كنت قد عزمت على أن لا أضيف مادة بحثية على جملة مقالاتي التي كنت قد كتبتها حول هزائم الحزب الشيوعي اللبناني واليسار عموماً، خلال سنتَي 2019 و2020 في «الأخبار». غير أنّ نتائج الانتخابات البرلمانية الماضية 2022، وما تخلّلها من ترشيحات وفوز لقوى سُمّيت بالتغييريين الذين حسبوا على اليسار إثر انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، وهذا خطأ فادح، وهزالة ترشيحات الحزب الشيوعي وبقايا يسار مرحلة السبعينيات والأصوات المتواضعة التي نالوها، حفّزتني مجدداً كي أعود لأخطّ هذه المقالة حول المسبّبات التي أدت إلى ما آل إليه واقع الحزب الراهن واليسار عموماً، من تراجع وفقدان الزخم الجماهيري الذي تكوّن في مرحلة الصعود؛ إبّان حقبة السبعينيات وتأسيس الحركة الوطنية. لكن بداية، لا بدّ من توضيح اللبس الحاصل حول فوز هؤلاء التغييريين وهل يمكن إطلاق صفة اليسار عليهم؟ حكماً لا. قد يكون بعضهم من أهل اليسار ولا يجمعهم مع خصائص هؤلاء جامع. والرأي العام يستطيع أن يميّز بين اليساري الذي يريد اقتلاع هذا النظام الاحتكاري الطائفي الفاسد من جذوره والإصلاحي النيوليبرالي الساعي إلى تحسينه وتجميله، أو، على الأقل، تسنّم بعض من مواقعه ومفاصله. أيضاً ما يتعلق برؤية هذا النيوليبرالي وارتباطه بآفاق الصراع العالمي حول توجهات القوى الدولية الرأسمالية المنطلقة من عقالها، لتقاسم موارد المنتوج الإنساني المشترك وحرمان أهل الأرض من رزقهم الطبيعي المحق لهم. أمّا عن آفاق تحالف هذا التغييري مع اليساري خلال معركة، تحسين أو إسقاط هذا النظام، فذلك موضوع آخر لا مجال لبحثه راهناً في عجالة هذه المقالة.
(هيثم الموسوي)

صعود، فبداية تراجع، وتذبذب حراكي
ناقشني أحد الأصدقاء هامساً: أليس منطقياً القول بأنّ فوز هؤلاء التغييرين كان يجب أن يُحسب لليسار؟ أجبته أن يُحسب نعم، أمّا أن يكون فلا! إن يسار حقبة السبعينيات مختلف عن واقعنا الراهن. كان يساراً محدد المعالم من جهة هويته الانتمائية وواقعه الطبقي والإيديولوجي السياسي. وعندما أخذت التناقضات تعصف بهذا اليسار الذي كان محوره الحزب الشيوعي، وذلك في مطلع ومنتصف التسعينيات من القرن الماضي، استمر هذا اليسار يتفاعل سياسياً وانتخابياً في إطار حركة اليسار التي بدأت بالتلاشي والخفوت.
إنّ تجربة انتخابات 1996 في الجنوب وما رافقها من تأسيس للحركة الشعبية الديموقراطية وتشويش الحزب الشيوعي أجواءها إلى حد الاعتراض على تركيبتها، رغم وجود مرشح له فيها، يدعم رأيي هذا حول بداية تفسخ التيار اليساري الواسع الانتشار الذي بدأ يتكوّن مطلع السبعينيات. وكانت هذه الحركة التي أطلقها في مؤتمر صحافي (راجع «السفير» 16/12/1996) عقده في نقابة الصحافة النائب الماركسي اليساري السابق حبيب صادق، وقدّم خلاله مشروع وثيقتها العامة الصادرة عن مؤتمرها الأوّل والأخير، كما مرشحيها للانتخابات البرلمانية، وهم: حبيب صادق، خضر سليم، ماجد فياض، طارق شهاب، سعد الله مزرعاني، محمود فواز، إلياس أبو رزق، وقد حصلوا على نسبة عالية من الأصوات (تفاوتت النسب بين المرشحين) أبرز مؤشر على شدة الأزمة التي كانت قد بدأت بالإحاطة بواقع اليسار اللبناني.
