مرة أخرى ينقسم المثقفون الفلسطينيون والعرب حول الحرب الدائرة حالياً في أوكرانيا. البعض نظر لتلك الحرب على أنها مسألة محلية أوكرانية، ينبغي النظر إليها أخلاقياً كدولة تتعرّض لعدوان روسي، ومن واجب المثقفين الفلسطينيين والعرب والشعوب العربية الوقوف معها انطلاقاً من كونهم شعوباً تعرّضت وتتعرّض للعدوان الصهيوني والإمبريالي الغربي، ولا يجوز أن يتم الكيل بمكيالين كما تفعل القوى الإمبريالية. منطلق هؤلاء الأساس في ذلك الموقف هو الإيمان بحق تقرير المصير للشعوب... كل الشعوب من دون تمييز ومن دون تدخّل من أحد.ولكي تفسّر هذه الفئة من المثقفين موقفها الذي يبدو على أنه مضاد لروسيا ولبوتين أكثر منه منحازاً لأوكرانيا ورئيسها زيلينسكي، تحاول التذكير باستمرار -وهي تتشكل غالباً من اليسار أو من الذين كانوا يساراً في الماضي- أن الحديث يجري عن روسيا الرأسمالية التي لم تعد لها علاقة بالاتحاد السوفياتي. محاولة بذلك سحب البساط الأيديولوجي من الطرف الآخر الذي يفترض أنه ما زال يخلط بين الحالتين. بمعنى أن تأييد روسيا من قبل هؤلاء ما هو إلا امتداد للموقف التاريخي المنحاز للاتحاد السوفياتي. كذلك تذكّر بأن بوتين ليس أكثر من «ديكتاتور رأسمالي» يقف ضد الشعوب ورغبتها في التحرر، و«أفضل» مثال يؤتى به في هذا المجال هو التدخل الروسي في سوريا «انحيازاً للأسد ضد شعبه».
أمّا الجانب الثاني الذي يقف، أو يبدو أنه يقف، إلى جانب روسيا في تلك الحرب فهو بأغلبه لا يرى ما يجري من عمليات عسكرية في أوكرانيا حرباً محلية بين بلدين، بل هي حرب، أو لنقل صراع، بين المعسكر الإمبريالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة. ذلك المعسكر الذي يحاول الحفاظ على النظام العالمي الحالي ذي القطب الواحد، والذي يتحكّم فيه الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة، بمصير العالم، أو بمعظم مصيره، وبين قوى صاعدة في العالم أساسها الصين وروسيا، غير المرتاحة لنظام القطب الواحد، وتسعى لتغييره باتجاه نظام دولي متعدد الأقطاب، يكون أكثر عدلاً، أو هكذا يفترض أن يكون.
هذا الجانب، أو معظمه، يتفهّم وجهة النظر الروسية التي تقول بأن الغرب هو في حالة عدوان على روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي بعد هزيمته في الحرب الباردة، وأنه لا يجوز الاستمرار في السكوت أو التغاضي عن ذلك العدوان، الذي تمثَّل في إهانة كبيرة لإمبراطورية ضخمة كروسيا، وفي إثارة القلاقل داخل روسيا الاتحادية نفسها وأبرزها الحرب في الشيشان، ومن ثم مد حلف شمال الأطلسي، الذي يعلن علناً أن روسيا هي عدوّته الأساس، إلى دول شرق أوروبا والتي كان جزء منها جمهوريات سوفياتية مثل إستونيا ولتوانيا ولاتفيا، ومحاولة مدّه إلى جورجيا ثم أوكرانيا حيث كان ذلك السبب المباشر في الحرب الحالية.
وفي سياق الدفاع عن وجهة نظره في تلك الحرب، يذهب هذا الجانب إلى الحديث عن تفاصيل التاريخ والديموغرافيا وأحياناً الأيديولوجيا لأوكرانيا ومدى ارتباط ذلك البلد، وجزء لا يستهان به من شعبه، بروسيا وبالروس هوية وفكراً وتاريخاً ولغة وثقافة.
