منذ سنواتٍ بعيدة، لم نسمع باسم سلمان رشدي، ولم نخض سجالاتٍ حول مدى صوابيّة فتوى الإمام الخميني الراحل بهدر دمه وحبرِ قلمه. لكننا على حين غرّة، نصحو لنرى صفحات التواصل الاجتماعي وأوراق الصحف تعنونُ عملية طعن شابٍّ مسلمٍ لمؤلف كتاب «آيات شيطانية»، فيما يضجّ الفضاء الافتراضي بالرأي والرأي الآخر حول هذه الحادثة، من خلال التعليقات والمنشورات التي كاد الفضاء الأزرق (الفايسبوك) يخصّص لها حصراً خلال الأيام الأخيرة. هكذا عادت بنا الذاكرة إلى عام صدور الكتاب، وإلى تلك الحقبة من الزمن، لحظة قيام الثورة الإسلامية في إيران، وانبثاق الحركات المعارضة للنظام الإسلامي، هذه الحركات التي أخذت تلقى الدعم المعنوي والمادي الكبيرين من الغرب الإمبريالي، الذي لم يفوّت فرصةً مذّاك، لغرسِ شوكةٍ لكل عدوٍّ للثورة، سواءً أكان العداء سياسياً أم إيديولوجياً.
كان كتاب رشدي المذكور في تلك اللحظة حادّاً في وقعِه. هذا ما يراه اليوم مثقّفو الرأي الآخر في إيران والعالم. قد يكون خيرَ دليلٍ على أنّ الفتوى كانت مقتضى اللحظة، تصريحات نخبة من العلماء والمثقفين ما بين الأمس واليوم، واختلاف رأي البعض بعد مرور عقودٍ على صدور الفتوى، ما يؤكّد بأنّ عامل الوقت كان معياراً مستنداً إليه في اتخاذ القرار. كانت إيران في تلك الحقبة قد خرجت لتوّها من الحرب المفروضة، وراحت تلملمُ المخلّفات والخسائر الجسيمة التي فرضها على شعبها عداءُ الغرب وتخوّفه من قيامِ حكومةٍ إسلاميةٍ قويةٍ مستقلّةٍ في المنطقة، كما فرضها استغلال قوى الاستكبار والاستعمار لشخصيةٍ قياديةٍ استبداديةٍ منصاعةٍ لأوامر الغرب، تحمل مواصفات الديكتاتور والطاغية والمجرم، مثّلها صدّام حسين ونظامه. من ناحيةٍ أخرى، کانت المعارضة الداخلية المتمثّلة بعددٍ من الأحزاب والتيارات، تشكّل عائقاً وجودياً آخر في طريق قيام الجمهورية الإسلامية.
تلك اللحظة في الواقع، كانت لحظة حسم المواقف، لحظةَ الدفاع الرادع، حيث يتمّ إيقاف أيّ محاولة لتطبيع استباحةِ المقدّسات، من خلال القول والكلمة والقلم. لقد قالها السيد محمد حسين فضل الله: «إنَّ كثيراً من المسلمين وغيرهم يستهينون بمسألة ارتباطنا بالإسلام ورسول الله، ونحن نقول إنَّ العالم المستكبر يقف لحماية شخصٍ واحد، ولكنَّه لا يقف لحماية مقدَّسات مليار مسلم، فما معنى ذلك؟ معنى ذلك أنّ الغرب يحمي الَّذين يكيدون للإسلام، لأنّه لا يريد للإسلام أن ينطلق. لهذا نحن مع الإمام الخميني في ذلك، لأنّه انطلق من مواقفه الفقهيَّة الإسلاميَّة، وليرض من يرضى، وليغضب من يغضب، "وقُلِ الحقُّ من ربِّكُم فمن شاء فلْيؤمِن ومن شاء فَلْيكفُر» (من خطبته في مسجد بئر العبد عام 1989).
