إذا كانت الحرب «استمراراً للسياسة بوسائل أخرى»، بوسائل عنيفة، حسب قول منظّر الحرب البروسي الشهير كارل فون كلاوزفيتز في كتابه «فن الحرب»، فإن الأمر لم ينته هنا، بل يجعل الحرب أكثر غموضاً لجهة التكتيكات والاستراتيجيات والخطط المعتمدة. يكمن الغموض في قول كلاوز فيتز في كلمة «استمرار»، مع أن الحرب عبارة عن قطيعة في شكل الوسائل وقفزة من السلم إلى العنف. فعندما تشتعل نار الحرب تغدو السياسة إرادة متحقّقة في أرض الميدان. والغزو والعنف ليسا أمراً عرضياً، بل هما قابلة (ولّادة) التاريخ كما قال ماركس. والأجدى على مستوى العبارة القول: إن السياسة تزيل الحرب وتظهر على صورتها سياسة حربية، سياسة بوسائل عنيفة غير ديبلوماسية، وتكون الحرب هي الشكل الأعلى للسياسة وتحقيقها الدموي العنيف. وهذا لا يزيل الغموض لا عن السياسة ولا عن الحرب وتكتيكاتها.
ضمن هذه الصعوبة المفهومية، وضمن هذا الغموض التكتيكي، يندرج «الغزو» الروسي لأوكرانيا، أو «الفتح» الروسي بلغة العرب والعثمانيين في العصور الوسطى. وحتى حين غزا الأوروبيون الإسبان والبرتغاليون فجر التبرجز في أوروبا الغربية، للتوّ أميركا، سمّوا غزوهم (conquest) لها فتحاً (فتح أميركا واكتشاف العالم الجديد 1492م). سيشكل العثمانيون والعرب والأوربيون مع معضلة المسألة اليهودية في أوروبا الشخصيات الفاعلة في سياسة القرن العشرين. واللافت أن إخراج الأوروبيين للعرب من الأندلس سنة 1492 ترافق بمرسوم «طرد اليهود» الذين رفضوا التحول إلى المسيحية.
أمّا «الفتح» الروسي لأوكرانيا فليست له سابقة لا على مستوى التكتيك ولا على مستوى التاريخ العالمي، وإن كان بعض المحللين يرى فيه «استعارة» من الحرب السورية المديدة، «استعارة» تأخذ في حسابها احتواء الخصم، وتخفيض نقمته حتى التلاشي، ومعاودة الضربات وإعطاءه فرصاً للنهوض من جديد، وفرصاً للانتقام الجزئي والموضعي (إغراق الطراد موسكُفا، وردّة الفعل الروسية الفاترة)، خاصة أن الخصم يحظى بدعم من أطراف إقليمية ودولية بشكل مكشوف سافر، ما يعطي شرعية لإعادة الضرب من جديد.
وكما شكّلت أوكرانيا وجورجيا مخبراً كيماوياً وبيولوجياً للولايات المتحدة، فقد شكّلت سوريا مختبراً عسكرياً وديبلوماسياً روسياً، حيث اختبرت روسيا في هذه الحرب المديدة جميع أسلحتها الجديدة من طائرات وصواريخ مجنّحة بعيدة المدى وقاذفات استراتيجية ودبابات وسفن حربية وغيرها، كما أنها وضبت ديبلوماسية نشطة وذكية مع كل من إيران وتركيا وإسرائيل ودول الخليج العربية، كما أسّست لشراكة استراتيجية مع الصين خلال الحرب التجارية بين الأخيرة وبين الولايات المتحدة. ونشطت عسكرياً في ليبيا وعلى شرفها نشطت ديبلوماسياً مع مصر والجزائر.
