يقول السيد هاشم صفي الدين في مقطع له نُشر على وسائل التواصل الاجتماعي: إنّه كلما استمع إلى بعض الكلمات في نشيد «سلام يا مهدي» بكى. كثيرون مثله بكوا أيضاً وهم يستمعون إلى هذا النشيد الذي شملَهم بدفئه ونقلَهم إلى «إمام زمانهم» المحجوب عنهم في عمق الشوق والحب. الكثيرون ممّن لم تتسنَّ لهم معرفة عقائد «الشيعة الإماميّة» يسألون عمّن وضع هذه الدموع في أكفّ وقلوب وعيون المستمعين لهذا النشيد الذي انحدر عميقاً في النفس «الشيعية» ليخترق كل شيء فيها ويهزّ حواسّها وحماسها وأحلامها. لي أصدقاء من طوائف مختلفة أبدوا إعجابهم بالنشيد وتلبّستهم الرهبة والحنين إلى شيء غامض. شعروا أنّ فيه من تلك اللغة القديمة التي ليس من السهل فهم رموزها ومُعمّياتها، ولكنّها تكبر كل يوم بنداءاتها وأسئلتها التي ظلّت معلّقة زمناً طويلاً.
أدخل النشيد البعض في دوّار ثقافي عجيب. منهم مَن نظر إليه باعتباره اختراقاً دينياً ناعماً تتسرّب إيحاءاته إلى فضاءات الطوائف الأخرى. ومنهم مَن رأى فيه بداية تغيير لمعادلات داخلية يرمي حزب الله إلى تثبيتها لصالحه من خلال التأثير على تصوّرات مناصري الأحزاب. فيما آخرون يعتبرونه انطلاقة لمشروع جيو-سياسي ضخم ويربطونه بتمدّد محور المقاومة في المنطقة، إلى غير ذلك من الاعتبارات والصور المخيالية التي أنتجتها المخيّلة المعادية لكل عمل فني يرتبط بالمقاومة تكون مادته الأساسية الإيمان والخير والصلاح والعدالة. لا بأس عند هؤلاء جميعاً بأعمال فنية تتخطّى حدود العقلانية والرزانة والاستقامة وكل ما يشغل أهواء النفس البشرية بحالاتها المتنوّعة التي تحضّ على العنف والشذوذ والمصحوبة بطقوس خارج سلطة العقل وحدود الدين وضوابط الأخلاق! لكن موسيقى تصل الإنسان بأشواق لا تموت، وبمكنونات الأمل بالمستقبل، وبقوةٍ لقطع معابر اليأس والظلم، فهذا في عرفهم ليس له وظيفة إلا تكثيف الغموض وصناعة الوهم! الموسيقى الهذيانية التي تستحضر التصرفات المبتذلة لا نجد أيّاً من أشكال الحراسة والعقاب يتحكّم بها، بل تُصان ويُروّج لها ويُسمح لها بأن تمتد في كل الاتجاهات وتتسلل إلى كل مناطق الوجود الإنساني على اعتبار أنّ مبدأ الحرية الثقافية والفنية يتيح لمثل هذه الموسيقى الانتشار ولمن شاء الانتماء إلى تجربتها. وبهذا المعنى يجوز لمن شاء أن يحوّل الفن إلى غول هائج يبتلع في طريقه كل شيء من قيم، ويجوز أن تمارس الحرية الغنائية كجنون. لكن عندما يتعلق الأمر بفعلٍ ثقافي وثيق الصلة بحالة المجتمع الدينية أو التاريخية أو الحضارية، أو بلحظة عظيمة تؤمن بها كل الأديان ويتطلع إليها العقل البشري هي لحظة خروج «المخلّص»، فإنّ علامات الاستهجان والاستغراب والاستنكار تظهر بأقصى درجات التطرف والكراهية.
السؤال الأوّل، الذي يمكن أن تطرحه الأنشودة يرتبط بالمعايير والمقاييس الفنية والوصفات الجاهزة. الذين انتقدوا الأنشودة أخضعوها لمعاييرهم ومقاييسهم هم، فكل ما هو غير مألوف وما لا يستقيم داخل ذوقهم الثقافي أو كان مضمونه من طبيعة إيديولوجية مختلفة سيمرّ عليه سيف الحكم والتصنيف الحادّ والقاسي. أداة القياس عندهم ليس ما يُقبل باعتباره ينتمي إلى دائرة العقل وبين ما يُرفض باعتباره لا عقلاً، وبين ما يمكن إحالته إلى الأخلاق والقيم الإنسانية النبيلة، وما يمكن أن يُوضع في خانة الإفرازات المرضيّة للسلوك الفردي والجماعي، وإنما يتحكّم في هذا الخط من الأحكام والمعايير ما يلائم الانغماس في لذات الجسد وشهواته، وما يوافق تفضيلات ثقافية وسياسية غربيّة تميل إلى اللذات الخيالية والوهمية والجسمية التي تنزل بالإنسان إلى حضيض البهيمية دونما اعتبار إلى المبادئ الشريفة التي تُبنى عليها القياسات الصحيحة.
