يحتدم صراع دولي على امتداد العالم في سيرورة تاريخية لإنتاج نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب على أنقاض نظام قديم يتهاوى، وتتهاوى معه منظومة الهيمنة والسيطرة الإمبريالية الأُحادية التي امتدت لثلاثة عقود بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ويمتد الصراع الكوني من روسيا ومجالها الحيوي الأوراسي إلى الصين ومحيطها الآسيوي وبعدها العالمي، إلى أميركا اللاتينية، الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، التي تشهد صعوداً لليسار التقدّمي والشعبي، مروراً بأفريقيا التي «يتمرّد» بعضها على الإرث الاستعماري، وصولاً إلى منطقتنا التي تسهم فيها قوى التحرّر الوطني في كسر الهيمنة والسيطرة الإمبرياليتيْن. إن إسهام قوى المقاومة العربية وحلفائها في منطقتنا في معركة التحرّر الوطني يتجلّى في استعادة القضية الفلسطينية موقعها المركزي بفعل تصعيد النضال الشعبي والكفاح المسلح على مساحة فلسطين التاريخية، والحضور الفاعل لقوى المقاومة العربية التي كرّست معادلات رادعة للعدو وفرضت عليه قواعد اشتباك لا يجرؤ على تجاوزها بسهولة، كما كان لانتصار سوريا على الحرب الكونية الأثر الكبير في تغيير موازين القوى الجيوسياسية لغير مصلحة القوى الاستعمارية. وهذه الإنجازات تمتد لتشمل اليمن وصموده الأسطوري في وجه قوى العدوان الأميركي والصهيوني والخليجي، ودور إيران المركزي في دعم المقاومة الفلسطينية والعربية ومواجهة الوجود العسكري والنفوذ السياسي الأميركي والغربي في منطقتنا بالتحالف والتعاون مع روسيا والصين.
في لبنان، يتحكّم بالدولة نظام سياسي طائفي أرسى ركائزه الاستعمار الفرنسي بداية، ثم أمّن حمايته وديمومته النظام الرأسمالي العالمي، والولايات المتحدة تحديداً، نظام البرجوازية الطفيلية واقتصاد الريع والزبائنية والمحاصصة، تتحكّم به طبقة اجتماعية هي تحالف بين البرجوازية المالية والتجارية والعقارية وبقايا الإقطاع وأمراء الحرب والمرجعيات الطائفية، بسياسات اقتصادية نيوليبرالية، عزّزت قطاعات الخدمات والمصارف وحمت الاحتكارات ودمّرت القطاعات الإنتاجية وسائر مؤسسات الحماية والرعاية الاجتماعية، بالتواطؤ والشراكة مع الحصار والعقوبات الأميركية والغربية على لبنان، التي فرضت بهدف إضعاف المقاومة وحصارها لكنها أدت إلى تسريع وتيرة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والمالي.
إن السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اعتمدها النظام بعد الحرب تحت عناوين إعادة الإعمار وخطط النهوض أسّست للواقع الكارثي الحالي، خاصة أن اتفاق الطائف كرّس تسوية طائفية جديدة، تمت بين أركان النظام «الجديد» برعاية عربية ودولية مؤثرة، وذلك أعاد إنتاج النظام بتوازنات سياسية واجتماعية وطائفية جديدة، وجرى تغييب البنود الإصلاحية من هذا الاتفاق، وخاصة ما يتعلق بالمباشرة بإلغاء الطائفية السياسية وقانون الانتخابات وتغييب التنمية الشاملة ولا سيما في الأطراف ليتركز النشاط الاقتصادي في العاصمة بيروت.
كل هذا فاقم سياسات المحاصصة السياسية والصفقات والمضاربات العقارية والمالية، وتمركز الثروات بأيدي أقلية برجوازية طفيلية، مقابل تعميم الفقر والبطالة والهجرة على الغالبية الساحقة من اللبنانيين، ولتمرير هذه المشاريع دون اعتراض فاعل جرى ضرب الحركة النقابية، وتطييفها وتفريخ نقابات وهمية، وتم احتواؤها وتدجينها بتوافق أطراف السلطة.
نتيجة هذا الواقع واعتراضاً على تداعياته تفجّر حراك شعبي، واسع النطاق، بدءاً من 17 تشرين الأوّل 2019، اندفعت إليه وانخرطت فيه أحزاب يسارية وقوى تغييرية وفئات شعبية شملت معظم القطاعات العمالية والمهنية، حراك عابر للطوائف والمناطق استقطب فئات اجتماعية وشبابية كانت مبعدة عن العمل السياسي، وترزح تحت ضغط ضائقة معيشية قاسية.
ولكن هذا الحراك افتقد إلى القيادة السياسية التي كان مطلوباً منها قيادة النضال الشعبي ووضع البرامج المناسبة لكي تتبلور حركة معارضة سياسية – شعبية تقدم برنامجاً للتغيير الثوري.
