إذاً، لم يكن انتخاب النقابي حنا غريب أميناً عاماً للحزب الشيوعي اللبناني، في أعقاب المؤتمر الحادي عشر، مجرد صدفة. ها هو يعاد انتخابه مرة ثانية بعد المؤتمر الأخير للحزب. الأمر الذي يجعلنا نبحث عن انتظام معيّن للأحداث التي طبعت مسيرة هذا الحزب - بخاصة في الآونة الأخيرة، أوصله إلى خيارات أقل ما تصفها الأوساط الحزبية نفسها بالانحراف اليميني.العارفون بحياة هذا الحزب الداخلية يستغربون كيف لهذا النقابي الذي كان زاهداً بمشكلات الحزب السياسية والتنظيمية (مقارنة برفاقه الآخرين في المكتب السياسي) والمتفرّغ كلياً للعمل النقابي أن يصبح الشخصية التي ستقود القوى اليمينية إلى فرض سيطرتها على أعرق الأحزاب اليسارية في المنطقة، في وقت أكثر ما تكون فيه حركة التحرّر العربية بحاجة إلى مثل هذه الأحزاب العقائدية.
ما من شك بأن شخصية غريب النقابية، التي كانت ترفع المطالب المعيشية الجامعة والمحقة لمصالح كل الفئات الاجتماعية، ساعدت على تلميع صورته في الأوساط الحزبية. إلا أنه لو تريّثنا قليلاً، ونظرنا نظرة نقدية لواقع الأمر، لوجدنا أن الحركة النقابية لم تحقق أية إنجازات مهمة في فترة قيادة حنا غريب لها. وإذا كان يحلو للبعض الاعتقاد أن معركة سلسلة الرتب والرواتب شكلت إنجازاً، فحري به أن يعلم أن رفع الأجور هو أسهل ما يمكن أخذه من البرجوازية. لأن باستطاعة هذه الأخيرة، وفي أية لحظة، استرداد هذه الزيادة وبطرق مختلفة. وهذا ما أظهره لاحقاً تطور الأحداث وصولاً إلى الانفجار المالي.
نعم، لقد خاض غريب ورفاقه صراعاً مريراً مع السلطة إعلامياً وخطابياً، لكن النتيجة لم تكن على حجم الجهد الذي بذل عملياً. إن أهم إخفاق له في العمل النقابي كان في عدم التشخيص الصحيح للعلاقة بين الاقتصادي والسياسي، أي متى يكون الشعار اقتصادياً ومتى يكون سياسياً، بخاصة أن الحزب الشيوعي في تلك المرحلة كان قد بدأ بانتهاج سياسة أدّت إلى فقدان كل صلاته بالأحزاب الأخرى. لا بل انتهج سياسة عدائية تجاهها بحجة أنها أحزاب السلطة، من دون أن يعير أي اعتبار إلى أن في الصراع توجد دائماً تناقضات رئيسية وأخرى ثانوية. ولعل الفضل في شعار «كلن يعني كلن» الفضفاض يعود إلى حنا غريب بالذات الذي كان هو أوّل من مارسه. وفي النهاية، لم تجدّد القوى النقابية لحنا غريب على رأس حركتها. وفي هذا الدليل على أن جماهير الحركة النقابية لم تكن جماهير حنا غريب نفسه أو حتى جماهير حزبه فقط. وهذا إن دلّ على شيء، فعلى أن الأحزاب، ومن ضمنهم أحزاب السلطة، تظل هي الرافعة الأساسية لأي عمل نقابي، وليس فقط في لبنان. وكلّنا يذكر كيف أن غريب شكّل بعد إخراجه من هيئة التنسيق النقابية التيار النقابي المستقل الذي فشل في إحداث أي فارق في العمل النقابي. فانكشف وحيداً، بخاصة في مرحلة الانتفاضة الأولى في 2016. لكن، رغم كل هذا، كوفئ حنا غريب على فشله النقابي بانتخابه أميناً عاماً، وكأنه أُريد من هذا الانتخاب أن يقضي على ما تبقى آنذاك في الحزب من تيار تحرري مقاوم.
لكن وصول غريب إلى الأمانة العامة ظل مكبلاً نوعاً ما بتوصيات المؤتمرين العاشر والحادي عشر وبتوجهات القيادة السابقة للحزب، التي، وبسبب طبيعتها البرجوازية الصغيرة، صبت جُلَّ اهتماماتها على التنظير لفكرة «الموقع السياسي المستقل» الذي من خلاله تكون مواقف الحزب. لكنه في واقع الأمر، كان هَمُ تلك القيادة الوحيد هو في إيجاد شعار ما، يميزها عن المقاومة الإسلامية لهدف التصويب المستمر عليها. فكان ذاك الشعار الكبير «المقاومة العربية الشاملة» و«تلازم التغيير الاجتماعي مع التحرر الوطني».