لا أحد ينفي أنّ للأنشودة دلالات سياسية قوية. بل هي مليئة بالإحالات والإشارات والمعاني السياسية... ولا سيما قضية فلسطين والهيمنة الأميركية


السؤال الثاني، يتصل بالتنوع الديني والثقافي الذي يمتدحه اللبنانيون باعتباره جوهر وجود لبنان وسرّ تميّزه وفرادته، ولكن عندما خرجت الأنشودة إلى العلن قالت إحداهن، وهي نائبة في البرلمان اللبناني، إنّ هذا اللون من الفن «لا يشبه ثقافتنا». لا شك أنّ الأنشودة منحت اللبنانيين فرصة التعرّف إلى لغة فنية أخرى ليست معروفة بالضرورة بنفس الدقائق والخصوصيات المتداولة عن غيرها لدى اللبنانيين وفي المنطقة والعالم. لكن ما أكثر اللغات الفنية المبتكرة التي ولدت وخرجت من رحم الغرب والشرق وأحدثت دويّاً كبيراً وكانت جديدة بأسلوبها ودلالاتها ورسائلها وتركت تأثيراً روحياً وجماهيرياً داخل مسارات السلوك الاجتماعي وعوالم التفكير الإنساني. ثم أليست إقامة المهرجانات الثقافية في بيروت وبعلبك وبيت الدين وجبيل وصور وغيرها من المناطق تقوم على فكرة التنوع الثقافي ومشاهدة صورة فنية جديدة والاستماع إلى موسيقى من مختلف أنحاء العالم لا تكون بالضرورة شائعة ولا متناسبة حتى مع ما هو قائم. ولكن لأهمية التنوع والتفاعل الثقافي بين الشعوب والشغف لاكتشاف تجارب خارج مدار مخيلة وذائقة الناس الاعتيادية، يتم استقدام فرق فنية متعددة المنابت والمشارب والتوجهات خشية الوقوع في الرتابة والتكرار والجمود. والمسؤولون عن هذه المهرجانات وكل مَن يتعاطى الشأن الثقافي والفني والنقدي يجد المبرّرات الكافية للدفاع عمّا تأتي به ولو كان غريباً وأحياناً شاذاً جداً جداً. فهل هذا الأمر ممكن مع مَن يحمل رؤية للعالم تبحث عن منافذ أخرى للتعبير خارج إكراهات الثقافة الغربية وسطوتها وإحالاتها التي تلغي من حسابها كل ما له علاقة بالأخلاق والدين والآداب وتقاليد المجتمعات النبيلة؟ وبالتأكيد النائبة لا تقصد بقولها «لا تشبه ثقافتنا» الثقافة اللبنانية الخالصة وإلا لقيل لها: إنّ معظم استهلاكنا الثقافي هو غربي المنشأ، وما بقي لنا ليس سوى القليل. وإنّما مقصودها الثقافة التي تنتمي إليها وهي الثقافة المليئة بالتصنيفات والتحيّزات والمتناقضات والنزوات التي تخطّت كل حدود العقل والفطرة الإنسانية. نعم، بهذا هي على حق. الثقافة المهدويّة التي فيها الحياء والعفة والتي يعبر المؤمنون داخلها مسالك النور نحو الأمل الأكبر، والمحمّلة بالخير المحض والسلام والعدل ومقاومة المستكبرين ومجابهة الطغاة وعدم الخنوع لشروطهم، لا تشبه ثقافتها حتماً.
السؤال الثالث، يستند إلى دعوى الخوف من الظاهرة وامتدادها السريع ومحمولاتها، لا الثقافية الدينية فحسب، بل السياسية أيضاً. بالمناسبة، لا أحد ينفي أنّ للأنشودة دلالات سياسية قوية. بل هي مليئة بالإحالات والإشارات والمعاني السياسية. الأنشودة تتحرّك ضمن مدار القضايا التي تدور في المنطقة والعالم، ولا سيما قضية فلسطين والاحتلال الإسرائيلي والهيمنة الأميركية. مَن أطلقها لم يُرد إظهار نموذج ثقافي مغاير فحسب يؤكد فيه على الهوية الإسلامية المهدوية ويعلن الاعتراض على الاختراقات التي تنتمي إلى الحرب الناعمة، بل إظهارها ضمن أدوات وأسلحة الحرب الصلبة وباعتبارها خطاب معركة في الوقت ذاته.