عودة إلى موضوعنا الأساسي: تدرّج هزائم هذا اليسار بقاطرته الحزب الشيوعي منذ التأسيس حتى زمننا الراهن. مرّ الحزب الشيوعي اللبناني–السوري، بقيادته التنسيقية الموجودة السورية–اللبنانية الخاضعة لخالد بكداش حتى عام 1964، حين انفرد اللبنانيون بقيادة حزبهم وتموضع جورج جاوي بعدما سيطرت مجموعته على قيادته، إثر التخلص من المجموعة القيادية السابقة التي أدارها ثنائي: صوايا صوايا وحسن قريطم حتى عام 1968، بمراحل ست أساسية، هي على التوالي مرحلة النشوء والتركيب وقد امتدت من عام 1922 حتى عام 1926، ومرحلة الانتشار العلني الأوّل، وتمتد من عام 1926 حتى عام 1928، ثم مرحلة الانتشار العلني الثاني، وتمتد من عام 1942 حتى عام 1948، وأخيراً مرحلة الانتشار العلني الثالث، التي امتدت في سوريا من عام 1954 حتى عام 1958، والانتشار نصف العلني في نفس الفترة في لبنان إلى أن منح كمال جنبلاط، وزير الداخلية آنذاك، الحزب ترخيصاً في مطلع السبعينيات، فأصبح علنياً وله مكاتب في كل الأنحاء اللبنانية مع غيره من الأحزاب: الحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب البعث العربي الاشتراكي الذين شكّلوا لاحقاً مع غيرهم من القوى الناصرية والديموقراطية والحزب التقدمي الاشتراكي ما سمّي يومها بالحركة الوطنية ودخلوا جميعهم في مرحلة الحرب التي امتدت من عام 1975 حتى مطلع التسعينيات مع توقيع اتفاقية الطائف. وفقاً للمناخ الستاليني في الاتحاد السوفياتي الخاضع للتوجهات الأوامرية غير الديموقراطية ترعرع الحزب الشيوعي اللبناني–السوري الذي قاده أمينه العام لعشرات السنين: التزام تام بتوجيهات ومسارات الحزب الشيوعي السوفياتي برعاية «الكوفترن»، ولاحقاً «الكومنفورم» الذي حُلّ في أواخر الأربعينيات حيث كانت مهمتهما تنظيم ومراقبة عمل الحركة الشيوعية وتوجيههما.
في تلك الحقبة، قبيل الحرب العالمية الثانية، ورغم واقع الحزب المليء بالكوابح التنظيمية لانطلاقه جماهيرياً، تمكن من إثبات وجوده وتأدية دور في عملية تعبئة الناس ضد الفاشية، والظهور انتخابياً عبر مرشحيه الذين نالوا أصواتاً اعتبارية؛ أبرزهم فرج الله الحلو، سعد الدين مومنة ومصطفى العريس في بيروت. فرج الله ترشح في جبل لبنان وقد أسقط إميل إدة وبشارة الخوري وأجبرهما على انتظار الدورة الثانية وهو الماروني حسب القيد الطائفي. كان عدد أعضاء الحزب صبيحة القضاء على حكم الفيشيين الفرنسيين حوالي 1500 عضو، أصبح عددهم حوالي ضعفي هذا الرقم أثناء انعقاد المؤتمر الأول في أواخر عام 1943 وأوائل عام 1944. وقفز هذا العدد زمن العلنية في دولة الاستقلال، بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتصار التحالف المعادي للهتلرية الفاشية، وعلى رأسه الاتحاد السوفياتي، إلى عشرين ألفاً في أواسط عام 1947، منتشرين في سائر الأنحاء. وتمكّن الحزب في هذا العام من ترشيح عدد من المرشحين للانتخابات البرلمانية، أبرزهم: مصطفى العريس الذي نال أصواتاً في بيروت مكّنته من الفوز لولا التزوير الحاصل الذي قام به عهد الرئيس بشارة الخوري لمجمل هذه الانتخابات.

