تتشكّل المفاهيم النظريّة التصوّرية من خلال ما تجمعه الحواس من حقائق الواقع وترسله إلى العقل، ومنه يحصل الإدراك والتصوّر، ويبني العقل المكوّن من خلال ديالكتيكه الخاص المفاهيم المتكونة، يحصل ذلك في فلسفة المعرفة كما في فلسفة السياسة على السواء، لكنه في السياسة، كعلم عملي ونظري، يجمع العقل الحوادث والوقائع المتحصلة ويسوسها وفق قواعد هذا العلم وينتج مفاهيمه السياسية. قد تكون هذه المفاهيم جزئية خاصة أو كلية عامة، وفي الحالة اللبنانية تكون مفاهيم خاصة بالواقع السياسي اللبناني، ولها مشترك عام مع المحيط الجيبولتيكي لهذا البلد، في معنى أنه لا يمكن أن تبني المفاهيم الخاصة أكثريته في العقل المكون إلا على قواعد عقلية عامة وكلية ومشتركة بين الناس.إن كل ما يتحصل من طريقة إدارة العقل السياسي اللبناني للواقع السياسي اللبناني يكوّن المفاهيم السياسية اللبنانية في مرحلة تاريخية محددة. إنها إبستمولوجيا سياسية خاصة في زمن سياسي محدّد، وعليه تكون حاكمة في مرحلتها، ويكون بإمكان العقل وفق التقسيم الذي نقيمه لها إدراكها وإدراك طريقة إدارتها. إنها مفاهيم في طريقة إدارة الواقع السياسي اللبناني في مرحلة معينة من الزمان نضع لها محدداً زمانياً من بداية الألفية الثالثة مع بداية هذا القرن الـ21 الذي نحن في العقدين الأوّلين منه.


إن المفهوم concept الذي يعني فعل الاحتواء والاستقبال والتجميع والولادة والإنجاب هو نتاج ذهني أو عقلي يختصر أو يلخص مجموعة من المواضيع والأشياء التجريبية أو الذهنية بواسطة التجريد أو التعميم، أي تجريد وتعميم الخصائص المشتركة القابلة للتعرّف إليها.
والمفهوم كـ comprehension هو ما يمكن تصوّره، وجاء في المعجم الفلسفي وهو مجموع الصفات أو الخصائص الموضحة لمعنى كلي وعلى أساسه يقوم التعريف والتصنيف ويقابل الماصدق Extension. وعند هيغل المفهوم concept من concipere كما Brgiff من Bergeiffer تعني ما يشتمل على أو ما يحوي أو ما يضم ce qui comprend أي ما يتخذ بالمعيّة فالأفهوم هو المفهوم comprehension. إنه الكلي الذي يشتمل على تعيناته في تنام ديالكتيكي. وعليه، يكون الأفهوم هو الكلي لا باعتباره هوية مجردة أو صورة محضة بل باعتباره فكرة تتعيّن وتتخذ مضموناً إذ تحدد نفسها بنفسها، والأفهوم الأعلى هو الفكرة الشاملة إنه الاتحاد بين الحياة والمعرفة.
وعليه، يكون مراد المفهوم في هذا البحث أقرب إلى معنى الأفهوم الهيغلي. إن مهمّة الفيلسوف هي صناعة المفاهيم وفق تعبير جيل دولوز.
تشارك المقاومة في بناء الدولة وإدارتها من دون أن تهيمن عليها أو تتناقض معها وتعارضها.
في مسرحية الذباب سارتر، تطرح عدة مفاهيم سياسية، حول دور الثورة في إدارة الدولة، وحقانية هذه الإدارة، عكست موقف الحزب الشيوعي الفرنسي من قيادة الجنرال ديغول. ورغم أن تاورست ترك المدينة فيما كان عليه أن يدير سياستها لأنه أحدث فيها متغيّراً.
إن المقاومة مفهوم مستفاد من الواقع السياسي اللبناني، وقيمة لبنانية حقة، أصيلة في الوجود اللبناني الأصيل، ومتصالحة مع تاريخ لبنان، ومعبرة تعبيراً عالياً عن روح الشعب اللبناني وقيمة الإنسانية العالية.
