ذهب البعض قبل بضع سنوات إلى ما أُطلق عليه تفكيك «شيفرة حزب الله». وتمّت الاستعانة في هذا المشروع بخبراء ومثقفين من لبنان ومن مؤسسات بحثية أجنبية. إلا أن تفكيك الشيفرة على ما يبدو تعثّر، وبقي حزب الله حالة عصيّة تربك الكثير من الحسابات الداخلية والإقليمية والدولية. من أبرز وأهم الأفكار والاقتراحات التي تم تداولها ليس لتفكيك الشيفرة فقط بل لتفكيك جوهر الحزب وإنهاء وجوده هو مشروع «نزع سلاح المقاومة». وعلى الرغم من القرارات الدوليّة وحملات سياسية وإعلامية لم تتوقف من أكثر من عشرين عاماً، بخاصة بعد التحرير عام 2000 مباشرة، وحتى بعد حرب تموز 2006، لم تتمكّن أي جهة من وضع أي تصوّر لنزع هذا السلاح، ما يُعتبر أحد أبرز المؤشرات على تعثّر وصعوبة تفكيك هذه الشيفرة.
لقد ظن البعض أن نزع السلاح سيعيد لبنان إلى ما قبل 1982، أي إلى حقبة «قوة لبنان في ضعفه»، بما ينهي ذريعة المواجهة مع إسرائيل. وتوهّمت بعض القوى السياسية والطائفية اللبنانية أن نزع السلاح سيعيد الغلبة إلى ما كانت عليه قبل الحرب الأهلية، ويُعيد الشيعة بلا «مجتمع مقاومة» إلى ما كانوا عليه من تهميش.
ربما لم يلتفت مشروع التفكيك إلى أن تجربة المقاومة شكّلت بعد أربعين عاماً منذ 1982 نصف تاريخ لبنان الحديث، بحيث تلازمت تجربة المقاومة مع هذا التاريخ وبات من المتعذّر، وربما من الخطأ، على المستوى البحثي في تاريخ لبنان، وعلى مستوى التحولات الاجتماعية والسياسية، أن نفصل بين هذا التاريخ وبين تجربة هذه المقاومة. أي ما قبل حزب الله وما بعده.
تلازمت هذه التجربة في الوقت نفسه مع نمو غير مسبوق تاريخياً في البيئة الشيعية على المستويات التعليمية والثقافية والاجتماعية والخدماتية، وتشكّل شعور في هذه البيئة بأن أي استهداف للمقاومة هو استهداف لها.
أوّل الغيث في «شيفرة» حزب الله أنه استطاع بعد إنجاز التحرير أن يقدّم أطروحة ثقافية سياسية هي نتاج الصراع الميداني مع العدو طوال أربعة عقود، لم تكن متداولة سابقاً، هي «ولّى زمن الهزائم وجاء زمن الانتصارات»، ليعقبها أطروحة مكمّلة لها هي «إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت».
أمّا الشيفرة الثانية في تجربة حزب الله فهي أنه طرح بشكل فاعل وعملي في بلادنا قضية تشكيل قوى رديفة للجيوش في مواجهة التهديدات الخارجية. وهذا يحتاج إلى إعادة التفكير الجدّي في الأدبيات النظرية التقليدية للحروب التي تعتمد كلياً على الجيوش.
لم ينتظر الأميركيون والإسرائيليون تفكيك الشيفرة، وربما لم يراهنوا كثيراً على فاعليتها، بل ذهبوا إلى مشروع سحق هذه المقاومة وتشريد مجتمعها في حرب 2006، لكن نتائج هذه الحرب أدّت إلى تثبيت ركائز حضور الحزب الإقليمي بدلاً من سحقه والقضاء عليه. ما زاد لاحقاً من تعقيد مشروع الشيفرة وتفكيكها.
ثمّة أطروحة على جانب كبير من الأهمية، هي ما يطلق عليه «مجتمع المقاومة». إذ يعتقد من يريد التفكيك أن إبعاد المجتمع الشيعي عن المقاومة سيؤدي إلى عزلها. لكن في تحليل الواقع سيتبيّن أننا لسنا أمام ثنائية مجتمع ومقاومة. لأن المجتمع تحوّل إلى «مجتمع مقاومة» تدريجاً مع نمو المقاومة وتثبيت انتصاراتها وبناء مؤسساتها، وهو لم يكن كذلك قبل المقاومة. بالتالي لا يمكن أن نفصل هذا الحزب عن مجتمعه وقد تشكّلا معاً طوال العقود الماضية. وعلى الرغم من الجهود الهائلة والجبّارة الإعلامية والسياسية والنفسية، التي بُذلت للتفريق، بقيا جسماً واحداً بحيث يمكن القول بخطأ الفصل بين مكونين هما حزب الله ومجتمع المقاومة. وهذا من تعقيدات الشيفرة.