نكبة فلسطين: الكابح الشعبي-التاريخي الأوّل
أدّت هزيمة الهتلرية الألمانية والفاشية الإيطالية في الحرب الكونية الثانية، وبروز المعسكر الرأسمالي بقيادة بريطانيا والولايات المتحدة، كما المعسكر الاشتراكي وعلى رأسه الاتحاد السوفياتي، إلى انتعاش نشاط وعمل الشيوعيين اللبنانيين والسوريين. ذلك أن نتائج هذه الحرب دفعت بهم إلى بدء القيام بدور مهم وملحوظ في عملية نيل الاستقلال والتحرّر والتخلص من الانتداب الفرنسي ونشوء الدولة اللبنانية. وقد أدّى هذا الانتعاش إلى رفد الحزبيين بعناصر قوة مادية، لكن تثمير هذه القوة، ونظراً إلى خيار قائدهما الإصلاحي خالد بكداش، لم يأت متناسباً مع تأثير وحجم تلك القوة ذاتياً وموضوعياً. هنا وفي هذا المفصل، برز الإخفاق المؤثر في تجسيد تلك المكاسب وبث نواة عمل طليعي ثوري كان منشوداً، وذلك عبر إطلاق برنامج عمل وتكتيك وتحالف إصلاحي بطبيعة مرنة وتصالحية غير صراعية.
مع ذلك، أدى الحزبان دوراً محدوداً، لكن ملحوظاً، على صعيد علاقتهما وتوسيع قاعدتهما الشعبية، كان من الممكن أن تكون حصيلته أكثر مردوداً، لولا فداحة الضربة التي وجهت إليه عبر تلقّفه سلباً ما استجدّ على صعيد المسألة الفلسطينية، وذلك عبر خياره الموجع والضارّ بتأييد قرار تقسيم فلسطين عام 1947 الصادر عن مجلس الأمن الدولي. هذا التأييد الذي أعاده خطوات ارتدادية كبيرة إلى الوراء وخسرانه لعديد مديد من الشعبية الجماهيرية والأعضاء والأنصار، يومها، هوجمت مكاتب الحزب في دمشق وغيرها من المدن من الناس الغاضبين إزاء هذا الموقف. وقد شجعت القوى الحاكمة المعادية للشيوعيين الجماهير على اتخاذ هذه الخطوة. كما تمّ حل الحزب في لبنان واعتقال العشرات من الشيوعيين ووضعهم في سجن بعلبك وغيره من السجون. ففي أواسط عام 1947 تمّ تقسيم فلسطين إلى مناطق عربية ويهودية. موقف الحزب الشيوعي بقيادة بكداش الذي كان ممسكاً بالقرار نظراً إلى تسلطه وهيمنته انتقل بسرعة من حالة رفض التقسيم إلى تأييده وذلك بعد تبني السوفيات له وتأييدهم إياه. تلى ذلك معاقبة فرج الله الحلو المسؤول اللبناني في الحزب الذي قال، آنذاك، «هل من الضروري يا رفاق، هل ترونه مناسباً، لأن الاتحاد السوفياتي غيّر موقفه، أن نغيّر نحن أيضاً موقفنا دفعة واحدة، مع العلم بأن الحزب منذ تأسيسه أخذ هذا الموقف المؤيد لفلسطين الموحدة، وخصوصاً أننا أصدرنا أكثر من بيان ضد التقسيم».
في تلك الحقبة، قبيل الحرب العالمية الثانية، ورغم واقع الحزب المليء بالكوابح التنظيمية لانطلاقه جماهيرياً، تمكّن من إثبات وجوده وتأدية دور في عملية تعبئة الناس ضد الفاشية

بعد هذا التاريخ، بدأت حقبة جديدة في حياة الحزب هي حقبة العمل السري. استمرت هذه الحقبة حتى بروز العهد الديموقراطي في سوريا في عام 1954. خلال تلك الفترة، صمد الحزب، بمعنى حافظ على وجوده ضد الديكتاتوريات العسكرية لحين بروز حركة الضباط الأحرار في مصر عام 1952 بقيادة جمال عبد لبناصر وما تلاها من نهوض لحركة التحرر العربية. رغم القمع والسرية المموّهة بالشرعية عمل الحزب على ترشيح بعض أعضائه ومناصريه في لبنان إلى الانتخابات البرلمانية؛ منهم عبده مرتضى الحسيني في بعلبك، عادل صباح في النبطية بالجنوب وغيرهم... أيضاً إحباط مخطط إخضاع مصر إثر تأميم قناة السويس ونشوب حرب عام 1956 من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وصعود نجم عبد الناصر وتزعمه لحركة عدم الانحياز، ما رفعه إلى مصافي زعماء عالميين مثل نهرو، سيكوتوري ونكروما، يومها، أصبحت سوريا محط أنظار العرب والعالم كونها أصبحت نقطة نزاع وصراعات بسبب