام العقوبات بعد انتهاء الحرب الباردة. بحسب شايفر، أصبح 42% من سكّان الأرض خاضعين للعقوبات في 35 بلداً في ولاية الرئيس كلينتون الأولى، الأمر الذي أدّى إلى الإضرار بالاقتصاد الأميركي، ففي عام 1995 مثلاً قلّصت العقوبات الاقتصادية أحادية الجانب صادرات الولايات المتحدة بمقدار 15 مليار دولار على الأقل وأدّت إلى إفناء 200 ألف وظيفة في قطاعات تصديرية عالية المدخول. في المقابل، استطاعت الدول المحاصرة بناء شبكة تعاون وبدأت في إيجاد طريقة لتلبية مصالحها الجيوستراتيجية من خلالها.

قوس المواجهة
تتعدّد مستويات أدوات الهيمنة الأميركية، من السيطرة على البحار بحاملات طائراتها والجزر الاستراتيجية التي صادرتها في مستوى أوّل مادي. إلى «المجتمع الدولي» الذي تهمين عليه من خلال تصميم المؤسسات الدولية بحيث تُخضع أميركا الآخرين ولا تَخضع، في المستوى الثاني وهو المؤسسي والسياسي. إلى المستوى الثالث، وهو الأكثر كفاءة وفعالية، وهو المالي، حيث يمكن أن يؤدي خفض التصنيف الائتماني لبلد ما والحرمان من القروض والمساعدات إلى التلاعب بسعر العملة ومنع التحويلات عبر السويفت وتجميد ومصادرة (سرقة) الحسابات الخارجية وهيمنة البترودولار. في المقابل، تنوّعت أشكال مواجهة العقوبات تبعاً للقدرات الذاتية والظروف الجيوستراتيجية لكل دولة، ويمكن رصدها على شكل قوس تصاعدي كالتالي:
1- الصمود، والأمثلة كثيرة هنا، منها العراق، وهو يعني التحدّي والصبر وإدارة الموارد المتاحة وإعادة توزيعها بشكل يستديم القدرة على التحمّل ويؤمّن الحد الأدنى للسكّان. والنجاح هنا غير مضمون لأن الصمود وحده لا يمنع الاستنزاف والإجهاد.
2- إعادة توجيه الاقتصاد وابتكار سلاسل إنتاج جديدة، وهنا امتازت التجربة الكوبية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. فخلال عقود الحصار الأولى كان الاتحاد قد أمّن للجزيرة مورداً لاستيراد مختلف الحاجات، وأهمّها الزراعية من أسمدة ومبيدات، وأمّن أيضاً سوقاً للمنتجات الزراعية الكوبية، والتي كانت في غالبها منتجات ربحية موجهة للتصدير ورثتها عن الحقبة الاستعمارية مثل التبغ والسكر والرُم. وهكذا تحت سطوة أحادية القطب وجد الكوبيون أنفسهم أمام خطر الجوع، ولذلك، وتحت توجيهات كاسترو، تمّت إعادة تنظيم الزراعة من توزيع في الأراضي الزراعية، وإعادة اكتشاف وتطوير أساليب زراعة تقليدية كثيفة الإنتاج بمدخلات طبيعية، بالإضافة إلى تنظيم الزراعة الحضرية. وهكذا صمدت كوبا وهي معزولة أمام شواطئ فلوريدا في زمن «نهاية التاريخ». ولكوبا أيضاً نموذجها الخاص في قطاعات التعليم والصحة التي امتازت بكفاءتها العالية رغم الحصار. ومن الأمثلة الأكثر تعقيداً وتطوراً لهذا المستوى من المواجهة هو بناء «الاقتصاد المقاوم» القائم في إيران.
3- تعطيل أدوات العقوبات من خلال بناء منظمات دولية وشبكات تبادل تجاري خارج منظومة «المجتمع الدولي» الغربي، والريادة هنا للصين، فعلى مستوى هيمنة الدولار كانت أوّل الدول القائلة بضرورة التبادل التجاري بالعملات المحلية منذ أكثر من خمس سنوات. وعلى مستوى المؤسسات، تشكّل «منظمة شنغهاي للتعاون»، التي بدأت بالحديث عن انضمام 10 أعضاء جدد منها دول عربية، وهناك أخبار روسية حول توسع دور المنظمة إلى ما وراء الاقتصاد من أمن وسياسية، بالإضافة إلى اقتراح من العضو المراقب الإيراني إصدار عملة موحدة، وهو أمر يتردّد صداه في منظمة «البريكس» على لسان الرئيس الروسي الذي صرح بأن روسيا تعمل مع الصين على إصدار عملة موحدة. ومجموعة «البريكس»، بدورها هي الأخرى، آخذة في التوسع مع أخبار عن تقدم الأرجنتين وإيران للانضمام وحديث عن نوايا تركية ومصرية وسعودية، وبهذا فإن «البريكس» بدأت تقدم من هيمنة «الأطلسي». وهناك أيضاً «بنك التنمية الآسيوي»، منظمة تنمية بديلة للاتحاد الأوروبي والبنك الدولي. كما تشكّل مبادرة «الحزام والطريق» مخطط مارشال عالمي بديل يقوض هيمنة أميركا المادية على خطوط التجارة.