إن هذا البحث يذهب لإثبات أن هذه المقاومة قيمة لبنانية أصيلة في وجود هذا البلد الجميل، وأن مجموع المفاهيم المنبثقة من الواقع السياسي اللبناني، متعلقة وفق مقولة الأصالة، في مفهوم المقاومة، وقيامه قيمة أخلاقية لبنانية عالية. وعليه، فإن العقل السياسي، يوجب إدراج هذه القيمة في محضر الدستور اللبناني والقوانين اللبنانية، الناظمة للحياة العامة. مفهوم المقاومة قيمة دستورية وقانونية هو ما سنخلص إليه في هذا المبحث، الناظر في الواقع السياسي اللبناني، وطريقة إنتاجه للمفاهيم.
لا ينشئ الواقع اللبناني وحده مفاهيم سياسية كاملة الأوصاف، وطالما سمعنا في الأزمنة الماضية أن لبنان يمثّل مؤشر التوازنات الإقليمية والدولية المحيطة به في منطقة سوريا أو بلاد الشام، المشرق العربي والإسلامي. تلك مقولة شهيرة تعطي لبنان موقعاً مؤشراً للتوازنات المحيطة به، لكنها لا تعير التوازنات الداخلية في هذا البلد الأهمية المستحقة لها. ومع ذلك نرى أنه من الأضمن لنا لمقاربة الحقيقة أن نذكر بأن ما نستفيده من مفاهيم نظرية بحركة الواقع السياسي اللبناني لا يبتني على الواقع الوطني، بل على متعلقاته الإقليمية والدولية المحيطة به، والرياح الآتية إليه من كل الجهات. لبنان حبل يستقبل الريح لكنه قادر إذا توافر تضامن أبناؤه على حدها. إن أكثر ما يتأثر به لبنان هو الوضع في فلسطين وسوريا، وما يأتيه من خلالهما من الوضع العربي والإسلامي، إلى جانب رياح الغرب القادمة من ناحية البحر الأبيض المتوسط. تلك هي وقائع الجغرافيا التي لا تتغير مهما تعدّلت موازين القوى في الأحداث المتعاقبة على الجغرافية السياسية في الإقليم وفي العالم من حولنا.
إن الشعار السياسي أو المقولة التي تسود في مرحلة معينة يتناولها العقل الفلسفي السياسي، يحول إلى مفهوم، يجعل منها قاعدة نظرية يمكن البناء عليها والاستفادة منها في الوقائع والأحداث المتشابهة. إن مقولات من نوع التفهم والتفاهم، ولا غالب ولا مغلوب، وبعدها وطن نهائي لجميع أبنائه، هي مفاهيم سياسية، تطورت في حركة الأحداث وتحولت إلى قواعد يمكن من خلالها إدراك طبيعة الواقع السياسي اللبناني.
المفهوم يدوم خلاف «الشعار» ولا يتفق ويصطلح عليه خلاف المصطلح، وينتجه الفلاسفة وهو خاص بكل منهم. المفهوم هنا خاص بصاحبه ومستفاد من تجربة المقاومة في لبنان.
مع بداية الألفية الثالثة دخل لبنان مرحلة تاريخيّة جديدة، تختلف عن سابقاتها. وعرف تطورات سياسية وعسكرية تستفاد منها مفاهيم سياسية يستطيع العقل الفلسفي أن يبني عليها منظومة فكرية متماسكة، تمثل الدليل النظري لمواجهة التطورات اللاحقة في مستقبل البلاد، على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية كافة، هكذا، ينشئ الواقع النظرية وتعود النظرية بدورها تساعد على فهم الواقع، وحسن إدارته من خلال البناء على القواعد التي أنتجها الواقع بكل تجلياته التاريخية.
حققت المقاومة الإسلامية اللبنانية تحرير الجنوب والبقاع الغربي من احتلال العدو الصهيوني، وكانت المرة الأولى التي ينسحب منها هذا العدد من أرض محتلة بالقوة، لم تستطع الديبلوماسية أن تحقق التحرير فيما حققته المقاومة، وأهدى قائد المقاومة النصر إلى الشعب اللبناني والشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية وكل أحرار العالم. وحقق هذا الانتصار التوازن الاستراتيجي مع العدو في الحرب التقليدية وتصرفت المقاومة تصرف القوى الوطنية اللبنانية الحريصة على الوحدة الوطنية والاستقلال والسيادة ولم تذهب إلى قطف ثمار هذا النصر لصالحها في المعادلات السياسية المحلية. إن كل حركات المقاومة في العالم، انتقلت من الانتصار في الميدان إلى مركز القيادة في السياسة، وحدها المقاومة في لبنان لم تذهب هذا المذهب، بل كانت حريصة أن يكون هذا الانتصار حقاً لكل الشعب اللبناني.