استهدافها من قبل حلف السنتو الأميركي التركي. وقد تمكنت قوى حزبية سورية مؤلفة من بعثيين وشيوعيين وشرائح يسارية من الحزب الوطني وكتلة خالد العظم الديموقراطية من تأسيس تجمع برلماني واسع إثر فوز هذه الكتلة بكمية مرموقة من النواب: شكّل البعثيون فيها 19 نائباً وخالد بكداش منفرداً عن الشيوعيين. غير أن وزن الحزب الفعلي، قبل وبعد اغتيال العقيد عدنان المالكي وإحباط محاولات انقلابية موّلها الغرب (بريطانيا، فرنسا، الولايات المتحدة) ضد سوريا، ودعم السوفيات لعبد الناصر في حرب السويس بإنذار مشهور وجّهه بولغانين للحلف البريطاني–الفرنسي–الإسرائيلي بالانسحاب فوراً من مصر، كان أصبح أكبر من تمثيله البرلماني حيث رشح الحزب عشرات المرشحين ونالوا أصواتاً واسعة وبنسب عالية. أمّا في لبنان، فقد تمكّن الحزب الشيوعي من الاستفادة من هذا المناخ الإيجابي والقيام بدور في الجبهة الوطنية المعارضة لعهد كميل شمعون وهي جبهة الاتحاد الوطني وفرض مرشحاً له في بيروت هو أنطون ثابت الذي نال أكثر من 12000 صوت، والذي تمّ إسقاطه مع سائر المرشحين المعارضين، عدا نسيم مجدلاني في بيروت ورشيد كرامي في طرابلس، ومعروف سعد في صيدا الذين فازوا وشكلوا معارضة برلمانية للعهد الشمعوني الذي انتهى بثورة 1958.

1958 عام الوحدة السورية–المصرية: الكابح التاريخي الثاني للانطلاقة الجماهيرية
أصبحت الوحدة مطلباً شعبياً سورياً. نادى به البعثيون ومعهم كتل نيابية من الحزب الوطني بقيادة صبري العسلي وخالد العظم (الكتلة الديموقراطية، وحتى حزب الشعب اليميني)، أي مجمل البرلمان، كانت هذه القوى مدعومة بقوة من الجيش. وكان للشيوعيين فيه كتلة صغيرة نسبياً تمحورت حول قائده الفريق عفيف البزري ومعه شقيقه صلاح اللذان تحمّسا للوحدة وكانا من المؤيدين للحزب. في مسألة الوحدة، برز موقف الحزب الشيوعي مؤيداً لها. لكنه سرعان ما ارتبك لدى إعلانها. فبكداش أراد لها أن تكون اتحاداً فضفاضاً لا وحدة، فقدم برنامجاً اعتبر كوثيقة انفصالية بنظر دعاة الوحدة. وفي يوم انعقاد البرلمان للتصويت على هذا القرار، غاب بكداش عنه وتبيّن أنه أصبح خارج سوريا في تشيكوسلوفاكيا ولاحقاً في الاتحاد السوفياتي. هذا الموقف أحدث ضرراً بالغاً وفوّت فرصة تاريخية لاستثمار نضالات ومواقف مرحلة مهمة من مراحل النهوض التحرري في سوريا والمنطقة العربية، لاحقاً، تم ضرب الحزب ضربة موجعة جداً وانفضّت عنه جماهير واعدة، كانت قد منحته التأييد، إمّا بسبب المواقف أو بسبب القمع الشديد. أصبح الشيوعيون في سوريا ومصر في المعتقلات وخسروا إمكانية القيام بدور تاريخي كان من الممكن أن يؤهّلهم للريادة بدلاً من هزيمتهم وعزلهم. لقد دفعوا ثمناً باهظاً. أمّا في لبنان، فقد أضرّ هذا الموقف تجاه الوحدة كثيراً، لقد انعزل الحزب عن الجماهير المؤيدة للوحدة بشكل ساحق. رغماً من ذلك، وفي هذه الأجواء المعيقة جداً لعمل الحزب، أصرّت قيادته، آنذاك، على المساهمة في العملية الانتخابية برلمانياً وبلدياً ورشحت عدداً من الشيوعيين والأصدقاء بين عامَي 1960-1964؛ منهم عادل صبّاح، د. إبراهيم المعلم، المحامي جورج أبو نادر، جورج حاوي، ومصطفى العريس (1964) في بيروت والذي أحضرته القيادة من منفاه بعد غياب طويل دام أكثر من عشر سنين في أوروبا الشرقية بناءً على قرار خالد بكداش الذي أراد تغييبه. وقد نال عدداً ضئيلاً من الأصوات (2000)، بعدما حلّق في سنوات ما بعد الاستقلال، كقائد عمالي أوّل للطبقة العاملة. في حين نال الآخرون، في المتن أبو نادر 2200 صوت، حاوي 1900 صوت، المعلم في النبطية 2700 صوت والصبّاح 1700 صوت.