4- تفخيخ العقوبات، والحديث بالطبع عن روسيا، التي تجرّأت على إعلان العملية العسكرية في أوكرانيا مع علمها بما سيجره ذلك من عقوبات عليها في الوقت الذي ظن «الناتو» أن سلاح العقوبات لا يزال فعالاً باتجاه واحد. إذ بنت روسيا سياساتها الخارجية والاقتصادية لتكون مورداً لا غنى عنه للغرب بالشكل الذي أعاد تشكيل اقتصادات كألمانيا اعتماداً على المدخلات الروسية ذات التخفيضات الهائلة، وعليه حذّر بوتين الألمان مراراً قبل بدء العملية العسكرية بأنهم لن يجدوا بديلاً عن الغاز الروسي الذي يصلهم بخمس السعر العالمي (وهذا في زمن تدني الأسعار). وكما هو معلوم اليوم، فإن العقوبات أوجعت دول «الأطلسي» أكثر ممّا أوجعت روسيا. من الواضح أن في جعبة روسيا الكثير من المفاجآت في وجه العقوبات، فهي مثلاً المصدّر الرئيس للتيتانيوم المعدن المحوري في صناعة الطائرات والذي لا يمكن لشركة «بوينغ» الاستغناء عنه أو عن قطعه الجاهزة الروسية، ولا يمكن توقّع تبعات حرمان شركات أشباه الموصلات من البلاديوم، ولا يمكن توقّع الكوارث التي ستنتج من تعطيل سلاسل توريد القمح الذي يتركز إنتاجه عالمياً من أوكرانيا وروسيا (2).
مع استمرار المواجهة العسكرية سيستمر قوس المواجهة بالعقوبات الأميركية في التصاعد، ما يعني أن العقوبات تتحوّل لمواجهة عالمية بدأت كفّتها بالاعتدال مع تصاعد إمكانيات رد الصاع لـ«الأطلسي» ووضعه واقتصاده في مآزق كبرى لا يحتملها اقتصادياً أو اجتماعياً ولا سياسياً. كما أن تأثير الردع الذي كان يؤدّب ويطوّع حلفاءها الثانويين بدأ بالتصدّع وهذا ما نشهده من بعض المواقف في دول الخليج والهند.
هنا، وقبل استكمال البحث، لا بد من التوقّف عند التجربة اللبنانية، التي تتسم بالانقسام بين طرف يختار الصمود ويعمل على إعادة ترتيب الموارد ويقترح المشاريع التي تعيد هيكلة سلاسل الإنتاج، ويفتح علاقات إقليمية لأسواق ومورّدين لا يرتدعون بالعقوبات، ويفتح آفاق يمكنها تجاوز الأزمة والعقوبات وإعادة إعمار الاقتصاد ليكون للبنان قاعدة إنتاجية صناعية، وطرف آخر لا يكتفي بالقبول بالعقوبات، لا بل يتلذذ بها ويطالب الغرب بتشديدها. هناك ناشطون وصحافيون يطالبون بها في المنابر الإعلامية وحتى أمام البرلمانات الغربية. هناك من يرى ولي نعمته محمد بن سلمان يتمرّد على البلطجي الأميركي ويطوّعه، بينما هو يقف حائراً كيف يمكنه تملّق الاثنين في الوقت ذاته.

«موسكو على التيمز»
بدأت العملية العسكرية الروسية وعين الغرب على الأوليغارشية الروسية. في غضون شهر، هلّت البشائر، فقد شوهد أناتولي تشوبايس وهو يسحب المال من صراف آلي في إسطنبول، لم يكن الوحيد أو الأخير، أمّا الرد الروسي كان مستفزاً للغرب إذ رحّب الكرملين بقفز أمثاله من السفينة.