ولكنه لو ترك القطا لغفا ونام. إن الولايات المتحدة الأميركية والعدو الصهيوني وبقية القوى الاستعمارية، لم تزل المقاومة ترتاح، وأرادت أن تحوّل النصر في الميدان إلى خسارة للمقاومة في السياسة وأصدرت على هذا الأساس القرار رقم 1959. وفيه أمران:
1) اعتبار المقاومة ميليشيات.
2) الدعوة الصريحة لسحب سلاح المقاومة.
إن انتزاع سلاح المقاومة خلاف ما حققته مرحلة التحرير، وكذلك خلاف ما ذهبت إليه من ضرورة بناء وطن قوي، وعادل، وإدارة سياسية تشارك فيها كل مكونات الشعب اللبناني. وكان اعتبار المقاومة ميليشيات يجب نزع سلاحها، محاولة خبيثة لنزع الانتصار المعنوي للمقاومة. إنها حرب معنوية وأخلاقية عمدت القوى الاستعمارية إلى شنها على المقاومة وذهبت معها قوى محلية لبنانية تطالب علناً، وبطريقة مخالفة لقواعد الأخلاق الوطنية، تبعت المقاومة بالميليشيات وطلب نزع سلاحها، لم يشهد مكان في العالم مشابهاً لتصرف العقل السياسي اللبناني المناهض للمقاومة، والذي أنتج مفاهيم قيمية في سياسة الخصومة والعدائية المحلية مكنت القوى المعادية من النفاذ من خلالها، لإعادة لبنان بعد التحرير إلى ساحة مهيأة للحرب الأهلية، وذلك بتدبير اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
قبل اغتيال الرئيس الحريري نشأت معادلة مفهومية من نوع المشاركة بين المقاومة التي حررت الأرض والقوى المحلية التي تسعى من خلال ما يملكه من إمكانيات إلى إعادة إعمار ما دمرته الحرب الأهلية والخسائر العدوانية الإسرائيلية. كان شعار يخالف التحرير والإعمار، مخالفاً تماماً لقرار نزع سلاح المقاومة ونعتها بالميليشيات وفق القرار 1959.
مفهومان سياسيان متناقضان جرت المنازعات حولهما إلى تحضير الساحة لحرب تموز 2006. وذلك بعد أن استطاع لبنان قبل الحرب، من الحفاظ على سلمه الأهلي، وتشكيل حكومة وطنية مصغرة شاركت بها المقاومة، وعملت هذه الحكومة إلى إجراء الانتخابات النيابيّة التي كانت انتخابات نزيهة مكنت قوى معارضة من الفوز بعدد كبير من النواب في البرلمان كما هي الحال مع التيار الوطني الحر. كان مفهوم تسونامي معارضة الجنرال عون وقوة المقاومة، وقوّة رد الفعل على اغتيال الرئيس الحريري، ميداناً لواقع سياسي أنتج مفاهيم من نوع:
1) الاحتكام إلى صناديق الاقتراع وممارسة الديموقراطية في مرحلة دعت فيها الدول الكبرى إلى ما يسمى بالدمقرطة. حصلت انتخابات في لبنان وفي فلسطين ومناطق أخرى مشابهة وكانت الأمم المتحدة تدعو إلى الدمقرطة.
2) لكن الانتخابات في لبنان أجريت وفق انقسام عمودي بين قوى 14 آذار و8 آذار، يعني تصادم حزبين كبيرين في معركة انتخابية ديموقراطية.
3) طرحت شعارات العدالة في مسألة اغتيال الرئيس الحريري، ونشأت المحكمة الدولية، وهو أمر يعني عولمة الصراع في لبنان.
4) حصلت اغتيالات عدة مرتبطة بـ:
- توتير الوضع الداخلي بشبه حرب أهلية وتهديد السلم الأهلي والأمن الوطني.
- عولمة الأمن والاقتصاد والقضاء.
- المشاركة في الحكومة مع غلبة الأكثرية البرلمانية، وعزل القوى التي حققت نجاحات باهرة من الانتخابات، وهذا خلاف المنطق الديموقراطي.
تحضير الأجواء لحرب تموز 2007 يعني شعارات السلطة كل السلطة بيد فريق واحد مدعوم من قوى خارجية. ذلك هو المفهوم السياسي الذي بنى عليه عقل فؤاد السنيورة حكومته والذي سمّيته بالعقل المستقيل وهو عقل ذو طبيعة استبدادية. ويميل إلى تبعية مطلقة للخارج في السياسة والأمن والاقتصاد.