في التراث العالمي عدد كبير من الأعمال الموسيقية لبيتوهوفن وشوستاكوفيتش وغيرهما لاقت رواجاً واسعاً في أكثر من بلد حين تم استخدامها لمقاومة غزو ومواجهة عدو أو في سياق إلهام الجماهير لمواجهة أوضاع سياسية واجتماعية صعبة. شعبية أغانٍ مثل «بيلا تشا» (Bella Ciao) الإيطالية التي عُرفت من قبل حركة المقاومة ضد النازية لم تقتصر على الإيطاليين وحدهم. وأغنية «كاتيوشا» التي أُنتجت في الاتحاد السوفياتي السابق غنّتها شعوب عديدة وكان لها نسخ بلغات مختلفة وتحوّلت سريعاً من أغنية لشعب إلى أغنية لكل شعب يسعى لطرد الاحتلال. وهكذا أغنية «تشي غيفارا» التي كانت تنقل حمولاتها الثورية إلى شعوب الأرض التي تعيش حياة الظلم والاضطهاد. معظم هذه الأغاني تطوّرت حركة انتشارها وترسّخت مشروعيتها بسبب مضامينها التي يتفاعل معها كل مغبون ومحروم ومظلوم. الأرض الأولى كانت بؤرة انطلاق فقط، أمّا الأرض الأخرى التي ستحطّ فيها فلا يعرف مؤدّيها أو كاتب كلماتها عنها شيئاً. أصلاً، ليس هناك مرساة للأغنية ولا شاطئ للموسيقى. وأي شعب يمكن أن يرى في هذه الأغنية أو تلك وهذه المعزوفة الموسيقية وغيرها ما يؤكد ارتباطه بالوطن، أو يعزز انتماءه إلى هذه المجموعة الثورية، أو يمنحه رؤية جديدة للحياة، أو يكتشف من خلالها باباً للأمل. من حقه أن يحتفي بها ويغنيها بهدف تقوية الشعور الوطني والقومي أو إثارة الحماسة في صفوف الجنود المحاربين أو خلق شعور مجتمعي موحّد. أليس هذا هو منطق هذا اللون من الأغنيات في العالم ومن حولنا، فلماذا يتم تأمّل هذه الأنشودة بسادية غريبة؟ بيد أنّي أجزم أنّه لم تكن هناك اعتراضات على هذه الأغاني على الرغم من الصراع الإيديولوجي المحموم بين المعسكرين الشيوعي والليبرالي خلال ما يُعرف بالحرب الباردة. بل دخلت هذه الأغاني إلى كل بيت في لبنان بلا حركة سخط ونبذ وإقصاء وظل حضورها قويّاً والنظرة إليها إيجابية. إنّ كلمات أنشودة «يا مهدي» قريبة من أن تقول شيئاً شبيهاً لهذه الأغاني، شيئاً عن الحرية والكرامة والتضحية ورفض الظلم، وأن تنقل ما هو جوهري في الإنسان، وأن تشحن الجماهير بكل قوة منعاً للتلاشي والغرق في بحر الحضارة المادية، وأن تبحث عن مستقر لكل المستضعفين في العالم أمام هذا التيه الكبير، وأن تعكس قضية الإمام المهدي من خلال إدراك مباشر لفيض دلالاتها في هذا الوقت بالذات الذي يتحرك فيه العالم نحو السقوط، وتعاني فيه الشعوب من صراع المصالح وأخطاء المسالك وتناقضات الأفكار ومسارات الحروب العبثية.
اليوم وقد أصبحت الأنشودة حرّة أمام العين، يأتي السؤال إن كانت هي الخطر في الثقافة أو السياسة، أم ذلك الفن الذي يُسقط الإنسان في البهيمية ويقيّد أحاسيسه النبيلة وحركته العقلية الواعية، ما يمنع عليه اجتياز الحدود الثقافية والمعرفية السائدة وأنماط عيشه التي تدمر في داخله كل نور وإيمان وحكمة! «يا مهدي» صوت قاهر للمسافات. عابر للقارات والبحار. يملأ قلوب المتعبين بشيء من السكينة وصفاء الروح ويطوف بأرواح العاشقين حول كعبة الخلاص. ما يجري الآن ليس سوى أمواج الأمل تعلو وتتقدم، وليس سوى النور النحاسي الذي يخترق كتل الضباب والقهر والظلم بانتظار رجل موعود ينتشل هذا العالم الذي نراه جميعاً ضائعاً على الحافة ويطل على فراغ أخلاقي كبير!

* أستاذ العلوم السياسية
في الجامعة اللبنانية الدولية