بعد الحرب العالمية الثانية، وجدت بريطانيا نفسها في ورطة، إذ خسرت أغلب مستعمراتها، إمّا بالاستقلال أو بالانضواء تحت عباءة السيد الأبيض الجديد في واشنطن، وكان لا بد من إعادة هيكلة اقتصادها وتدعيمه بمدخلات استعمارية جديدة تمثّلت في استثمار حكّام مستعمراتها السابقين لمدخراتهم في مركز لندن (المدينة القديمة) الذي وفّر لهم إعفاءات ضريبية وسرّية مصرفية أخذت إغراءاتها تتزايد مع الوقت، جاعلة من المدينة الجاذب الأوّل للأموال المنهوبة لدول العالم الثالث. وهكذا خُلقت الملاذات الضريبية في ما تبقى من جزر الكومونويلث المغلوب على أمرها. ومع تقلّد مارغريت تاتشر الحكم في بريطانيا، بدأت عملية تفكيك الصناعة الممنهجة (Deindustrialization) ممّا عزز مركزية الاقتصاد المالي لبريطانيا.

تمتاز أزمة الطاقة الناتجة من العقوبات بآثارها المتدحرجة؛ ارتفاع أسعار الوقود، فتضخم، فتباطؤ الصناعات وإقفالات بالجملة، فبطالة وركود


وبسقوط الاتحاد السوفياتي وصعود الاقتصاد الحر الذي هندسه أبناء هارفرد في روسيا خُلقت طبقة أوليغارشية مافيوية فاحشة الثراء بدأت في مراكمة ثرواتها وتهريبها إلى لندن، في ظاهرة أصبحت تعرف بـ«موسكو على التيمز» (النهر الذي تقوم عليه مدينة لندن) ومع الوقت أصبح وسط لندن محجّاً لكل ناهبي ثروات بلادهم، من خليجيين وسلاف وأفارقة، ممّا جعل أسعار العقارات فيها يرتفع إلى مستويات جنونية خصوصاً مع اعتقادهم بأن شراء العقارات في لندن هو استثمار سيستمر في النمو مع الزمن بشكل لا رجعة عنه. وجاء فوج لاحق من الأوليغارشية المافيوية بعيد حملة واسعة لمحاربة الفساد بدأها بوتين. وكانت آخر جرعة هيروين من المال المجاني للاقتصاد البريطاني المفرط في اعتماده على شفط فائض القيمة من الشعوب الأخرى قادمة من فوج أوليغارشيي هونغ كونغ، إذ رأى جونسون في إعطائهم الجنسية فرصة لمناكفة سخيفة للصين وفرصة لإنعاش هذا القطاع الذي كان يمر بأعراض انسحاب مريرة في ذلك الوقت. حاول «الأطلسي» في بداية الحرب الروسية إعادة الكرّة مع الأوليغارشية الروسية، ففرضت العقوبات على عدد كبير من الدائرة النخبوية في روسيا للضغط عليهم لإحداث انقلاب أو إحداث شقوق وأزمات داخلية فيه. وهذه العقوبات أيضاً جاءت بنتيجة عكسية مخيبة للآمال، ففي الوقت الذي كان فيه تشوبايس يعلن الخروج عن طاعة الكرملين، وقف ميدفيديف في مؤتمره الصحافي الأوّل منذ بداية العملية الروسية، أمام بوتين الجالس على مكتبه من جهة وأمام مجموعة من الصحافيين من جهة أخرى، يتلو بياناً يحذّر فيه الغرب من أن ألعوبة شق النخبة عن الكرملين مسألة عبثية غير ذات جدوى، بل إن العقوبات ستشدد من اللحمة الوطنية الروسية. وهنا من اللافت كيف تم وضع ميدفيديف في مقابل هروب تشوبايس وأمثاله، فالأخير بقي في السلطة كنوع من مهادنة من تبقى من لصوص عهد يلتسين، بينما الأوّل هو في نظر الغرب أكثر أعضاء النخبة الجديدة ليبرالية وأقربها للغرب، وبالنسبة لهم فهو شخص يمكن استعماله سلاحاً في وجه بوتين، وإن لم يقفز ميدفيديف من السفينة فمن سيقفز؟ ولسخرية القدر فشلُ هذه العقوبات جاء مضاعفاً، مع بدء هجرة جماعية للأوليغارشية الروسية وثرواتها من مصارف بريطانيا وسويسرا إلى مصارف الإمارات العربية المتحدة.