نشأت في هذه المرحلة نزاعات بين مجموعة من المفاهيم تتعلق بما يلي:
1- الحفاظ على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي والمشاركة في إدارة شؤون الدولة، وفق القواعد والأعراف اللبنانية وما جرى تعديله منها في اتفاقية الطائف. وبناء لبنان وطن قوي وعادل وحر وسيد ومستقل. متعاون مع العرب والمسلمين ومع القوى الدولية الصديقة له والتي لا تريد به سوءاً. وذلك على قاعدة تبادل المصالح والقيم المشتركة.
2- السبب استنكار الاغتيال السياسي ومكافحته بالحفاظ على الأمن الوطني، وتقوية الفعالية الأمنية بالتفاهم السياسي وعدم السماح بالنفاد من الاغتيال السياسي لتحقيق مكاسب سياسية مبنية عليه.
3- إشاعة اتجاه يقوم على الاستبداد واحتكار السلطة وإبعاد الآخرين، وتفسير الطائف وفق مقاس مصالحه، ونكران دور المقاومة، والدعوة إلى نزع سلاحه واستغلال أحداث الاغتيال السياسي لتوتير الساحة الداخلية، وتعريض لبنان لاحتمال تجدد الحرب الأهلية.
4- اعتبار كل ما هو من الخارج حق وحقيقة ونكران قدرة لبنان على بناء نفسه. ومثال ذلك يكون:
- تهميش السلطات الدستورية بالحملات المستمرة على رئاسة الجمهورية.
- احتكار السلطة من قبل الأكثرية داخل الحكومة.
- القول أن الأمن فاسد وضعيف والقضاء فاسد وضال. ولا تتحقق العدالة إلا بالقضاء الدولي، ولا يتحقق الأمن إلا بالاستناد إلى القوى الخارجية.
- اعتماد الاقتصاد على الخدمات ونموذج دبي في تلك المرحلة، المنقول عن اقتصاد دول الخليج النفطية.
- إبعاد المقاومة عن كل أشكال السلطة.
إن مراقبة دقيقة لتوازن القوى داخل حكومة السنيورة، يكشف عن المفاهيم السياسية التي سادت في تلك المرحلة، والتي كان لا بدّ من مقاومتها بإقامة قواعد التفهم والتفاهم وتشكيل التحالفات الوطنية والحفاظ على المؤسسات الدستورية والدفاع عن لبنان في وجه العدوانية الإسرائيلية والتدخلات الخارجية.
نشأت من هذه المرحلة مجموعة من المفاهيم المتناقضة، كانت نتاج طريقة إدارة القوى السياسية. وعليه، فقد نشأ صراع مفهومي بين:
(1) تحرير الأرض من الاحتلال، مقابل نكران المقاومة والدعوة إلى نزع سلاحها.
(2) بناء مؤسسات الدولة الوطنية والعادلة، مقابل إعادة تحضير البلاد لمحنة ومأساة الحرب الأهلية، وتعريضها للحرب الخارجية والنزاع الداخلي وذلك ما كانت عليه أهداف حرب تموز العدوانية 2007.
(3) الدعوة إلى التضامن العربي والإسلامي بتقدير الجهود التي بذلتها سوريا في لبنان، مقابل العداء المستحكم لسوريا وجعلها صورة شيطانية في التصورات السياسية المحلية.
(4) التغني بالديموقراطية ومجافاة نتائجها، لأن من أولى أسس الديموقراطية عدم عزل المعارضة، وإنكار حقها في المشاركة السياسية لأن الديموقراطية قد تعني من يخسر اليوم ربما يربح غداً، تماماً كما لعبة كرة القدم. الديموقراطية لا تعني أن تلغي الأكثرية حق الأقلية في العمل السياسي، والتحوّل بدورها إلى أكثرية. ونشأت من جراء ذلك محاولات نظرية لنقد الديموقراطية البرلمانية اللبنانية، وقانون الانتخاب والدعوة إلى إلغاء الطائفية، وتعديل قانون الانتخاب لصالح النظام النسبي، واحترام المعارضة وحقها ومحاربة أشكال الهيمنة والاستبداد، وعليه فقد نشأت نظرية الديموقراطية التوافقية، باعتبارها الأكثر انسجاماً مع الواقع السياسي اللبناني، لكن ظلت القوى الحاكمة خائفة من الاعتراف بها، ونشأت مفاهيم حول المشاركة في السلطة نفصلها في محلها.