من الجدير التنويه هنا أنه لا يمكن استبعاد أن بعض المتبنّين لوجهة النظر هذه، وهم بالمناسبة أيضاً يسار أو كانوا يساراً، ما زال لديهم نوستالجيا إلى أيّام الاتحاد السوفياتي، وهم يخلطون -وغالباً بتقديري من حيث لا يدركون- بين الاتحاد السوفياتي وروسيا، ويقومون بتقييم الأمور بخلفية أيديولوجية منحازين إلى البلد الذي كان اشتراكياً، وربما هو «يمثّل» الآن أنه لم يعد كذلك.
لكن بالمقابل توجد هذه الخلفية الأيديولوجية لدى الطرف الأوّل (المنحاز لأوكرانيا) أيضاً، حيث يتم وضع الولايات المتحدة وروسيا في نفس المرتبة بالقول إن روسيا رأسمالية وكذلك بوتين تماماً مثل الولايات المتحدة وبايدن. إن ذلك هو تسطيح لواقع أكثر تعقيداً. إن هذا يعني، بشكل أو بآخر، أننا لا ينبغي أن نكون مع أي طرف في أي حرب إذا لم يكن أحد المحاربين اشتراكياً. صحيح أن لكل الحروب ضحايا من البشر، لكن كثيراً من الحروب التي شنّت في التاريخ لها ما يبرّرها حتى وإن كانت أنظمتها السياسية، أو نظمها الاقتصادية الاجتماعية، من نفس «النوع»؛ حرب أكتوبر 1973 بين مصر وإسرائيل على سبيل المثال هي حرب بين دولتين «رأسماليتين» بشكل أو بآخر، لكن فيها من هو محق يريد تحرير أرضه ومن هو معتدٍ.
من الضروري أن ننتقل من خانة المع والضد إلى كيف يمكن الاستفادة من مخرجات هذه الحرب الدائرة


ذلك ينطبق على الحرب في أوكرانيا أيضاً، فروسيا رأسمالية وكذلك أوكرانيا والولايات المتحدة والغرب، لكن ذلك لا يعني أن الجميع متشابهون. وحتى عندما نسلّم بأن كل هذه دول رأسمالية إلا أن كلاً منها بلغ في عدوانيّته وإمبرياليته وتسلطه على العالم مرتبة تختلف عن الآخر. إن الذهاب إلى ضرورة أن يكون أحد المتحاربين اشتراكياً حتى تكون حربه عادلة لا ينم إلا عن أصولية فكرية لا تبتعد كثيراً عن القول بأن الوطن لا تحرّره إلا «الأيدي المتوضئة». وضمن خلط الأوراق الذي يقوم بها الطرف الأوّل، أو بعضه، والذي يساوي بين روسيا وأميركا، وبوتين وبايدن، يتم الحديث عن أن الطرفين داعمان لإسرائيل بشكل أو بآخر، سواء تاريخياً حيث اعترف كل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة بإسرائيل منذ البدايات، أو في وقتنا الحاضر حيث تدعم الولايات المتحدة إسرائيل بلا حدود وكذلك تقوم روسيا بغض النظر عن الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة على سوريا رغم تواجد جيشها وقواعدها هناك.
هناك كثير من الصحة في ذلك بالطبع، لكن هناك كثيراً من الخلط أيضاً. فأميركا تقف مع إسرائيل استراتيجياً وسياسياً وعملياتياً وأيديولوجياً. بايدن يقول إنه صهيوني من دون تحفّظ، ومن دون أن يبذل أي جهد لمجاملة آخرين قد لا يكونوا سعداء بهذا الموقف. لقد جاء «إعلان القدس» الذي نتج من زيارة بايدن لإسرائيل ليؤكد أن الولايات المتحدة تقف مع إسرائيل في كل شيء، بل إن مصير إسرائيل مرتبط عضوياً بمصير الولايات المتحدة. جاء هذا يوماً واحداً فقط قبل اجتماعه في قمّة الرياض مع دول عربية يفترض أن بعضها ما زال يعتبر أن إسرائيل دولة محتلة.
أمّا روسيا، فإن موقفها من إسرائيل ليس محكوماً بأيديولوجيا أو باستراتيجيا بقدر ما هو محكوم بسياسات مرتبطة برؤى للمصالح الروسية الآنية التي تتغيّر من حين لآخر. لكن روسيا تدرك بالأساس أن إسرائيل هي الحليفة الأوثق للولايات المتحدة، وأنها لن تكون إلى جانبها في يوم من الأيام في حال وجد التناقض الروسي - الأميركي.