تحديد الأسعار آخر ملاجئ الأوغاد
آخر مسعى لـ«الأطلسي» في حرب الأدمغة التي تخاض في ميدان العقوبات، خطة جاءت بها جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأميركية، ألا وهي فرض سعر أقصى لصادرات الطاقة يحد من أرباح روسيا المتزايدة في صادرات الطاقة. وما تحاول يلين إنقاذه ليس أسواق الطاقة وحسب، بل اقتصادات «الأطلسي» ككل بالإضافة إلى تماسك الحلف بذات نفسه. ولكن كيف تتصور السيدة يلين تطبيق ذلك؟ كيف ستجبر روسيا على بيع صادراتها من الطاقة بأقل من نصف سعر السوق؟
فكرة يلين تعتمد على شركات التأمين التي تتخصّص في تأمين سفن شحن صادرات النفط والغاز، وهي تتركّز في المملكة المتحدة بشكل خاص، ممّا يجعل «الأطلسي» مطمئناً إلى مجرى سير الخطة. إذ إن شهادات تأمين هذه الشركات شرط لدخول أي سفينة محمّلة بالنفط أو الغاز لأي ميناء، وهكذا يفترض أن تمتثل روسيا لخفض الأسعار أو تجبر على وقف الإنتاج الذي سيؤذي حقولها. ويبدو أن يلين ومؤيديها ينطلقون من مسلمات هي موضع شك، إذ يمكن لروسيا التوافق مع الهند والصين لابتكار حل مشترك، واقتصادات هذه الدول الثلاث اقتصادات ضخمة ومعقدة ومتنوعة، وهي دول خارجة عن عصا الطاعة الأميركية وإن بنسب متفاوتة، ولا يوجد أي مانع لهذا المثلث من إنشاء منظومة تأمين مستقلة بتسهيلات خاصة من حكومات هذه الدول لتجاوز آخر الخطط الأميركية العقابية. وهذا إن حدث سيكون ضربة موجعة أخرى للاقتصاد المالي الغربي، وماذا لو أضفنا الأفول المترقب لهيمنة الدولار على التبادلات التجارية ورقصة الموت التي يتبادلها مع الذهب والروبل أملاً في الحفاظ على موقعه كعملة تبادل تجاري موثوقة؟

قصة تحالفين
تمتاز أزمة الطاقة الناتجة من العقوبات بآثارها المتدحرجة؛ ارتفاع أسعار الوقود، فتضخم، فتباطؤ الصناعات وإقفالات بالجملة، فبطالة وركود، أو كما يبشّر كثيرون من الخبراء ركود تضخمي، وهكذا فالثمن الذي على أوروبا دفعه هو اقتصادها الصناعي ككل ومن بعده المالي في حال طالت الأزمة. إن التزام أوروبا بالعقوبات قد يعكس قلّة حيلتها أمام أميركا وقدرة أميركا على إكراه حلفائها على الانضباط عند اتخاذ قرارات صعبة ومُرّة على الدولة والمجتمع، وقد تكون مؤشراً على رفض «كونفيدرالية الرجل الأبيض»، كما يسمّيها الباحث مايكل هدسون، التنازل عن امتيازاتها أمام بقية شعوب العالم، ومؤشراً على أن الصراع سيستمر في التصاعد.
استخدام هدسون هنا لتعبير «كونفيدرالية» يحمل في طياته ذلك المخزون التاريخي للجنوب الأميركي من انعزالية وبارانويا التفوّق، والتمسّك باقتصاد آخذ بالتآكل والأفول لكنه يسمح للرجل الأبيض من أن يكون سيّداً على الأعراق السمراء المستعبدة.
وبطريقة ما يتصرّف «الأطلسي» على نحو مشابه اليوم، فهو يفضل تقليص «عالمه» و«مجاله الحيوي» بحيث يضمن أن يكون هو السيد على كونفيدرالية بيضاء مغلقة يحيط بها عدد من الدول التابعة والخاضعة، على أن يتشارك العالم مع دول أخرى ذات سيادة واستقلال وتريد التعاون أو التعامل بندية بناء على المصالح المشتركة. هو مستعد لتحمّل ضربات قاسية على اقتصاده (على أهميته) رفضاً للعالم متعدّد الأقطاب هذا. هذه التضحية الاقتصادية الضخمة هي في النهاية تضحية اجتماعية مهولة تتكشف تبعاتها مع الوقت؛ فلدينا الآن رفع لأسعار الفائدة في أغلب دول «الأطلسي»، وبحسب هدسون سيقود رفع سعر الفائدة إلى المزيد من التضخم والبطالة، وهنا ستستفيد النخبة من خفض الأجور وعصر الطبقة العاملة أكثر وأكثر لتكديس أكبر قدر ممكن من الأرباح. إذاً، رد الفعل الداخلي في وجه الأزمة الاقتصادية هو التضحية بالمجتمع وإنقاذ النخبة المالية التي تعمل على خلق المال بالمال (حتى الصناعات الكبرى في الغرب، وأميركا تحديداً، لتبعيّتها لسوق الأسهم أكثر من خضوعها للسوق الاستهلاكية).