وعلى وقع الإخفاق العملي لهذه الشعارات الكبيرة، التي هي حق لكن يراد به باطل، تميّزت الولاية الأولى لحنا غريب باستمرار انسلاخ الممارسة السياسية للحزب الشيوعي عن الواقع الحقيقي للصراع. فليس بالشعارات فقط تمارس السياسية، إنما بالمواقف العملية. فمن جهة، أكثرَ الحزب بالكلام عن حروب الإمبريالية، ومن جهة أخرى لم يتبن أي موقف مؤيد للدول أو للمقاومات التي تخوض حرباً ضد الإمبريالية، لا بل كان الموقف معادياً لها. انتقد أزمة الرأسمالية في لبنان ولم يأخذ بأي موقف استراتيجي بالانفتاح على الدول الصديقة المجاورة للتمهيد لإيجاد نظام بديل عن الرأسمالية التابعة. لا بل أصبحت مواقف الحزب الشيوعي في الآونة الأخيرة انعزالية عن الواقع العربي ومنغلقة على الاهتمام بالشأن اللبناني فقط.
هكذا، تُرك الحزب الشيوعي ضائعاً من دون وحدة هدف قابل للتحقيق. أمّا عن الحياة الحزبية الداخلية، فإن فقدان الرؤية السياسية المقاوِمة والبعد عن اتخاذ الموقف الواضح والصريح المناهض للحرب الإمبريالية على المنطقة العربية جعلت الميول اليمينية تظهر أكثر فأكثر داخل هذا الحزب والتي زادت من حالة سقوطه الحر.
تميّزت الولاية الأولى لحنا غريب باستمرار انسلاخ الممارسة السياسية للحزب الشيوعي عن الواقع الحقيقي للصراع


وما يميّز أيضاً تلك الولاية المنصرمة هم رفاق حنا غريب في المكتب السياسي. هذا الجيل الجديد من الشيوعيين الشباب القياديين السابقين في اتحاد الشباب الديموقراطي وفي قطاع الطلاب. فالشباب عادة يتميّزون بالثورية وبالحس الوطني الغريزي الذي يجعلهم أكثر جذرية في مقاربتهم للأمور، لكن في الحالة التي وصل إليها الحزب أثناء هذه الولاية أصبح الشيوعيون الشباب أكثر عدائية تجاه قوى المقاومة، غير مدركين أن سبب إخفاقهم في تحقيق أي إنجاز في الداخل اللبناني مرده استحالة فصل مشكلات لبنان الداخلية عن مشكلة المنطقة في تصديها للاعتداء الاستعماري. لكن معظم الشباب الشيوعيين اليوم – وبفضل «ولاية غريب» ورفاقه، أصبحوا نتاجاً لعمل المنظمات غير الحكومية التي نخرت جسد الحزب والتي تعمل لمصالح خارجية وتحت تأثير التنظيرات الاقتصادية «اليسارية الليبرالية» لمفكرهم كمال حمدان (وغيره مثل غسان ديبة) الذي يدعو صراحة إلى مشاركة الشيوعيين مع قوى أخرى (يمينية طبعاً) بمتابعة تشييد البناء الرأسمالي الذي لم تنجح الطغمة المالية بإنجازه (راجع كتاب كمال هاني – «اليسار اللبناني في زمن التحولات العاصفة»). وهذا ما رأيناه مع انتفاضة 17 تشرين، حيث لم تعد تلك القيادة لتخجل من إقامة تحالفات مع قوى يمينية استمرّت من الانتخابات النقابية المختلفة حتى الانتخابات النيابية الأخيرة. وبالرغم من الطلب المتزايد من القواعد الحزبية لإجراء تقييم لدور الحزب في الانتفاضة استمرت هذه القيادة في التهرب من هذا الأمر حتى يومنا هذا.
لكن ذروة الانحراف اليميني كانت أثناء فترة التحضير للمؤتمر الثاني عشر وما تلاه من نتائج. فالشيوعيون لا يذكرون يوماً كانت تحاك فيه المكائد كما حيكت في هذا المؤتمر. لأن هذه القيادة كانت غير قادرة على إقناع الشيوعيين بصحة رؤيتها للأمور، وحتى غير قادرة على مواجهة صعوبات هذه المرحلة واتخاذ القرارات التاريخية. فلم يبق أمامها إلا استباحة النظام الداخلي. فوظفت الحياة الحزبية للمصالح الضيقة لأعضاء معينين من المكتب السياسي وشلّت عمل المؤسسات داخل الحزب، أهمّها الهيئة الدستورية التي أصبحت متآمرة وعاجزة عن البت بأية شكوى، حتى كاد الأمر أن يصل إلى المحاكم المدنية لولا التدخلات الحثيثة. لكن هذا لم يحل دون تنظيم حنا غريب لانقلابات وحملات تنسيب جماعية مخالفة للنظام الداخلي وعمليات تزوير لانتخابات المندوبين إلى المؤتمر في الكثير من الفروع، ناهيك عن إقالات غير شرعية لمسؤولي تنظيم في هيئات وسطى. والهدف من كل هذا هو تأمين العدد الأكبر من المندوبين المعادين سياسياً لخط المقاومة ليكونوا الثقل المؤثر في المؤتمر في عملية انتخاب اللجنة المركزية وبالتالي المكتب السياسي الجديد.