يكون مراد المفهوم في هذا البحث أقرب إلى معنى الأفهوم الهيغلي. إن مهمّة الفيلسوف هي صناعة المفاهيم وفق تعبير جيل دولوز


إن أسوأ مفاهيم تلك المرحلة هو المتدرجات القانونية والأخلاقية للقرار الأممي 1559 الصادر عن مجلس الأمن، كيف سلط على رقاب اللبنانيين أنه صورة لانحياز الدول الكبرى لصالح العدو الصهيوني ومعاداة شعوب المنطقة وحقها في الدفاع عن نفسها. إن هذا القرار عار على المؤسسة الدولية التي أصدرته وصورة ناطقة عن فسادها وانحيازها ومعاداتها بحق الشعوب في المقاومة وفي الحرية والسيادة والاستقلال. قرار لا مسوغ دستوري ولا قانوني ولا أخلاقي له، ورقة في إعلان حرب عدوانية على بلدٍ قاوم الاحتلال وهزمه ومحاولة لإعادة الاحتلال وهزمه ومحاولة لإعادة السيطرة عليه بعدما نال حقه في الحرية. القرار 1559، سقطة مهينة للعقل السياسي الدولي كان ساحتها لبنان، في بداية الألفية الثالثة. هل تسمعون بذلك القاتل الذي مشى في جنازة القتيل وراح يطلب بإنزال حكم العدالة بالجناة. تلك هي الصورة الأخرى لأخلاق النظام الدولي، في طريقة إدارته بحق العدالة في مسألة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. نريد العدالة قال القاتل، وهو يمشي في جنازة ضحيته، وأراد أن يجعل من هذه المأساة طريقاً لإعادة الفتنة والخراب لبلد سعى الرئيس الحريري إلى إعماره بعد الحرب الأهلية وفتح باب الحوار والمشاركة مع المقاومة التي حررت الأرض من الاحتلال وفتحت ذراعيها لكل أبناء الوطن من أجل إعادة بنائه وطناً حراً مستقلاً وبناء دولته، دولة قوية عادلة.
انخفض مستوى أخلاق الفعل السياسي في هذه المرحلة، وكان هدفه إضعاف جسد الشعب وإنهاكه وتطويق المقاومة للإجهاز عليها بعد سبع سنوات على تحقيق التحرير، وفتح الطرق أمام حرب عدوانية جديدة تعيد لبنان إلى دائرة السيطرة تحت قبضة الغزاة الجدد، وقد بدأت حرب غزوهم للشرق العربي والإسلامي من أطراف وصولاً إلى قلبه، مراحلها الأولى، من أفغانستان إلى العراق إلى لبنان على حدود فلسطين المحتلة.
بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وخروج القوات العربية السورية من لبنان، انقسم اللبنانيون على أنفسهم انقساماً عمودياً حاداً، ووضعوا في موقع مباشرة إدارة الحكم في وضعية مفتوحة للتدخل الخارجي، على حساب التضامن العربي؛ ونشأت مفاهيم توازي مفهوم الثأر السياسي. الأميركيون والعدو الصهيوني، يريدون الثأر من المقاومة التي هزمتهم وأجبرتهم على الانسحاب من الجنوب والبقاع الغربي في حرب التحرير الأولى من دون قيد أو شرط. وقوى 14 آذار تريد الثأر من ما تسمّيه مرحلة الوصاية السورية، وتطالب بدم الشهيد رفيق الحريري. من خلال المحكمة الدولية الخاصة. وتريد الثأر بطريقة غير مباشرة من المقاومة، وتسعى إلى إقصاء كل من يخالفها الرأي عن إدارة شؤون البلاد وسياسة الحكم.
كانت الكلمة الأقوى للساحات التي احتشدت فيها جماهير الطرفين المتخاصمين. كل بحسب قوته على حساب دفتره. ولكن للحقد حسابه الخاص الذي يقول إن البلاد تساس بالشراكة الوطنيّة. مهد هذا الاتجاه في الشراكة إلى قيام تحالفات داخلية، بين القوى السياسية كان أبرزها تحالف التيار الوطني الحر وحزب الله في اتفاقية كنيسة مار مخايل.