بوتن هو قومي روسي أورثوذكسي، هو ليس ضد إسرائيل من حيث المبدأ لكنه أيضاً ليس معها أيديولوجياً وعلى طول الخط. من غير المعروف عنه أنه موال للصهيونية، لم يقل ذلك، وخلفيته كلها لا تشي بذلك، وإن كان على ما يبدو يدرك التقاطعات بين روسيا وإسرائيل في بعض القضايا، وبالتأكيد فإن مواقفه في ما يتعلق بالسكوت أحياناً عن الممارسات الإسرائيلية ضد سوريا هو شيء يجب أن لا يدخل في نطاق التفهم من قبلنا في يوم من الأيام وهو مرفوض بالنسبة لنا تماماً.
هذا هو ما عليه الوضع بالنسبة للفلسطينيين والعرب، وبخاصة مثقفيهم، في ما يخص الحرب في أوكرانيا، لكن ذلك بتقديري ليس هو الأهم، ولا ينبغي أن يكون هو الأساس. إن نقاش أننا مع الحرب أو ضدها لم يعد مجدياً ما دامت الحرب قد وقعت، لذلك من الضروري أن ننتقل من خانة المع والضد إلى كيف يمكن الاستفادة من مخرجات هذه الحرب الدائرة، أو على الأقل كيف يمكن أن نتلافى ما يمكن أن يشكل ضرراً على شعوبنا وبلداننا.
لقد أوضحَت الحرب حتى الآن بعض الحقائق، أهمّها أن «الغرب» بلغ حدّاً من العنصرية لم يسبق له مثيل، تجلّى ذلك في التصرّفات والمواقف تجاه اللاجئين، بتصنيفاتهم المختلفة، سواء في تحديد من يحق له دخول هذه الدولة أو تلك، ومن يحق له ركوب القطار ومن يرمى منه، أو في القوانين المطبقة على اللاجئين بحسب تلك التصنيفات. لقد أظهرت العقوبات التي فرضت على روسيا، أن العنصرية الغربية ليست فقط ضد المسلمين أو الشرقيين، بل ضد كل من يقف في طريقهم سواء كان أبيض أو غير أبيض، مسلماً أو غير مسلم، كاثوليكياً أو أورثوذكسياً... وصلت العقوبات ذات الطابع العنصري إلى موقف سلبي من ثقافة روسية عريقة، ومن كتّاب روس أثروا الثقافة الإنسانية، وتم طرد الطلبة الروس من جامعات غربية يفترض أنها تمثّل رمزاً للانفتاح والتسامح والتحرّر والديموقراطية وحقوق الإنسان.
لقد فتحت الحرب الأوكرانية أعيننا على مدى الهيمنة التي يمارسها الغرب علينا كعرب وكشرقيين وعلى كل الشعوب وحتى الدول الضعيفة وغير الضعيفة في العالم، الصديقة منها للغرب أو غير الصديقة.
الولايات المتحدة تحدّد للشعوب وللدول أصدقاءها وأعداءها، ما يمكن أن تعمله وما لا يمكن، تقرّر منْ من الدول تستطيع أن تنقّب عن ثرواتها ومن لا تستطيع، ومن يجوز له أن يزرع القمح أو عليه استبداله «بالفراولة» مثلاً. لقد أَجبرت الولايات المتحدة العراق على إنهاء عقده مع شركة «سيمنز» الألمانية لإنتاج الكهرباء في العراق وأجبرته على الارتباط كهربائياً بالسعودية والأردن. وأجبرت دولة كأستراليا على فسخ العقد الذي وقعته لشراء غواصات فرنسية واستبدلتها بغواصات أميركية... عند الولايات المتحدة لا فرق بين حليف وغير حليف، وصديق وغير صديق، فالكل يجب أن يلتزم بما تمليه الإرادة الأميركية العليا.