المشاركون في المؤتمر يقولون إن النقاش السياسي كان الغائب الأكبر فيه. لم يعكر صفو الجو «اليساري الليبرالي» سوى بعض المدخلات القليلة التي أشادت بصمود محور المقاومة... وكان الله يحب المحسنين. طبعاً، كان هناك معارضون لخط حنا غريب. لكن هذه المعارضة تميّزت بسوء إدارتها في كل هذه الفترة. مشكلتها كانت في موقفها الرمادي من القضية المركزية. فمن جهة، هي مؤيدة للمقاومة كخيار استراتيجي، لكنها أسيرة ربط هذا الخيار بالتغيير الاجتماعي الذي هو، واقعياً، مفهوم ملتبس ونظري وله مسار خاص وليس بالضرورة أن يكون متلازماً زمنياً مع عمل المقاومة. زد على ذلك، كانت هذه المعارضة تثق حتى اللحظة الأخيرة بأن حنا غريب - كون البعض ظلّ ينظر إليه كشخصية توافقية - سوف يتجه نحو التسوية ويضمن تمثيل الجميع في اللجنة المركزية. إلا أن غريب خدعهم وتنصل من الاتفاق ورتب عملية تصويت بحيث أتى من خلالها بالأشخاص المعارضين الأقرب إليه. الأمر نفسه حصل مع مجموعة «البلاتفورم» التي تمثّل «الثوار الأكثر يمينية». لم يفِ حنا غريب بوعوده الانتخابية تجاههم، ففاز من كان مقرباً منه. وهنا كانت المفاجأة الكبرى التي تفجرت فور انتهاء المؤتمر. فشباب الانتفاضة الذين نُسِّبوا إلى الحزب بهدف إحداث الثورة فيه ضد من سمّوهم «شيوعيي حزب الله والمستتبعين لمحور المقاومة»، سرعان ما اكتشفوا بأنهم كانوا ضحية وأدوات خديعة من مشغليهم الذين وعدوهم بتبوؤ مناصب قيادية في الحزب، لكنهم في واقع الأمر كانوا مجرد أعداد تم استغلالها. لهذا، كانت الاستقالات الجماعية التي أعقبت انتهاء المؤتمر خير دليل على تلك الأساليب غير الشرعية التي قامت بها هذه القيادة من أجل تأمين سيطرتها على نتائج المؤتمر.
بعد هذا الواقع المرير، أين أصبح الحزب الشيوعي الآن؟ هل سيُكتب لتيار اليسار الديموقراطي أن يُحكم السيطرة عليه بعد كل هذه السنين؟ لا شك أن القاعدة الشيوعية تعي الانحراف الذي ازداد قوة في حزبها. لكن، وكالعادة، تبقى للسلطات التنفيذية قدرة أسرع على التحرك من القواعد، الأمر الذي يضع هذه الأخيرة أمام مهمة صعبة. فالجهد المطلوب لاستعادة دور الحزب عليه أن يكون جباراً. على هذه القاعدة أن تتسلح بتاريخ حزبها العريق في نضاله ومقاومته. وفيها الكثير من الشيوعيين الحقيقيين الكادحين والصادقين الذين أعطوا أغلى ما عندهم لتحقيق مفهومهم للعدالة الاجتماعية. قد لا تكون جميع أحلامهم وأهدافهم قد تحققت، لكنهم لم يخونوا مبادئهم أبداً. إن تاريخ الحركات الشيوعية، مثلها مثل الكثير من الحركات اليسارية، يشهد أن كل الخيانات والانحرافات كانت تأتي من قياداتها على مستوى الأمناء العامين والمكاتب السياسية. ولعل الشيوعيين تأخروا في حسم الخلافات القديمة في حزبهم (منذ البيرسترويكا على الأقل) لهدف الحفاظ على وحدة الحزب. لكن وحدة الحزب الآن باتت تهدد وجوده كله. فما نفع وجوده منحرفاً؟ لقد آن أوان عزل هذه القيادة اليمينية. والشيوعيون بعد المؤتمر الأخير تم فرزهم. من المؤكد أن منهم من سيعيد تنظيمه بصيغة مختلفة، ومنهم من سيحاول تصويب البوصلة من الداخل. وهؤلاء متى بدأوا، سيندهشون من حجم الفساد المالي والسياسي المستشري داخل مؤسسات هذا الحزب الذي كان دائماً موضوع الاتهامات المتبادلة بين قياداته المتعاقبة، بحيث سيقف المرء مصدوماً ومتسائلاً: أين هم الحيتان الكبار خارج الحزب من الحيتان الصغار داخله؟
* كاتب لبناني