خرج حزب الله منتصراً من حرب التحرير وشارك في حكومة الرئيس ميقاتي، التي أجرت انتخابات حرّة ونزيهة بإدارة لبنانية مستقلة لأول مرة. وخرج التيار الوطني الحر منتصراً من هذه الانتخابات التي حصد فيها كتلة برلمانية هي الأكبر والتي تؤهله للمشاركة في الحكومة الأمر الذي لم يحصل خلاف كل مبدأ ديموقراطي نزيه. أتت حكومة الرئيس السنيورة الأولى صورة عن إرادة الاستبداد والإقصاء والغلبة، شارك فيها حزب الله، لأنه يريد أن يكون أميناً على نتائج الانتخابات التي حقق فيها بدوره مع حركة أمل انتصاراً صريحاً. كانت مشاركة حزب الله في هذه الحكومة إعلاناً صريحاً أنه لن يترك الساحة لإرادة الاستبداد والتبعية للخارج، وأن مسؤوليته بعد التحرير هي الدفاع عن لبنان والمشاركة في أعباء المسؤولية من موقع الحرص على عدم الإقصاء والإلغاء، وذلك مفهوم ينطبق على الواقع السياسي اللبناني انطباق النقش في الشمع.
حتى تفهم هذه المشاركة، من موقع المسؤولية الدفاعية وحماية البلاد من الاستبداد، يجب أن تربط مع اتجاه حزب الله نحو ما يلي:
1) الحرص على الوحدة داخل المسلمين الشيعة وتوثيق أواصر التضامن مع حركة أمل التي خاضت الانتخابات معها في جبهة واحدة.
2) الحرص على الاتفاق مع الأطراف اللبنانية الوطنية القوية كما أثبتت نتائج هذه الانتخابات. والتي تشاركه مفاهيم أساسية في إدارة البلاد.
3) استمرار التفاهم مع القوى الأخرى وبخاصة تيار المستقبل الذي أنيطت به رئاسة الحكومة الأولى بعد الانتخابات (حكومة السنيورة) حماية للبلاد من آثار المؤامرات التي تحاك من أعدائها في الخارج.
المفهوم الأساسي لهذه المرحلة، هو التفاهم والاتفاق واحترام المبادئ الديموقراطية وحفظ البلاد وصيانة الدستور والدفاع عن المؤسسات ومنع الانحدار إلى الفتنة بحفظ الأمن والسلم الأهلي والاقتصاد الوطني. كان لا بدّ من أمير أو فاجر لانتظام الشأن العام، هذا هو الوضع مع حكومة الرئيس السنيورة. لكن ماذا نفعل إذا كان السنيورة لا تنطبق عليه واحدة من الخصال المشهورة للحاكم في مباحث السياسة والأخلاق.
حصل ما حصل. وكان الجواب الأول على لعبة الإقصاء والاستبداد، اتفاقية كنيسة مار مخايل.
في 6 شباط عام 2006 وقّع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ورئيس التيار الوطني الحر العماد ميشال عون التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحر في كنيسة مار مخايل على تخوم الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت. وأكد الاتفاق على البنود الثانية ووضع شروطاً وافية لها. تتضح هذه الاتفاقية ذات النقاط العشر، أنها تؤمّن ليس تقوية العلاقة بين طرفيها وحسب ولكن تقديم برنامج ميثاقي لإصلاح الوضع السياسي اللبناني من خلال تقديم الأجوبة المشتركة بعد حوار بناء في العمل لمشكلات أساسية هي موضع نقاش وخلاف وتجاذب بين القوى السياسية اللبنانية.

إن الشعار السياسي أو المقولة التي تسود في مرحلة معينة يتناولها العقل الفلسفي السياسي، يحول إلى مفهوم، يجعل منها قاعدة نظرية يمكن البناء عليها


لقد تحقق جانب أساسي من هذه النقاط، وذلك من خلال المؤسسات الدستورية ومن خلال حصولها على توافق لبناني حولها، كما هو الأمر في الديموقراطية التوافقية وقانون الانتخاب النسبي، ودور سلاح حزب الله، والحوار الوطني بين اللبنانيين، وتنظيم وتصحيح العلاقات اللبنانية مع الوضع الإقليمي، وبشكل خاص الوضع الفلسطيني، وتبادل السفارات بين كل من لبنان وفلسطين وسوريا. إن روح هذه الاتفاقية نجدها مثبتة في ما أنتجته من مفاهيم مستفادة من تطورات الوضع السياسي اللبناني.