يرى مهاجراني، في كتابه الأوّل في نقد رواية رشدي، أنّ الكاتب والناشر وقعا في خطأ جسيم باختيارهما الغلاف، فالمعروف أن رستم يمثّل الشرق بينما الشيطان الأبيض يمثّل الغرب


قد تبدو مواقف الشجب والرفض هذه تجاه الكتاب المذكور مثيرةً للعجب، كما صرّح أحد الصحافيين الإيرانيين في جريدة «المثقفين» الإيرانية أمس. فهذا الكتاب المعنون «آيات شيطانية»، كُتب بأسلوب الواقعية السحرية، وهو يشيرُ إلى قصة الغرانيق المزيّفة. في الواقع، كتاب رشدي عبارةٌ عن تحليلات ثلاثةِ مستشرقين حول أسطورة الغرانيق، أخذها رشدي وجمع نتائجها في كتاب. أمّا الغلاف، فقد اختيرَ بدقّةٍ عالية؛ مشهد معركة رستم مع الشيطان الأبيض، والذي يرمز إلى المواجهة بين الغرب والشرق. ويبدو في المشهد أن رستم هو الذي يمسك بعنق الشيطان. وفي هذا يرى الصحافي عطاء الله مهاجراني، في كتابه الذي كان في تلك الفترة الكتاب الأوّل في نقد رواية رشدي، أنّ الكاتب والناشر وقعا في خطأ جسيم باختيارهما الغلاف، فالمعروف أن رستم يمثّل الشرق بينما الشيطان الأبيض يمثّل الغرب. أمّا فصول الكتاب، فتدلّ عناوينها على أنّ موضوعه الإسلام وتاريخ الإسلام. مهاجراني، في كتابه، يذهب إلى تحليل اختيار رشدي للأسماء في روايته وللعناوين ولكل تفاصيل العمل، ما يكشف برأيه عن مخطّطٍ محبوكٍ بدقة وإتقانٍ. ويقول العلامة الطباطبائي إنّ الاستناد إلى قصة الغرانيق يؤدي إلى انعدام الثقة بالقرآن، وإلغاء رسالة النبيّ، وبالتالي فقدان الدعوى لأيّ اعتبار.
إذاً، تبدو المقارنة غريبةً بين كتاب رشدي وأي كتابٍ آخر. والغريب أكثر التعاطف الكبير مع رشدي اليوم، المبني على مقولة حريات التعبير وحقّ الكاتب المبدع في نشر فكره الحرّ، هذا إذا أخذنا في الحسبان أنّ حرّية الكاتب تقف عند حدود احترام القارئ- أيّ قارئ، فهل كان رشدي يقيم للقارئ المسلم المؤمن المتديّن اعتباراً حين كتبَ ما كتب؟ الكاتب الذي يتوسّل الأسلوب البذيء في حقّ دين شريحةٍ واسعة من البشر وفي حق نبيهم، أيكونُ مبدعاً حقاً؟ ليس غريباً تعرّض الأنبياء على مدى تاريخ البشرية لهذا النوع من الاستهزاء والسخرية والتوهين، لكنّ محاولة البعض القول إن الردّ على هذا الكاتب يكون بالقلم، إنما يدعو إلى التساؤل: هل كان أسلوب سلمان رشدي علمياً موضوعياً حتى نردّ عليه؟
لقد تحدّث رشدي عن الإسلام بطريقة مهينة، أستحضر هنا فكر السيد فضل الله الجميل حيث قال: «نحن لسنا ضدّ حريّة الفكر، وقد عرف التّاريخ، ومن خلال القرآن، أنَّ الإسلام يعمل على أساس أن يخوض الصِّراع الفكريّ مع كلّ الّذين يطرحون الفكر المضادّ، لكنَّ هناك فرقاً بين من يطرح أمامك فكراً بطريقة علميّة، ومن يطرح كلاماً بذيئاً يشتمل على سبابٍ وشتائم واتهامات بطريقةٍ فاحشة بذيئة. هذا الكتاب لم يطرح فكراً حتى تناقشه على أساس الفكر، هذا سبّ لنبيّنا وإسلامنا، ولا يتعلَّق بحريّة الفكر، بل يتعلَّق بردِّ العدوان، فكيف من حقّنا أن نواجه من يعتدي على أرضنا وبلدنا، وليس من حقّنا أن نواجه من يعتدي على مقدَّساتنا؟! إنَّ المقدَّسات عندنا أخطر من الأرض والوطن وكلّ ذلك».