من أهم ما كشفته الحرب الأوكرانية حتى الآن، على الأقل في منطقتنا، أن بعض الأنظمة الموالية للولايات المتحدة هي ليست راضية تماماً عن تلك العلاقة، وهي تتحيّن الفرص للتحرّر ولو بشكل بسيط من تلك العلاقة (الهيمنة). لقد ثبت بشكل أو بآخر أن ارتباط تلك الأنظمة بأميركا ليس بالضرورة نابعاً من إرادة مستقلة، أو من إعجاب بها، وإنما هي على الأغلب -على الأقل في بعض جوانبها- استجابة للخلل القائم في النظام العالمي، وتعبيراً عن ضعف هذه الأنظمة أمام التحدّيات التي تواجهها، واتقاء لشر الدول الأقوى بما فيها الولايات المتحدة نفسها. لقد أثبتت قمّة الرياض الأخيرة بقيادة بايدن، وفي ضوء ما يجري في أوكرانيا حالياً، مدى رغبة بعض تلك الأنظمة في تقليل منسوب الهيمنة الأميركية عليها، رغم وضوح بايدن في عدول الولايات المتحدة عن قرارها مغادرة المنطقة لأنها لا تريد أن تترك فراغاً تملؤه الصين أو روسيا أو إيران.
في ضوء هذه «الحقائق» التي تأكدت من ما جرى في أوكرانيا حتى الآن وانعكاسات ذلك على النظام العالمي، أقول إن الاصطفاف مع روسيا أو أوكرانيا والغرب بالنسبة لشعوب منطقتنا ودولها ليس هو جوهر الموضوع، بل إن مهمّتنا الأساسية، وسؤالنا الأساس، هو كيف على شعوبنا ودولنا أن تعمل لكي تكون أحد الأقطاب التي تتشكّل في النظام العالمي الآتي، بخاصة أن منطقتنا تملك كل المقومات المطلوبة لذلك. إنها فرصة تاريخية قد تأتي بها تلك الحرب لكي تسعى شعوب الشرق للتخلّص من كل أشكال الهيمنة، ولتستعيد سيادتها واستقلالها الحقيقي، وذلك بتقاربها وتكاملها ووعيها الجيوستراتيجي بمصالحها المشتركة ومصيرها الواحد. في كتابي المعنون «تحرير الشرق... نحو إمبراطورية شرقية ثقافية»، تم الحديث عن ضرورة وعي شعوب المنطقة لمصالحها المشتركة بانتظار «الفرصة التاريخية» التي قد تأتي لتجعل بالإمكان إنشاء «إمبراطورية» الشرق التي تشكّل قطباً وازناً وموازناً بين الأقطاب الأخرى في العالم. إن أي نظام عالمي مقبل لن يكون عادلاً ومتوازناً وأخلاقياً إذا استمرت شعوب الشرق مفرقة وضعيفة ومهيمناً عليها من أي كان، وإذا استمر الشرق ساحة لصراع الآخرين، ولا يشكل لهم إلا مصدراً للثروات الطبيعية، وسوقاً للاستهلاك. إن العالم سيصبح أكثر استقراراً وأمناً وثراء في ظل وجود قطب شرقي سيد ومستقل ومتوازن.
من المهم أن تعرف الأطراف المتقاتلة الآن في أوكرانيا أن السعي لنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب لن يكون حقيقياً في ظل وجود دول تحتل شعوباً أخرى وتمارس العنصرية على تلك الشعوب، والمعني هنا بالأساس إسرائيل. إن حديث أي من المتصارعين في أوكرانيا، وبالأساس روسيا والرئيس بوتين، وكذلك الصين، عن نظام عالمي جديد لن يكون صادقاً ومطمئناً إذا لم يقترن بالتعامل مع إسرائيل كدولة احتلال وبالتعامل مع الصهيونية كفكر عنصري، وأن النظام العالمي العتيد هو الذي ينبذ الاحتلال وأية عنصرية مهما كانت. لقد تميّز النظام العالمي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية بتجريم النازية ونبذها، والنظام المقبل لن يكتمل إلا إذا نبذ الأفكار العنصرية التي تسمح وتبرّر انتهاك حقوق الشعوب المضطهدة وفي مقدّمها الشعب الفلسطيني.

* كاتب وأكاديمي فلسطيني