في العراق، حيث كان الحزب الشيوعي هناك قد أصبح جماهيرياً ومؤثراً جداً بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، وكانت تظاهراته لحماية الجمهورية وتأييد حكم عبد الكريم قاسم الديكتاتوري الذي عاد فاعتقلهم، يصل عدد المشاركين فيها إلى مليون متظاهر وأكثر، جرت تصفيته في أعقاب انقلاب عسكري دموي قام به حزب البعث مع العقيد عبد السلام عارف.

هزيمة 67: نهوض اليسار وقوى حركة التحرر وبروز المقاومة الفلسطينية
في أجواء ساخنة جراء الانقسامات التي عاشتها الأنظمة العربية، وبسبب جملة تباينات وصراعات حول عدد من القضايا الماثلة، يومذاك، أبرزها تحويل مجرى نهر الأردن، الحلف الإسلامي السعودي ومعاداة مصر عبد الناصر وسوريا (البعث) له، وصعود العمل الفدائي الفلسطيني داخل إسرائيل وبدء ظهور المنظمات على الساحات الأردنية–السورية واللبنانية وما نجم عن ذلك من حشود إسرائيلية على الحدود السورية، وسحب القوات الدولية من مضائق تيران والعقبة، نفّذت إسرائيل حربها الخاطفة يوم 5 حزيران (يونيو) عام 1967 التي انتصرت فيها على سوريا ومصر والأردن خلال سبعة أيام، ما أدى إلى ضم الضفة الغربية والجولان السوري وسيناء إليها. لقد حدثت الهزيمة ووقعت الكارثة.
كان لهزيمة الخامس من حزيران (يونيو) 1967 أثر كبير في تبلور حركية اليسار عالمياً، عربياً ولبنانياً. كما تنامت حركات التحرر العربية والعالمية. وما كانت الأزمة التنظيمية والنتائج السريعة التي تمخضت عنها بوصول مجموعة الشهيد جورج حاوي إلى سدة أمانة الحزب الشيوعي لتحدث على هذا النحو، لولا أجواء الهزيمة التي سيطرت على المنطقة كلها، والتي لم توفر واحداً من الأحزاب والتنظيمات السياسية، وكذلك لولا أجواء النهوض العام الذي شهده لبنان بدءاً من منتصف الستينيات. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن مجمل التطورات والانشقاقات التي حدثت داخل الحزب الشيوعي السوري وغيره من الأحزاب الشيوعية العربية بهدف أن تجدد نفسها، ما كان لها أن تظهر إلى السطح لولا زلزال هزيمة حرب 1967 التي سمّيت تجاوزاً نكسة.
ومنذ عام 1967، بدأت مرحلة يمكن تسميتها بمرحلة المقاومة الفلسطينية التي شهدت تصاعد العمل الفدائي في الأراضي المحتلة عام 1948 و1967 أو في العالم أو في الفضاء (خطف الطائرات) وبدأ ذلك كله يشكل إحراجاً للأنظمة والأحزاب على السواء، وخاصة أن الجماهير بدأت تشد إليه. فما كان من الأحزاب إلا أن اتبعت الطريق نفسه وبدأت السير وراء المقاومة محاولة الكسب من رصيدها المتنامي.

هذه الحرب الطائفية المموّهة بشعارات شعبوية وتحررية، كما العسكرة، وفشل الحركة الوطنية التي سادها الفساد والانتهازية، كبّدت الحزب الشيوعي واليسار خسائر فادحة


بالنسبة إلى الشيوعيين اللبنانيين، الذين بدأوا مرحلة التحول للتغيير، كي لا تطيح بهم موجة اليسار الجامحة، فإن انتقالهم إلى هذه المرحلة الجديدة لم يأت بسرعة ودونما تعثر واضطراب في العلاقات مع القوى السياسية المستجدة والقديمة كافة التي حاولت هي أيضاً اللحاق بركاب النهوض العام، والتجذّر السياسي في المواجهة. ومما زاد في بطء هذا الانتقال الخلافات التي نشبت بين فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها «فتح» أقواهم، والاتحاد السوفياتي حول تفسير قرار مجلس الأمن الخاص الرقم 242 وكذلك الموقف من الأنظمة العربية ومشروع روجرز.