هذا الكاتب «الهتّاك»، بتعبير المثقفين الإيرانيين اليوم، تعرّض منذ لحظة انتشار كتابه في أميركا وبريطانيا، إلى التهجّم والانتقاد. وقد امتدّت حملة الرفض هذه عبر البلدان من تركيا والجزائر وبنغلادش وكثيرٍ من الدول، حيث أكّد الأحرار والمؤمنون عبر العالم تأييدهم لفتوى الإمام الخميني.
في قضيةٍ واضحة الملامح اليوم وضوحَ الشمس، نرى اختلافاً كبيراً في أوساط مثقفينا حول قضية الفتوى بحقّ سلمان رشدي. وبغضّ النظر عن أنّها كانت مقتضى عصرها ولحظتها الفكرية والسياسية والدينية، إلا أنه يبدو غريباً أن نناديَ بحرّية الفكر والتعبير، بينما لا يمكننا تقبّل الرأي الآخر، فنذهب إلى اتهام المؤيدين للفتوى بأنهم إرهابيون تكفيريون؛ هذا التخويف الذي اعتدناه في صفوف الغرب الذي اخترع ما يسمّى «الإسلاموفوبيا»، وراح يلعب على وتر العواطف الشرقيّة والعربيّة، التي ازداد زخمها أخيراً مع الرغبة العارمة في سلوك مسار الحداثة، ونسف كلّ ما يعيقُها خلال الطريق. هناك، حيث ألصِقَت صفة «الرجعية» بكل خطاب ديني أو متديّن. ربما أصبحت الحداثة اليوم حداثة رفض الدين ونقده وإقصاء كل خطاب يخرج من «متديّن» انطلاقاً من الحكم السابق الذي يرى بأن الدين سبب كل ارتكاسةٍ لنا في طريق الحداثة الحقيقية، وأن الدين ارتبط دائماً بالسلطة، حداثة على الطريقة الأتاتوركيّة أو على الطريقة البهلوية. هكذا زرع الغرب دائماً وكل يومٍ أفكاره وبذل المال وأمّن الحراسة لكل الأقلام التي قد تحقّق له مآربه. فأيّ فكرٍ حرٍّ كان لرشدي؟ وأيّ حرية تعبيرٍ هي هذه الحرية المسيئة إلى مقدسات البشر بكل الألفاظ المشينة التي ينبو عنها السمع؟ وكيف يقيمُ البعض مقارنةً بين رشدي وشهداء التصوف والعرفان أو رجال اللاهوت الذين استشهدوا عبر التاريخ.
في النهاية، ثمّة شخصٌ طعنَ رشدي خلال المؤتمر، بعد أكثر من ثلاثة عقودٍ على إصدار فتوى قائد الثورة الإسلامية بحقّه. شخصٌ واحد، ما زلنا غير ملمّين بأسبابه المباشرة وغير المباشرة، وبما خلف هذه الحكاية من تحريضٍ غربيٍّ محتملٍ، ولا سيما في هذا التوقيت من لحظتنا الراهنة.
استشهدَ الحلّاج لأنّه عبّر عن فنائه في الله وحلول الله فيه، ومات السهروردي والقاضي الهمداني لكشفهما أسرار الربوبيّة. وقتلَ بنو إسرائيل الأنبياء وعذّبوا القدّيسين، وأُحرقت مكتباتُ كبار رجال الدين وكتبُ المراجع العظام من قبل إرهابيي الفكر والدين. أمّا نحن، فلا نزال هنا، نناقشُ موضوعَ رجلٍ شتمَ الدين والنبيّ ومقامَ الألوهة. إذا مات رشدي، قد يكتبُ هؤلاء عنه: شهيد القلم!

* كاتبة إيرانية