من يقرأ في وصايا شهداء حزب الله سوف يعثر على باطن هذه الشيفرة من خلال وصيّتين ثابتتين: الأولى التأسي بالإمام الحسين في عاشوراء والثانية هي استمرار المقاومة. بحيث لا يمكن أن نفصل هنا أيضاً بين دافعية المقاومة واستمرارها، وبين التطلع للشهادة. وهذه من أدبيّات الثقافة الشيعية، ومن الأدبيّات التي أحيتها الثورة الإسلامية في إيران التي قال عنها الإمام الخميني أن «كل ما عندنا هو من عاشوراء».
بات حزب الله في العقل الأمني والسياسي والإعلامي والعسكري للعدو الإسرائيلي. يحسب ما يفعله، وما يمتلكه، وما يطلقه من مواقف أو تهديدات، أو حتى من مسيّرات. وبات هذا العدو يفكر في رد فعل المقاومة لو أراد أن يقوم بأي استفزاز، أو اعتداء. بات هذا الواقع من شيفرة كيان العدو الذي فقد مشروعه من الفرات إلى النيل، ولم يعد الكيان آمناً.
لم يسقط حزب الله بعد الانتصارات التي حقّقها في فخ إغواء الهيمنة على السلطة. فقد أدرك مبكراً خصوصية الوضع اللبناني الطائفي، كما لم يسقط قبل ذلك في فخ أسلمة المجتمع الذي سقطت فيه كثير من الحركات الإسلامية، وإن بقي الحزب متمسكاً بتكوينه العقائدي.
لكن تجربة المقاومة في السلطة التي ينتقدها البعض، تختلف عن تجربتها في الميدان. ففي الميدان كانت المقاومة تقاتل طوال سنوات بالأدوات التي صنعتها هي، من تعبئة، وتدريب، ورصد، وتسلّح، وتخطيط وتنفيذ. وكانت قيادة المقاومة هي التي تقرّر متى، وأين، وكيف. وهي التي تصدر الأوامر، وتقدّر الظروف... ولهذا السبب حقّقت المقاومة تلك الإنجازات التاريخية.
أمّا في تجربة الشراكة في الحكم التي لم تتحقق فيها الإنجازات المتوقعة، فقد اشتغل حزب الله، على عكس تجربته في الميدان، بأدوات صنعها الآخرون، مثل النظام الطائفي والمحاصصة الطائفية والمحسوبيات، ومافيات الاستيراد، وحماية الاحتكار، وحماية الفساد... ولا شك أن التزام حزب الله بالتفريق بين التناقض الرئيس مع العدو الصهيوني، وبين التناقض الثانوي مع مشكلات وتعقيدات الداخل اللبناني، كان أساس هذا التفاوت بين تجربة الشراكة وتجربة المقاومة. ومن المعلوم أن دولاً كبرى حاولت إغواء الحزب بعد التحرير عام 2000 ليتخلى عن هذا التناقض مع العدو في مقابل الحصول على ما يريد في الداخل، ولم يقبل الحزب. ما زاد تفكيك شيفرته تعقيداً.
لم يخف حزب الله علاقته بالولي الفقيه كمرجعية دينية وسياسية. وهي المرة الأولى في تاريخ شيعة لبنان التي سيكون لهم فيها ظهير إقليمي وقوي، بعد انتصار الثورة في إيران، في حين أن الطوائف الأخرى مثل السنة والمسيحيين، عرفوا مثل هذا الظهير الإقليمي والدولي، وسبقوا الشيعة إليه قبل أكثر من قرن من الزمان. أمّا الأهم في هذه العلاقة مع ولاية الفقيه، وخلافاً لما يعتقده كثيرون، أنها ليست علاقة تبعيّة، بل على العكس، إنّ ما يراه حزب الله مناسباً في لبنان، تتبنّاه إيران وتلتزم به. وإيران اليوم دولة قوية وصاعدة وتزداد نفوذاً على المستوى الإقليمي. وهذا من مكونات الشيفرة أيضاً. كما جعلت الولاية الحزب قوة متماسكة حتى بعد أربعين عاماً، فلم يعرف مصير أحزاب وحركات مماثلة من التشظي أو التفكك والانقسام.