في تلك المرحلة وقبيل الدخول في حقبة الحرب الأهلية، حصل المؤتمر الثالث للحزب الذي تبنى موقفاً إصلاحياً للنظام تشكّلت على إثره نواة الحركة الوطنية، وخاض معارك انتخابية برلمانية في عام 1972 ورشح عدداً من الأصدقاء والحزبيين؛ بينهم حبيب صادق الذي أسقطته الدولة قسراً، د. أحمد مراد في الجنوب، نقولا الشاوي في طرابلس (نال أكثر من 7000 صوت).

الشيوعيون في الحرب اللبنانية: عسكرة الحزب والكابح التاريخي المدمر الثالث
دخل الشيوعيون اللبنانيون هذه الحرب والأفكار الثورية والتحررية في أوج انتعاشها وازدهارها، ومعهم برنامج إصلاحي تبنته الحركة الوطنية التي تشكلت بزعامة الاشتراكي كمال جنبلاط، لخلاص لبنان من أزماته. غير أنهم سرعان ما انتقلوا إلى التجريب والانتقائية والمغامرة الضارة بالعمل الثوري وحتى الإصلاحي.
جرى هذا الانتقال بحجة الدفاع عن المقاومة الفلسطينية التي قادها ياسر عرفات بدعم من الأنظمة العربية، فكانت النتائج مأسوية، إذ انغمس الحزب الشيوعي الذي سيطرت على نشاطه، وعلى نحو كبير، حركة «فتح»، كما العسكرة، فتقلّبت الولاءات والتحالفات مع الأنظمة العربية السائدة التي أضاعت بوصلة التحرر وأصبح همها الدفاع عن المقاومة والتغيير، لكن مسارها ونتائجها كان طائفياً تدميرياً لبنية اللبنانيين كما الحزب.
هذه الحرب الطائفية المموهة بشعارات شعبوية وتحررية، كما العسكرة، وفشل الحركة الوطنية التي سادها الفساد والانتهازية، كبّدت الحزب الشيوعي واليسار خسائر فادحة، وأصابتهم بالصميم وهدرت إمكاناتهم. وما زاد الأمر سوءاً أن بنى الحزب أخذت تتفكك وتضيع ما لديه من رصيد معنوي ومادي. ألوف الشهداء والعائلات المشردة وبعثرة للقوى والممتلكات سقطت وسُيّبت في ظل أزمات داخلية أخذت تنمو وتؤثر سلباً على واقعه وتطوره. وبدلاً من أن يسحب الحزب الشيوعي نفسه من أتون هذه المحرقة الطائفية ويعلن حالة طوارئ داخلية وينزل تحت الأرض بعمل سري، اختارت قيادته الاستمرار بالمغامرة والتجريب والنزف ومراكمة الخسائر. خلال تلك المرحلة التي استمرت طويلاً، فقد الحزب الآلاف من أعضائه ومناصريه. كما دخل في صراعات دموية كان يجب أن لا يدخلها مع قوى طائفية ومذهبية وجماعات موالية لأنظمة تحركها.
وعندما وصلت التطورات إلى مفصل مؤتمر الطائف وما تلاه، كان الاتحاد السوفياتي ومعسكره قد انهارا، وبدأت التحولات العالمية تفعل فعلها. دخلت العولمة ونشأ جيل جديد إلى عالم متغيّر ومتحوّل. وفي لبنان تمكنت الطائفة من فرض منطقها ومسارها وولاءاتها. لم يعد الحزب، نظراً إلى اتساع قاعدة متفرغيه جرّاء العسكرة وتوقف مصادر التمويل، قادراً على الاستمرار في عمليات المقاومة، واضطر إلى إقفال مؤسساته الإعلامية أو بيعها (تلفزيون، صحف عالمية ويومية، دار نشر،... إلخ).
