«فلان شخصية عامة»، عبارة تمرّ في يومياتنا كثيراً، ونتعامل معها كالمسلمات من دون أن نتفكر في معناها، والأهم ربما، من دون أن نحلل تبعاتها على تعاملنا مع هذا الـ«فلان». فانتقال «فلان» إلى فئة الشخصيات العامة يطلق في عقولنا آلية تلقائية مختلفة للتعامل مع آرائه والحكم عليها. وهذا بطبيعة الحال من عوارض التحوّل إلى شخصية عامة؛ وهو عملياً الانتقال من مرحلة تكون فيها آراء وإنتاجات «فلان» غير ذات تأثير إلى مرحلة تتحوّل فيها هذه الآراء والإنتاجات إلى تصدّر النقاش حول موضوع ذي أهميّة في الحيز العام للمجتمع. وهنا، بمجرّد أن ينطلق «فلان» إلى الحيّز العام يستحيل إلى أداة سياسية في المشروع الذي يؤمن به - حتى لو كان هذا الانتماء غير معلن ولا يعرفه إلا «فلان» ووسوساته. وبغض النظر عن كل أوهام الفردانية التي تغرقنا فيها الرأسمالية المتأخرة، إلا أنّه في هذا الحيّز لا يوجد فرد مطلق منفصل عن جماعة تخوض في مشروع، وإلا لما أصبح هذا الفرد شخصية عامّة؛ حتى ولو كان هذا الشخص من العاملين في مجالات إبداعية، فلنسمه «مبدعاً». فالروائي أو الشاعر أو الممثل أو الكوميدي لم يصبح شخصية عامّة - أي أنّه لم ينتقل إلى الحيز العام- إلا لأن مجموعة أو مجموعات ما اتفقت على أن آراءه أو إنتاجاته جديرة بالتداول، لتمثّل وجهة من وجهات النقاش العام حول عنوان ما. وهذه العملية بحد ذاتها تمثّل سياقاً ذا طابع سياسي. وعودة إلى الآلية التلقائية التي نتعامل فيها مع الشخصية العامة، يصبح الحكم على «فلان» من الحكم على المشاريع التي ينتمي إليها، ويعمل كأداة سياسية في سياقاتها.
هو يمثّل أسوأ الأدوات السياسية التي تخرج من البلاد المُستَعمَرة: المرسمل على خلفيته المجتمعية وخيانتها ليترقى في مجتمعه الجديد

فلنخرج للحظات من «العالم الحلم» الذي تسدله الرأسمالية المتأخرة على أبصارنا، ولنضع مجموعة من قيم هذا العالم على الرف للحظات. لا يمكننا، بالأخص في حالة «المبدع»، أن نرفع راية «حرية الرأي» وكأنها عجل ذهبي مقدّس له خوار، ومن ثم نمضي في طقوس عبادة له، تأخذ شكل الانخراط في دفاع مستميت عن أي أداة سياسية. ألا يحق لنا أن نسأل ما هو المشروع الذي تخدمه الأداة؟ أيكفي الاستهداف بسبب عمل أدبي أو بحثي أو إبداعي للقول إن المستهدفين في القارب نفسه - بغض النظر عن مشاريعهم وعن مشاريع مستهدفيهم؟
شخصياً لا أقبل أن أعبد عجلاً ذهبياً صِنْعته من حلي القوم، ولن أسمح بأن يُفرض عليّ عزل «فلان» الفرد عن «فلان» الأداة. سلمان رشدي، الفرد الروائي «المبدع»، أداة سياسية في مشروع استعماري، ارتضى هذا منذ زمن بعيد، وهو يمثّل أسوأ الأدوات السياسية التي تخرج من البلاد المُستَعمَرة: المرسمل على خلفيته المجتمعية وخيانتها ليترقى في مجتمعه الجديد. هو الأداة التي لا تبتغي الإصلاح في مجتمعاتها الأصلية، بل تهشّمها حتى تترقى في مجتمع تتمنى أن يتبناها. يكفي أن نراجع سياق روايتيه «أولاد منتصف الليل» و«العار» وما أحدثتاه من ردود فعل في كل من الهند وباكستان. وهذا قبل التوجّه إلى نقاش رواية «آيات شيطانية»، والتي للمناسبة اختار عنواناً لها موجهاً إلى القارئ الغربي ذي النفس الاستشراقي؛ وذلك لأن الحدث الذي يومئ باتجاهه في الكتاب يُدعى قصة الغرانيق في المرويات والموروثات الإسلامية والشرقية، ولم يطلق عليه اسم الآيات الشيطانية إلا المستشرقون.
لا يمكن أن يكون النقاش حول التعامل مع أدوات المشاريع المعادية نقاشاً يلتزم مسلّمات المشاريع نفسها، ومنها حريّة التعبير كأداة لاستكمال الاعتداء على مجتمعك. فلتتصور نفسك في حلم، في عالم سريالي موازٍ يمثل أقصى أمانيك ومخاوفك، وإن وجدت أنّك مضطر أن تلتزم هذه المسلمات كمقدّمات لهذا النقاش، فاجلس على طاولتك في المقهى وارتشف قهوتك وأطلق العنان لخيالك لتبقى في عالم هذا الحلم، في أوهام الرأسمالية المتأخرة. وأؤكد لك أنك ستجد نفسك على الطاولة مع ندماء من أسوأ أنواع المنتفعين الباحثين عن تمويل استعماري لمشاريعهم وحُسن معيشتهم، ومن أسوأ أنواع مثقفي أقذر أجهزة استخبارات الأنظمة العربية وغير العربية، التي لا تجد بدّاً من الاندماج في مشاريع المستعمر. وتذكر، أنّه في لحظة ما كان موقعك في الصراع على هذه الطاولة.

* كاتب لبناني