غير أن عدم مبادرة قوى التغيير المنخرطة في الانتفاضة الشعبية للعب دورها التاريخي في القيادة والبرنامج، وتغييب البعد الوطني للحراك، وبسبب ضعف دورها و«مسايرتها» لقوى «المجتمع المدني» المموّل والمشبوه، وترافق ذلك مع الموقف السلبي لحزب الله من الانتفاضة وقرار خروجه من الشارع بسبب الارتياب في رؤيته للانتفاضة وتبنيه الدفاع عن النظام ومؤسساته، لكل ذلك كان من الطبيعي أن تتسلل قوى سلطوية شريكة في الكارثة الاقتصادية، قفزت من المركب و«انتسبت» إلى الانتفاضة ورفعت شعارات وعناوين تستهدف قوى المقاومة وتحملها مسؤولية الأزمة. كذلك انخراط مؤسسات ومجموعات مموّلة من بعض السفارات العربية والأجنبية للعب دورها في حرف الحراك عن أهدافه السياسية الإصلاحية والتغييرية لتنفيذ أجندات داخلية وخارجية مشبوهة تناولت عناوين إصلاحية في شكل السلطة دون المساس بجوهر النظام وبنيته، وسكتت عن الحصار والعقوبات، وغيّبت هيمنة ورعاية الولايات المتحدة والغرب الاستعماري ومؤسسات النهب الدولية للطبقة الحاكمة ولنظام المصارف، وتسعى إلى ربط لبنان بالأحلاف العربية والغربية المعادية للقضية الفلسطينية ومقاومة الأطماع الصهيونية والسير باتجاه التطبيع مع الكيان الصهيوني.
إن تراجع الحراك وحالة الإحباط التي منيت بها الحركة الشعبية سمحا للنظام مجدداً بتجاوز أزماته وإعادة إنتاج مؤسساته الدستورية وتوجهاته الاقتصادية والاجتماعية والسير باتجاه تعميق الأزمة من خلال الاعتماد على برنامج صندوق النقد الدولي والاتجاه نحو الخصخصة وبيع أصول الدولة ورفض العروض المقدمة من بعض الدول الشرقية، هذه التوجهات ستزيد من عمق الأزمة وتبعاتها على العمال والفئات الشعبية وتدهور مستوى معيشة الغالبية الساحقة من الشعب اللبناني.
في ظل هذه الظروف يطرح السؤال الكبير حول دور القوى اليسارية والديموقراطية الطامحة إلى إجراء تغيير حقيقي إزاء ما جرى ويجري في لبنان؟ وأين دورها ومبادراتها باتجاه تحمل المسؤولية؟
إن حالة الضعف والتعثر التي تعيشها معظم قوى اليسار والتغيير حالت وتحول دون الوصول إلى تشكيل تحالف وطني تقدمي عريض، يربط القضية الوطنية بالقضية الطبقية، ويطرح برنامجاً سياسياً بديلاً ونقيضاً لمشروع السلطة، نحو نظام وطني ديموقراطي علماني مقاوم، يقوم على قواعد الاقتصاد المنتج والتنمية الحقيقية والسيادة الوطنية والتوجه شرقاً، نظام يحمي حدوده وحقوقه وموارده وسيادته ومصالح وحقوق شعبه.
ومساهمة في قيام هذه الجبهة ومن منطلق الشعور بالمسؤولية الوطنية تجاه شعبنا، ووفاء لشهدائنا الذين قضوا وهم يحلمون بوطن حر وعادل، وفي ظل مناخات الانقسام والتشرذم، فقد بادرت قيادتا الحزب الديموقراطي الشعبي، وحزب العمل الاشتراكي العربي، في لبنان، إلى خوض غمار حوار معمق ومسؤول منذ فترة غير قصيرة، في سياق عملية ثابتة لتحقيق الاندماج بين الحزبين على طريق الوحدة التامة، حيث تم الاتفاق على تشكيل هيئة قيادية مشتركة بينهما، وصولاً إلى تحقيق الوحدة الفكرية والسياسية والتنظيمية تحت العناوين التالية:
- النضال من أجل إقامة نظام وطني ديموقراطي علماني مقاوم في لبنان، أساسه الدولة العادلة والمساواة وتكافؤ الفرص، يحقق التنمية المستقلة والتوزيع العادل للثروة، على قاعدة إلغاء الطائفية، مع التأكيد والحرص على حرية التفكير والمعتقد.
- الالتزام بحق الشعب اللبناني في استخدام كلّ الوسائل لردع العدوان والدفاع عن حدوده وموارده وثرواته في أرضه ومياهه الإقليمية والمنطقة الاقتصادية من الخطر الصهيوني، والتمسك بخيار المقاومة للدفاع عن الإنجازات العظيمة التي تحققت بفعل تضحيات المقاومة الوطنية والإسلامية والشعب اللبناني.
- الالتزام بالقضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني، وبالشراكة النضالية مع الشعب الفلسطيني ومقاومته المسلحة من أجل تحرير فلسطين، كل فلسطين، من البحر إلى النهر.
- العمل على قيام حركة تحرر وطني عربية بقيادة ثورية لإنجاز التحرر الوطني والاجتماعي وتحقيق التكامل السياسي والاقتصادي والاجتماعي على طريق الوحدة العربية بإرادة شعبية وبعد طبقي.
- العمل مع القوى التقدمية والثورية العالمية على بناء أممية جديدة، أممية مناضلة تسهم في تنظيم صفوف الطبقة العاملة وسائر الكادحين وتقود النضال ضد الرأسمالية المتوحّشة لمصلحة الشعوب التواقة للتحرر على طريق الاشتراكية.
لذلك سنسعى لإطلاق مبادرة حوار معمق ومسؤول مع الأحزاب والقوى والمجموعات الوطنية والتقدمية والثورية المقاومة، من أجل إقامة تَحالف وطني تقدمي عريض يربط النضال الوطني والطبقي، ويتحمل مسؤولية الإنقاذ ويقترح البدائل ويشكل معارضة سياسية للنظام ويسعى لبناء الكتلة الشعبية ويفتح أفق التغيير الجذري.
إنها مَهام كبرى ملقاة على عاتق القوى الثورية والتقدمية، سنسعى لبلورتها وتحويلها إلى برامج عملية مع القوى المؤمنة بضرورة تخليص البشرية من توحّش الرأسمالية وجرائمها بحق الإنسانية على طريق الاشتراكية.

بيروت في 14 آب 2022