ورغم مساهمة الحزب في مرحلة الحرب في مرحلة احتلال إسرائيل لبيروت ولبنان بمقاومة المحتل، وتلك ظاهرة كانت مضيئة في تاريخه ودفع أثماناً غالية بشهداء سقطوا له، غير أنه لم يتمكن من استثمار هذا النضال على المدى البعيد. فبنيته المتهالكة ضعفاً وتخبطاً وتقلبات خطه السياسي جعلاه شبه مغيّب عن مجتمع يتحول بمقاييس ومضامين جديدة وقوى مستجدة في إطار تنامٍ ملحوظ للتيارات الإسلامية وانضباط الأنظمة العربية في حركيتها. ولم يكن القرار الإقليمي والدولي، الذي فرض على الشيوعيين بعد عام 1985 بمراقبة عمليات المقاومة ضد إسرائيل التي كان الحزب قد بدأها وطلب الإذن قبل الشروع بها، سبباً مقنعاً لإيقافها وإنهائها. فالواقع أن الاستمرار بها كان يتطلب بنية ملائمة ووضعاً مناسباً لها. وهذا الأمر كان معدوماً. فالاتحاد السوفياتي سقط لاحقاً وانتهى، والحزب أصبح في حالة لا تمكّنه أبداً من متابعة هذا المنحى إلا رمزياً.

حالة اليسار والحزب في أعقاب حقبة ما بعد «الطائف»
لقد كان لافتاً بصورة مخيفة، ذلك المشهد المتكرر في الثامن والرابع عشر من آذار عام 2005 الذي نزل خلاله أكثر من مليون ونصف مليون مواطن ومواطنة إلى الشارع بدفع من قوى المذاهب والطوائف بوجه خاص، في حين اقتصرت المسيرات التي دعا إليها الحزب الشيوعي في تلك الفترة نفسها تقريباً، وما تلاها من تظاهرات مستمرة، لحد الآن، على بضعة آلاف من الشيوعيين وأنصارهم، وفقاً لبرنامج اجتماعي اقتصادي وسياسي متواضع وموقف ينطوي على الحد الأدنى على الأقل من الاستقلال الطبقي والابتعاد الحازم في الوقت نفسه عن الاصطفاف المذهبي والطائفي. بيد أن هذا الموقف الذي بقي ظرفياً بحتاً ولم يتحوّل إلى ممارسة يومية وعمل تحريضي وتنظيمي دؤوب لأجل وضع شعاراته ومطالبه موضع التنفيذ، جاء ليعبّر عن أزمة النظام الطائفي المريض والمسموم في وقت يعاني فيه اليسار اللبناني أزمة عميقة على مستويات شتى، إذ بالإضافة إلى التشرذم والضعف البرنامجي، مع بروز حراكات مدنية مختلفة التكوين والأهداف، تحاول أخذ دوره، وقلّة الانغراس الجماهيري وانعدام الفعالية لدى المجموعات اليسارية المختلفة الموجودة خارج الحزب الشيوعي اللبناني، تدبّ في صفوف الكتلة الأهم ضمن هذا اليسار، والمتمثلة بالحزب المذكور، خلافات عميقة، أساسها تاريخي، ذاتي وموضوعي، سبق أن أدّت إلى ابتعاد القسم الأكبر من مناضليه عن الحياة التنظيمية، في هيئاته، وإلى انشقاق قسم آخر، ولو ضئيل العدد نسبياً، يجد موقعه الفعلي إلى يمين الحزب الذي انشق عنه، وهو بالضبط ما سمّي حركة اليسار وخلافه، وفي كل تلك الحالات، كان لغياب الحياة الديموقراطية الحزبية والنهج القيادي البيروقراطي الروتيني دور أساسيّ ومستمر في سيرورة التأزم هذه.
إلا أن غياب الديموقراطية وأسلوب القيادة في العمل وظهور التكتلات بديلاً من التيارات لم يكن هو السبب الوحيد في تعمّق أزمة اليسار والحزب الأهمّ ضمنه. يضاف إلى ذلك أيضاً غياب الاستقلال الطبقي والوضوح الكافي في البرنامج والممارسة، والقصور عن صياغة برنامج مرحلي يجيز رسم سياسة تحالفات آنية وأخرى استراتيجية، ينفي عنه ما يلازمه من نزاعات انتهازية ولا سيما خلال المواسم الانتخابية، تحول دون بروزه كقوة مستقلة حقاً قادرة على طرح برنامج ثوري شامل يمثل مصالح الجماهير الفعلي.
* كاتب، صحافي وسياسي لبناني