لم يصبح حزب الله قوة إقليمية بعد مشاركته الحرب في سوريا. فقد بدأ هذا الدور بعد الطلقة الأولى على جيش الاحتلال عام 1982. ربما بات بعد تلك الحرب أكثر حضوراً على المستوى الإقليمي. لأن القاعدة تقول إن من يطلق رصاصة فعلية على الكيان الإسرائيلي، ذي العلاقة العضوية بالغرب، يصبح جزءاً من المعادلة الإقليمية. فكيف بمن استطاع أن يجعل الإسرائيلي يحسب له ولمواقفه وسلاحه وصواريخه وحتى لمسيّراته ألف حساب! إن نهاية الحرب في سوريا لن تنهي الدور الإقليمي للحزب.
لم ينقطع التواصل بين أجيال الشيعة في تجربة المقاومة. فقد كان يُظن أن الأبناء لن يسلكوا درب الآباء، وسينصرفون إلى خيارات الحياة الأخرى مع التشويه المتعمّد لصورة حزب الله والاستخدام المتزايد لوسائل التواصل. لكن تجربة أربعين عاماً كشفت استمرار هذا الترابط إلى حد كبير، وأن أطروحة صراع الأجيال لم تنفع، فضلاً عن أنها هي أصلاً أطروحة غير صحيحة في المجالين التربوي والأسري في بلادنا. وهذا ما يمكن أن نسميّه شيفرة التواصل.
قد يكون حزب الله هو التنظيم الوحيد الذي يعمل لتهدئة اندفاع أنصاره ومؤيديه في أصعب المواقف والظروف، والذين يستجيبون من دون تردّد لما تطلبه قيادتهم. وهو يختلف بذلك عن معظم قيادات الطوائف والأحزاب في لبنان التي تعمد إلى افتعال التحريض والإثارة لتحفيز الناس والجمهور. وربما هي شيفرة الضبط والتوجيه. ولا ننسى كيف ارتكب بعض اللبنانيين خطأ فادحاً عندما لم يكتفوا بنزع سلاح المقاومة شعاراً انتخابياً لهم، بل تعرّضوا للسيد نصرالله نفسه بالتجريح الشخصي. فقدّم هؤلاء خدمة مجانية للوائح حزب الله الانتخابية التي حصدت نوابها كافة، لأن هؤلاء لم يدركوا شيفرة البيئة الشيعية التي قد تنتقد بعض أداء الحزب، لكنها تجمع بقوّة على مبايعة السيد ومحبّته والثقة به، مثلما تجمع على سلاح المقاومة.
لا يزال تفكيك شيفرة حزب الله بعد «أربعين ربيعاً» صعباً ومتعثراً، ولا يُحسد من يُطلب منه القيام بهذه المهمة. فهو يحتاج إلى تفكيك العلاقات المتداخلة بين العقائدي، وولاية الفقيه، ودور إيران الإقليمي، وسلاح المقاومة وتحولات البيئة الشيعية الاجتماعية والسياسية، وبين زمن الانتصارات، ووصايا الشهداء، وبين كربلاء وعاشوراء، وبين المشاركة في الحكم وأولوية المقاومة... فكيف إذا أضفنا إلى ما سبق كله نشيد «سلام فرمنده»، وبالعربية «سلام يا مهدي»، الذي تعرّض له البعض بمستوى غير متوقع من الغباء بالرفض والتجريح والاستخفاف، وافتعال تحليلات سياسية ودينية وثقافية وتربوية لتبرير هذا التجريح. وفي الواقع إن مثل هذا الهجوم يؤكد أن شيفرة حزب الله وتجربته بعد أربعين عاماً لا تزال مجهولة وعصيّة على التفكيك. لأن من يحاول الاستخفاف بـ«سلام يا مهدي»، ومن يتعمّد هذا التجريح والاستفزاز يجهل أن «سلام يا مهدي» هو قلب هذه التجربة، وروحها، ومستقبلها. ومع مثل هذا التجريح والاستخفاف سيستعيد الشيعة شعورهم بالتهديد والتهميش، وسيجعلهم أكثر التفافاً حول الحزب وأكثر تشبثاً بسلاح المقاومة.
ربما من الأفضل التخلي عن رهانات التفكيك والاستهداف غير المجدية، وعن الحنين المستحيل إلى ماض ولّى، وأن يتم التعامل، بدلاً من الضغوط القصوى، بإيجابية قصوى مع هذه التجربة الاستثنائية المتنامية منذ أربعة عقود، من أجل شراكة فعليّة معها، في صياغة مستقبل لبنان، حتى لا تُترك وحدها تقوم بهذه المهمّة.

* أستاذ علم الاجتماع