اكتمل مشهد المؤامرة على المقاومة ولبنان في حرب تموز 2006 العدوانية، كانت أهداف الحرب المعلنة القضاء على المقاومة، وإعادة لبنان إلى الفوضى والتبعيّة. وتتميز هذه الحرب بأنها حرب شاملة؛ حدثت في واقع وجود القوات الأميركيّة في المشرق العربي وفي البحر الأبيض المتوسط، بشكل لم يسبق له مثيل، واستخدمت فيها كل طاقة القوة العسكرية من دون أن تضع حدوداً لها. لقد طبقت مبدأ باول، بلا قيود أخلاقية على الحرب. استخدام القوة كامل القوة، لا حدود بين امتلاك القوة وبين استخدامها، وحصلت لتدمّر المقاومة، والإدارة المشتركة للحكومة اللبنانية، بعد انسحاب القوات العربية السورية من لبنان، ولنا مع هذه الحرب رواية طويلة. ما يهمنا القول إن الحكومة اللبنانية التي حافظنا على وحدتها، كانت تقود البلاد بعقلية المؤامرة، ولذلك فإن الانتصار في الحرب كان انتصاراً على الأعداء، وعلى الإدارة الداخلية المنحازة لهم.
انتهت الحرب بانتصار مكرر للمقاومة. كانت تثبت قواعد حرب التحرير، واكتشاف عناصر قوة جديدة، فرضت قواعد الردع مع العدو وهزمته في ساحة ميدان مفتوحة والمفاهيم التي نشأت عن مجريات الحرب كانت:
إثبات مفهوم المقاومة في تحرير الأرض والدفاع عن الشعب والوطن والمحافظة على وحدة البلاد، مع وجود قوى داخلية متواطئة مع القوى الخارجية المعادية. تلك هي معادلة صورة السنيورة كونداليزا رايس، وصورة سقوط الاستبداد والعدوان، وانهيار نظرية ضرب المقاومة وبناء الشرق الأوسط الجديد، وليد نظرية شمعون بيريز، في فرض العدو الصهيوني قوة مسيطرة ومهيمنة في شرق أوسط ضعيف مستسلم لها. إنها حرب الدفاع عن لبنان والنظام الإقليمي الغربي والنظام الإقليمي الإسلامي، الذي كان مهدداً بالانهيار لو استطاعت قوات العدو الانتصار في حرب تموز 2006.
لعب التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحر دوراً إيجابياً في الحفاظ على الوحدة الوطنية خلال الحرب، وكذلك مشاركة حزب الله وحركة أمل في الحكومة اللبنانية، وقوى وطنية أخرى، أسهمت في الحفاظ على وحدة الحكومة التابعة في فترة الحرب. ونشأت صراعات داخل الحكومة التي أرادت أن تأخذ بالسياسة ما خسره العدوان في الحرب. واستقال الوزراء الوطنيون من الحكومة وحصل أكبر اعتصام وطني في وسط بيروت، في مواجهة سراي حكومي ذات إذن صمّاء.
ثم حصل ما حصل، وكان تأوج المؤامرة، في ما نسمّيه مفهوم «هذه النبال رسل القوم إليكم»؛ كانت قرارات الحكومة في 5 أيار 2008 إيذاناً بإعلان حرب داخلية بعدما حطمت الحكومة الوحدة الوطنية وتجاوزت الدستور وميثاق العيش المشترك. وحدث ما حدث في 7 أيار وهو يوم القرار الوطني، الذي حمى لبنان، ومنع نشوب حرب أهلية جديدة. 7 أيار ليس حرباً بقدر ما هو حركة وقائية وقرار سياسي صائب، حمى البلاد من الانحدار إلى متون الحرب الأهلية. واستفاد من كل التحالفات الوطنية الكبرى التي سبقت هذه الأحداث. بعد أحداث 7 أيار، ذهب اللبنانيون إلى محادثات الدوحة، ووقعوا على اتفاقية الدوحة ومنها نشأ مفهوم الشراكة الوطنية في الحكم والمسؤولية. ومفهوم الشراكة مفهوم لبناني أصيل دستوري وميثاقي، قانوني وعرفي، واقعي وعقلاني، يحافظ على كيان البلاد ووحدتها الوطنية، ويسمح بالاستقرار السياسي والتداول العادل للسلطة، وهو يقوم على مجموعة من المفاهيم المنضوية تحته ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
1- الديموقراطية التوافقية.
2- مفهوم الثلث الضامن داخل مجلس الوزراء.
3- ونشأ عنه مفهوم الثلث الضامن في مجلس النواب والذي سمح بالذهاب إلى مفهوم: الأكثرية النسبيّة، في قانون الانتخاب الجديد، لا النظام الأكثري المطلق في النظام الانتخابي السابق.
ليست اتفاقية الدوحة ميثاقاً ولا دستوراً، ولكنها أنتجت مفهوم المشاركة في الحكم والمسؤولية وما ينضوي تحته لنصل في الوضع الدستوري اللبناني إلى بر الأمان.