المفارقة في تسمية هذا الغزو بـ«المهمة الخاصة» فبقدر ما هي محدودة بقدر ما نتائجها عامة وعالمية الارتدادات


هكذا اعتمد الروس «لعبة القط مع الفأر»، أو اللعب في الحرب لإخماد الخصم وتعطيله تاريخياً. حيث تضرب الخصم وتتركه ينجو أو يفرّ مرة أولى ثم تعاود الضربات، هكذا حتى يفقد الخصم القدرة على الحركة وينطفئ كنار خامدة. وباعتبار أن أوكرانيا ساحة للصراع الأميركي-الغربي مع روسيا، فقد بدأت روسيا غزوها (مهمتها الخاصة) في أوكرانيا. والمفارقة في تسمية هذا الغزو بـ«المهمة الخاصة» فبقدر ما هي محدودة بقدر ما نتائجها عامة وعالمية الارتدادات، حيث أثّرت على شكل الهيمنة والقيادة الأميركيتين للنظام الإمبريالي الرأسمالي، وأثّرت على إمدادات الطاقة وأسعارها، وعلى إمدادات القمح والسماد، وكشفت بالفعل عن سمة أساسية في الرأسمالية الاحتكارية وهي التضخم أو ارتفاع الأسعار المترافق مع فرط في عرض السلع أو البضائع. كما أنها قد كشفت عن أمر بالغ الخطورة على مستوى الوعي بأوهام الإمبريالية الرأسمالية، وهي فقاعة القطاعات الافتراضية وشركاتها الثرية، وتظهر كم كان الغرب الإمبريالي مصاباً بالغرور والعنجهية الدولية بخصوص قطاعات الاقتصاد الحقيقي (الطاقة والغذاء)، حيث ظهرت روسيا خلال «فتح أوكرانيا» على أنها «المول العملاق» ليس لأوروبا وحسب، بل وللعالم أجمع، وذلك على مستويات: النفط والغاز الطبيعي والقمح والسماد والوقود النووي والمعادن الأساسية للصناعة الأوروبية وغير ذلك.
التكتيك الروسي في غزو أوكرانيا يقوم على طَرْق الحديد مرات متتالية مع توقفات مؤقتة ثم معاودة الضرب حتى تسوية المعدن بالأرض، وإذا تجاوز الأمر الوقت المحدد تمّت تسوية المدينة بالأرض. ونتيجة هذه المعاودة والتردّدات رأينا بعض المحللين يتحدّثون عن انتكاسات في تقدّم الجيش الروسي، وتغيير في الخطط الحربية والتكتيكات، على سبيل المثال الانسحاب من حول كييف وخاركيف وتشرنيهف وتشرنوبل بعد التطويق لفترات محدودة. فإضافة إلى مشاغلة جميع القوى المسلحة الأوكرانية، كان تكتيك «الضربات المتعددة» والانسحاب ثم معاودة الضرب هو السائد منذ بداية المعارك وبإقحام قوات محدودة. وذلك على عكس التكتيك الألماني الكاسح في الحرب العالمية الثانية، حيث اجتاحت القوات بولندا في يوم وفرنسا في يوم. لكن هذا الأسلوب «الكاسح» يسمح لاحقاً للخصوم بمعاودة تنظيم المقاومة والهجوم وتحطيم قوة الغزاة، وهذا ما حصل لألمانيا النازية بعد عام 1943 مع تنظيم الروس هجوماً مضاداً بالتزامن مع دخول الأميركيين على درب الحرب.
إن المتابع للغزو الروسي لأوكرانيا يرى أهداف الغزو واضحة تتمثّل في «فتح» أوكرانيا وتحويلها من مدى حيوي للغرب وأميركا إلى مدى حيوي لروسيا في مواجهة الغرب، وهذا يقتضي نزع سلاح وتسليح أوكرانيا، وتصفية قواتها المسلحة (أرض منزوعة السلاح والسياسة)، وهو ما عبّرت عنه الديبلوماسية الروسية بالقول بتحرير أوكرانيا من النازيين الجدد، وأن الحرب هي ضد-آزوف (Anti-Sfoboda). سفوبودا براياتها السود والحمر رمز النازية.
كان احتلال شبه جزيرة القرم وضمّها إلى الاتحاد الروسي سنة 2014 هما «المرجوسة»، مرجوسة روسيا في بئر الغرب العدواني التي استخدمتها لقياس ردة فعل الغرب وتركيا سواء على مستوى العقوبات أو شكل الرد. والمرجوسة حجر يربطه البدوي بحبل ويرميه في البئر المعطّلة ليستطلع وجود الماء، كما تُستخدم المرجوسة لخلط ماء البئر وتركه يصفو.
كان استرجاع شبه جزيرة القرم إلى السيادة الاتحادية الروسية «بروفا جنرال» من أجل مباشرة «الفتح الروسي» لأوكرانيا لاحقاً.
* كاتب سوري