كل هذا يفسّر لنا التنافر الإدراكي cognitive dissonance بين المصلحة العامة والسياسات الخارجية والاقتصادية لأميركا وأوروبا من بعدها. تفاقم الأزمة اجتماعياً سيضع هذه الديموقراطيات (3) في مواجهة شعوبها، وقد نصل إلى مرحلة يدرك فيها سكان «العالم الحر» زيف حريتهم ومعنى أن يعيشوا تحت سطوة أوليغارشية الرجل الأبيض، وكيف تتم التضحية بالفقراء والضعفاء كثمن مقبول لتحقيق المصالح الكبرى بحسب منطق أولبرايت.
بطريقة ما، شكّلت العقوبات الأميركية الحلف المقابل، فبعد سقوط الاتحاد السوفياتي انخرطت أغلب دول العالم في السوق «الحر» لتكتشف أنه حرّ باتجاه واحد وأن الحرية هنا هي حريتك في الانصياع للمصالح الأطلسية وإلا سنؤدبك بالعقوبات. شكّلت مواجهة كل دولة على حدة في وجه العقوبات ضربةً للهيمنة الأميركية، تشكّل بقعة زيت تبدأ بالاتساع رويداً رويداً، وهذا ما تبلور في العقدين الماضيين، والأهم هو التقاء هذه البقع والتشبيك بين هذه الدول لخلق التحالف الأوراسي ومن يقف مع هذا المشروع من دول أفريقية ولاتينية. وبالنسبة لهذه الدول، هناك طريق واحد للاستمرار هو التوجّه نحو منظومة اقتصادية عالمية تحت التحالف الأوراسي للدول الصناعية المنتجة خارجة تماماً عن سلطة وهيمنة كونفيدرالية الرجل الأبيض المالية. هو انقسام، أو انشطار العالم، كما كتب عامر محسن بداية الحرب، آخذ بالتشكّل بين أوتوقراطيات صاعدة وديموقراطيات مأزومة بحسب آخر مقابلات الباحث مايكل هدسون. انقسام يبدو الغرب مصرّاً عليه أيضاً وظهر في العدائية غير المبررة تجاه الصين، ومن مصاديقه أيضاً الأزمة المتصاعدة بين إسرائيل وروسيا، إذ لم يعد بإمكان العدو التلون وأجبرته ماهيته كمشروع استعماري ورأس حربة للمصالح الغربية في المنطقة على الانحياز.
«ستكون أفضل الأوقات وستكون أسوأ الأوقات» في قصة التحالفين هذه، فمن جهة هناك آفاق وفرص تتفتح في المجال الأوراسي، في المقابل عندما تجد أميركا نفسها في الزاوية غير قادرة على التطويع عبر التهديد بالعقوبات والبيروقراطية الدولية سيحشر الأطلسي بالزاوية إلى الحد الذي سيضطر فيه لاستخدام مخالبه، بينما تهدّد روسيا (والصين بنبرة أخف) من كون العقوبات أعمال حرب عدوانية تستوجب الرد العسكري المباشر. ولكن ماذا يعني ذلك، أن تضطر الإمبراطورية لاستخدام مخالبها؟ هذا يعني عودتها مئة سنة للوراء، بمعنى أنها إن كانت تريد فرض إرادتها فيجب أن تفرض ذلك في الميدان، على الأرض، وبقوة السلاح، أو أن تتقبّل واقعها الجديد وستكون هذه هي نهاية «الإمبريالية الفائقة» (4).

هوامش:
(1) هناك شهادة قديمة مهمّة ظهرت على الإنترنت أخيراً للمحلل العسكري سكوت ريتر حول استقالته من البعثة نظراً لتلاعب الحكومة الأميركية بعملها أمام لجنة من الكونغرس تتضمّن جو بايدن.
(2) مع العلم أن تدمير زراعات الحبوب في العالم والاعتماد على الاستيراد هو أحد فضائل منظمات المساعدات الأميركية والأوروبية.
(3) من الجدير بالذكر أن هدسون ينظر لفكرة الديموقراطية والجينولوجيا الغربية لها نظرة سلبية على أنها حكم أوليغارشي مخاتل للمحتكرين والربويين الذين يسعون إلى استعباد العامة من خلال الدَّين والتخلّص من مسؤولية الحاكم في حماية الرعايا من سطوة الاقتصاد المالي.
(4) عنوان كتاب الباحث مايكل هدسون الذي يشرح فيه كيف فرضت أميركا هيمنتها على العالم بقوة المؤسسات والنظام المالي الدولي.
* كاتبة عربية