في حكومة الديموقراطية التوافقية والثلث الضامن نشأ مفهوم وحدة الجيش والشعب والمقاومة. انفجرت الحرب في سوريا 2011، وكذلك في بلدان عربية أخرى (راجع كتابنا «الصحوة الإسلامية والثورات العربية»). وسط انقسام اللبنانيين في المواقف من الصراعات الإقليمية حولهم، كانت حكومة الرئيس الحريري قد سقطت بطريقة دراماتيكية، ولكنها حكومة الرئيس ميقاتي، لصالح قوى الثامن من آذار، ولكنها كانت حكومة هجينة، لم تستطع تحمّل أحداث الحرب، حتى حصل الاتفاق على حكومة الرئيس سلام، وتجاذبات الصراع حول رئاسة الجمهورية. حصلت حوارات ثنائية عدة، وتعاون داخل الحكومة، لكن المفهوم الأكثر انسجاماً مع هذه المرحلة كان مفهوم: النأي بالنفس. هو مفهوم يتمايز عن مفهوم الحياد السلبي أو الإيجابي؛ هو حياد للداخل وليس حياداً في الموقف من الخارج حماية لبنان من الحرائق المحيطة به مع استمرار التجاذب في موقفين:
1) الذهاب إلى إطفاء الحرائق في أمكنة اشتعالها.
2) تحييد لبنان عن أتون الحريق الإقليمي/لبنان ساحة سلام أهلي، والحرب الأهلية أصبحت من الماضي، الحوار والنقاش في مسألة الاستراتيجيّة الدفاعية، ودور سلاح المقاومة في الدفاع عن لبنان.
في الواقع، مثّل جواباً علمياً وفلسفياً لمرحلة سابقة تمتد منذ تأسيس لبنان حتى الوقت الراهن، لأن المهمة الأساسية للدولة هي مفهوم الدفاع الوازع الذي ينظم العلاقات بين الأفراد والجماعات، يدافع عنهم يحفظ حقوقهم ويمنع كل عدوان يمكن أن يحدث تفصيلات لا تنتهي حول مفهوم الاستراتيجيّة الدفاعية. لكن هذه الجملة المؤلفة من إسقاط في معادلة «الجيش والشعب والمقاومة» تمثّل أفهوماً لبنانياً حقيقياً مستفاداً من الوقائع السياسية اللبنانية، والتي لا يمكن الرجوع عنها بعد الآن لأنها في صلب بيئة الكيان اللبناني والدولة اللبنانية غير مستفادة من الواقع الجيوبولتيكي ومن الوقائع والأحداث المادية، ومن اشتغال العقل على شؤون الدفاع ومن ميزان القوى. في حرب لبنان على الإرهاب، كان لبنان البلد العربي الوحيد الذي هزم حركة الإرهاب بشكل واضح (راجع دراستنا عن هذا الموضوع) ولأن هذه المعركة مرتبطة بمفهوم «الشعب والجيش والمقاومة» فإننا نعتبرها من مندرجات هذا المفهوم لأنها ترتبط بمفهوم استراتيجيّة الدفاع الوطني.
إن مفهوم وحدة الجيش والشعب والمقاومة مكّن لبنان من هزيمة العدو الصهيوني، وكسر العدوانية الأميركية – الصهيونية وكذلك مكّنه من هزم الإرهاب. وحدة الجيش والشعب والمقاومة مكّنت لبنان على وجه الدقة، وفي طريقة رائعة، من الانتصار على الإرهاب، وحساب مصادر القوة، وطرق استخدام هذه القوة، أنه مفهوم أصيل ثابت واقعي عقلاني، يقرّه العقل، وتصدّقه التجربة. لا يستقيم مع الاستبداد حكمٌ ولا تقوم مع العدوان دولة ولا يؤمن جانب العدو وواجب الدولة الدفاع عن نفسها ومواطنيها. وحق الدفاع عن النفس حق مقدس وواجب حماية البلاد والعباد واجب وطني ودستوري مؤسس ولا لعب وجدال فيه.
إن مجموع هذه المفاهيم التي سنفصلها في كتاب يحمل نفس العنوان «الواقع السياسي اللبناني وإنتاج المفاهيم» تمكّن الفعل أن يدير الحياة السياسية بإتقان وأمان. ووظيفة الفيلسوف إنتاج المفاهيم ووظيفة السياسي الاستفادة منها لإدراك الواقع وسياسته بطريقة فعالة وعادلة.

* كاتب ووزير سابق